تطرح التحركات السياسية النشطة التي تشهدها الساحة الفلسطينية سؤالاً بات جوهرياً يتعلق بموقف الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن من حركة حماس التي تدير قطاع غزة.
والسؤال المباشر هنا يتعلق بالمعضلة التي وجدت إدارة بايدن نفسها في مواجهتها دون أي استعدادات للتعامل معها. فقد أدى نجاح المقاومة الفلسطينية ليس فقط في التصدي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وإنما في تحقيق انتصار نتج عنه زلزال سياسي في الشرق الأوسط ووصلت آثاره إلى البيت الأبيض، إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى قائمة أولويات تلك الإدارة.
وفي ظل التوحد الفلسطيني الواضح خلف فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، في مقابل الضعف وفقدان المصداقية شعبياً في السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس، أصبح من المستحيل الآن تجاهل حماس في أي حوار يخص الفلسطينيين وليس فقط يخص قطاع غزة.
معضلة التصنيف غير المنطقي
بدأت هذه المعضلة من الأساس منذ اللحظة التي أدرجت فيها الولاياتُ المتحدة حركةَ حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية على قائمة المنظمات الإرهابية، مما فتح الباب أمام فرض حصار كامل على قطاع غزة منذ عام 2007 وحتى الآن، فيما يصفه كثير من خبراء القانون الدولي والنشطاء الحقوقيين بأنه عقاب جماعي لأكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون في القطاع ويدفعون ثمن وجود حماس في تلك القائمة الأمريكية التي تعتبر بالأساس سلاحاً سياسياً هدفه دعم إسرائيل رغم أنها دولة الاحتلال.
وكانت منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً مدرجة ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، لكن اضطرت واشنطن في نهاية المطاف إلى التعامل معها بشكل مباشر مطلع تسعينات القرن الماضي ومن ثم توقيع اتفاقيات أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية التي اعتبرتها إسرائيل وواشنطن وباقي دول المنطقة والعالم الممثل الشرعي للفلسطينيين.
وفي الانتخابات الفلسطينية الأخيرة التي أجريت عام 2005، أصبحت حركة حماس شريكاً رئيسياً في السلطة الفلسطينية بعد أن انتخبها الفلسطينيون، لكن رفض إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس لنتائج تلك الانتخابات تسبَّب في الانقسام الداخلي بين الفلسطينيين؛ لتنفرد حماس بإدارة قطاع غزة رافعةً شعار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، بينما واصلت السلطة مسار المفاوضات مع الاحتلال.
هذه هي الصورة العامة التي مثَّلت خلفيةَ ما حدث خلال العقد الأخير وصولاً إلى المواجهة الأخيرة بين حماس والاحتلال الإسرائيلي والتوصل إلى وقف إطلاق النار القائم حالياً، استعداداً لمفاوضات عنوانها هدنة تحت مظلة حل الدولتين الذي أجبر انتصار غزة جميع الأطراف على الاعتراف بأنه الحل الوحيد المطروح حالياً لتجنب اندلاع الصراع المسلح مرة أخرى.
بوادر تغيير في الموقف الأمريكي
ونرصد مؤشرات التغيير في الموقف الأمريكي الحالي تجاه حماس من خلال تقرير نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عنوانه "موقف أمريكي جديد تجاه حماس يتشكل الآن"، أشار إلى احتمال بلورة شكل للعلاقة بين واشنطن وحماس في المستقبل القريب.
تحليل الصحيفة الإسرائيلية استند على دراسة كان مركز الأمن الأمريكي الجديد قد أعدها بالتعاون مع معهد بروكينغز عام 2018، وتقول إنها تدعو إلى "التكامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بصورة تدفع قدماً بحل الدولتين، ومنع الفصل الدائم بين هاتين المنطقتين الجغرافيتين".
واللافت أن هذ الوقت -الذي نشرت فيه الدراسة الأمريكية- كان يشهد محاولات الإدارة السابقة برئاسة دونالد ترامب دفن القضية الفلسطينية بشكل كامل من خلال صفقة القرن، وقطعت تلك الإدارة العلاقات الأمريكية مع السلطة الفلسطينية تماماً، وأغلقت القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية المحتلة، وأوقفت المساعدات للسلطة.
وبالعودة لتقرير "هآرتس"، نجد أن "أحد مُعدِّي تلك الدراسة هو هادي عمرو، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية"، الذي أرسلته إدارة بايدن إلى المنطقة خلال الحرب الأخيرة على غزة، حيث كان عمرو قد وصل قبل أسبوع إلى إسرائيل والتقى مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين ضمن جهود الولايات المتحدة لتثبيت وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.
وتقول الصحيفة إن الشيء المهم في تلك الدراسة هو "غياب تطلع وحلم التوصل إلى سلام شامل ونهائي بين الطرفين عن طريق التفاوض مع السلطة، بل إيجاد دمج بين غزة والضفة، وبين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، من أجل وقف طويل لإطلاق النار، ومنع مواجهة أخرى بين إسرائيل وحماس".
وتشجع الدراسة -حسب هآرتس- على المصالحة الفلسطينية الداخلية، وتزيد من حضور مؤسسات المساعدات الأمريكية ورجال الاتصال الأمريكيين في غزة، وتطالب إسرائيل برفع الحصار عن غزة، وإشراك حماس في عملية اتخاذ القرارات السياسية.
