لم يكن أكبر ما خسرته إسرائيل في حرب غزة هو فقدان الردع مع حماس التي أصلت تل أبيب بالصواريخ، بل كان خسارة إسرائيل الكبرى في الحرب الثقافية.
وتحوَّل تشبيه إسرائيل بنظام الفصل العنصري إلى أمر شائعٍ أكثر من أي وقت مضى، لدرجة أن دولة تمارس تمييزاً ثقافياً ضد المسلمين مثل فرنسا، سارع وزير خارجيتها جان إيف لودريان، إلى تحذير إسرائيل من احتمال توافر مكونات "فصل عنصري"، فجُن جنون نتنياهو، وردّ بشكل عنيف تماماً، واستدعت تل أبيب السفير الفرنسي "ووبَّخته".
وبعد قبول وقف إطلاق النار بوساطةٍ مصريةٍ الأسبوع الماضي، أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بـ"إنجازٍ لم يحقِّقه أيُّ جيشٍ على الإطلاق"، في حملة القصف الإسرائيلية على غزة التي استمرَّت 11 يوماً. في الوقت نفسه، أعربت حماس، الجماعة الفلسطينية المُسلَّحة التي أطلقت أكثر من 4300 صاروخ على إسرائيل، في رد فعلٍ على ذلك، عن "نشوة النصر".
ولكن مهما كانت النتيجة العسكرية لحرب غزة، يبدو من المُرجَّح بشكلٍ متزايد أن الحساب النهائي لهذه الجولة الأخيرة من الصراع سيُحدَّد بعيداً عن ساحة المعركة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
عدد الضحايا الأطفال يخبرك بالحقيقة
تقول المجلة الأمريكية إنه ربما اختار نتنياهو الوقت الخطأ لشنِّ غاراتٍ جوية بإصرارٍ ضد واحدةٍ من أكثر المناطق كثافةً سكَّانية على وجه الأرض، حيث إن 50% من السكَّان تقل أعمارهم عن 15 عاماً. وبشكل أكثر تحديداً، ربما اختار اللحظة الثقافية الخطأ.
وعلى غرار الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، مثل عملية الجرف الصامد في عام 2014، فإن ما يقرب من 1 من كلِّ 4 قُتلوا في غزة لم يكن مدنياً فحسب، بل كان أيضاً طفلاً (66% من إجمالي 248 وفاة).
ومع ذلك، لم يغيِّر الجيش الإسرائيلي تكتيكاته ولم يضبط استخدامه للقوة، واستمرَّ في استعراض القدرات الجوية لقوةٍ عسكريةٍ عظمى ضد أبراجٍ شاهقة لسكَّان فقراء مُحاصَرين.
كان الاختلاف هذه المرة هو التعبير العنصري عن العنف، الذي أذن بتحوُّلٍ في تأطير الصراع، بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، في الوقت الذي يحدث فيه النقاش الأكبر عالمياً حول العنصرية النظامية.
جيل الشباب الجديد يرفض النظرة الغربية التقليدية للصراع العربي الإسرائيلي
النقاش حول العرق في إسرائيل وفلسطين لديه القدرة على اكتساب قوة جذبٍ بين جيل الشباب الذي يتحدَّى بلا كللٍ الأحكام الجاهزة السابقة بشأن القضايا العالمية؛ من تغيُّر المناخ إلى عدم المساواة الاقتصادية.
يشكِّل اليهود الأمريكيون الشباب قوةً حاسمة في هذه الرمال الثقافية المتحرِّكة، وهم يكافحون من أجل التوفيق بين وجهات نظرهم التقدُّمية بشأن السياسة والعرق من ناحية وأفعال إسرائيل من ناحيةٍ أخرى، ويتساءلون: "لماذا يعني الوطن الآمن لنا إخضاع الآخرين؟".
كما تقف الحركة العالمية، مثل حركة حياة السود مهمة، في تضامنٍ مع الفلسطينيين، فإنها تلفت الانتباه إلى النضال الأساسي والعالمي من أجل التحرُّر من العنصرية، حسبما ورد في تقرير Foreign Policy.
هذا الباب الجديد لمساءلة الحديث الإسرائيلي الرسمي قد غيَّر بالفعل المفردات في المحادثات داخل الولايات المتحدة حول الصراع بطرقٍ لافتة للنظر.
لماذا أحدثت صور الدمار ردود فعل حادة في هذه الحرب؟
بدأ البعض في الولايات المتحدة يتحدثون علناً عن كون إسرائيل نظاماً للفصل العنصري، حسبما ورد في مقال نشر بمجلة The American Prospect الأمريكية لسارة ليا ويتسون، المديرة التنفيذية لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، والمديرة التنفيذية السابقة لقسم شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة "هيومن رايتس ووتش".
في هذه الحرب، كما حروب إسرائيل على الفلسطينيين وقطاع غزة، تداولت وكالات الأنباء فيها صوراً لجثث أطفال متفحمة في غزة -59 طفلاً من بين 212 فلسطينياً على الأقل قتلهم القصف الإسرائيلي حتى يوم الإثنين 17 مايو/أيار- ولقطات لمبانٍ سكنية مدمرة ومحترقة وعائلات مفزوعة تفر من منازلها تحت وقع الغارات الإسرائيلية، لكن كل هذه المشاهد ليست جديدة، فقد شاهد العالم صوراً ولقطات كثيرة مثلها في كل حرب سابقة لإسرائيل على قطاع غزة و(لبنان).
تلفت سارة ويتسون إلى أن الجديد والمختلف نوعياً هذه المرة هو الانتقادات الثاقبة والحادة التي لا تلتمس أعذاراً لإسرائيل -ولا للسياسة الأمريكية التقليدية التي لطالما أمدَّت إسرائيل بمليارات الدعم العسكري السنوي غير المشروط على مدى العقود الماضية- التي ما تنفك تتسرب إلى الخطاب العام السائد وروايته حول الأحداث.
فقد بدأت هذه الانتقادات تشيع في أوساط مذيعين أمريكيين مشهورين إلى مراكز أبحاث في واشنطن، ومن قاعات الكونغرس الأمريكي إلى الاحتجاجات بشوارع بوسطن ونيويورك ولوس أنجلوس والعاصمة الأمريكية واشنطن وحتى ولايات مثل ميامي وبورتوريكو وكليفلاند وأوكلاهوما.
ويرى خبير استطلاعات الرأي جون زغبي، الذي لطالما عارض المواقف الأمريكية بشأن الشرق الأوسط، أن هذا التحول "جذري ومزلزل"، ويزيد تعاطف الأجيال الأصغر مع الفلسطينيين، وهذه الهوة العمرية أصبحت واضحة تماماً داخل الحزب الديمقراطي، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وفي الوقت الذي يعبر فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن عن وجهات نظر تقليدية، ويؤكد مراراً حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ حماس، يجد أن الأجواء الحزبية المحيطة به تعبّر عن قلقها، على أقل تقدير، من ظروف معيشة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وترى أن السياسات الإسرائيلية تزيد من مآسيهم.
عنصرية إسرائيل حفزت هذه التغييرات
أُحيطَ اندلاع