حماس رفضت التواصل مع إدارتَي ترامب وبايدن
لكن الكاتب السياسي المقرب من حركة "حماس" مصطفى الصَّواف لا يرى أن الإدارة الأمريكية غيّرت موقفها تجاه "حماس" وقوى المقاومة، ويضيف لوكالة الأناضول: "لا زالت (واشنطن) تعتبر قوى المقاومة قوى إرهابية طالما تدافع عن نفسها وشعبنا وتعمل على رد حقوق الشعب الفلسطيني".
وأشار الصواف إلى أن "إدارة بايدن حاولت التواصل بشكل غير مباشر، لكن حركة حماس رفضت"، مضيفاً: "صحيح هناك تغيُّر في الرأي العام (الأمريكي)، لكن لا يوجد تغيير في السياسة العامة للدولة".
ورغم استبعاد الصواف لتواصل الإدارة الأمريكية الحالية مع حماس بأي شكل من الأشكال، فإنه يرجّح تغييراً في التعامل مع الحركة، ويوضح: "الأمر مرتبط بالقوة، وإذا شعرت واشنطن أن حماس والمقاومة بَلغتا من القوة بمكان، قد تتواصل وتتلاعب وتحاول أن تحرف حماس عما تسعى له من أجل حماية الكيان (إسرائيل)".
مع ذلك ينوه بأن حماس تدرك ما تسعى له الإدارة الأمريكية "ولن تستجيب لو طلب منها ذلك (التواصل)، إلا بعد أن تكون قد امتلكت القوة التي يمكن أن تفرض وجهة نظرها على العالم، ومنه واشنطن".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020 قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري إن حركته رفضت حواراً مع الإدارة الأمريكية حول "صفقة القرن"، وأضاف أن الطلب الأمريكي (لم يحدد مقدمه) كان هدفه "شق الموقف الفلسطيني واستخدامه لتهديد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية".
تواصل حتمي مع حماس، لكن بأي طريقة؟
وعلى الرغم من سعي إدارة بايدن ومصر والأردن وإسرائيل إلى وضع السلطة الفلسطينية في صدارة المشهد خلال المفاوضات الجارية حالياً لتثبيت وقف إطلاق النار والتوصل لاتفاق هدنة، فإن استبعاد حماس من تلك المفاوضات هو بالتأكيد خيار لا يملك أي طرف أن يطرحه من الأساس.
وفي هذا السياق، أعلنت مصر أنها ستستقبل وفداً إسرائيلياً وآخر من السلطة وثالثاً من حماس لإجراء مفاوضات في القاهرة بشأن تثبيت وقف إطلاق النار وبنود الهدنة المقترحة.
وهذا ما أعلنه أيضاً إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أمس الأربعاء 26 مايو/أيار، بقوله إنه سيتوجه على رأس وفد من الحركة إلى القاهرة قريباً؛ لبحث عدة ملفات منها إعمار غزة، والوحدة الوطنية.
وقال هنية، في مقابلة تلفزيونية عبر قناة الجزيرة القطرية، إن وفداً من حماس برئاسته "سيزور مصر قريباً (لم يحدد تاريخاً)"، مضيفاً: "وسنبحث مع الأشقاء في القاهرة ملف إعادة إعمار غزة، والوحدة الوطنية، وتعزيز صمود الفلسطينيين، وكف يد الاحتلال (إسرائيل) عن القدس والمسجد الأقصى".
وفي الوقت نفسه كانت قناة "كان" الإسرائيلية الرسمية قد أعلنت أن مصر دعت كلاً من إسرائيل وحركة "حماس" والسلطة الفلسطينية إلى محادثات في القاهرة حول محاور، بينها ترسيخ وقف إطلاق النار الراهن، وتحسين الأوضاع في قطاع غزة.
وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إن وفداً مصرياً عقد خلال الأيام الأخيرة اجتماعات في إسرائيل ورام الله وغزة، لمناقشة مقترح مصري بشأن الملفات المطروحة، مضيفة أنه من المتوقع أن تجرى المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين بالقاهرة بشكل غير مباشر عبر الوسيط المصري.
وبحسب الصحيفة نفسها، فإن الولايات المتحدة أيضاً منخرطة في الاتصالات، حيث بحث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي وصل إلى المنطقة، الثلاثاء، الموضوع مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووزير خارجيته سامح شكري.
وقال الباحث والحقوقي الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة، معين عودة، للأناضول إن فكرة وجود علاقة مباشرة بين إدارة بايدن وحماس صعبة حالياً؛ "لأن حماس مصنفة منظمة إرهابية في واشنطن".
لكنه مع ذلك يقول إن الأمر "ليس مستحيلاً"، مشيراً إلى المفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان الأفغانية، المدرجة أيضاً على قوائم الإرهاب الأمريكية، ومع ذلك وُقّعت اتفاقيات وجرى وقف لإطلاق النار ثم انسحاب أمريكي من أفغانستان.
ويرى عودة أن الذي قد يرفض فكرة التواصل مع "حماس" هي السلطة الفلسطينية وأطراف عربية كالأردن ومصر وبعض دول الخليج، "مما قد يضطر الإدارة الأمريكية لإحداث توازن بين المحور الرسمي الفلسطيني وحماس".
الخلاصة هنا هي أن انتصار المقاومة الأخير على إسرائيل لم يُعِد فقط القضية الفلسطينية إلى وضعها الطبيعي كحجر الزاوية في إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، لكنه أيضاً حشر الإدارة الأمريكية وإسرائيل في الزاوية وجعل إلغاء التصنيف غير المبرر لحماس كمنظمة إرهابية مسألةً بديهية.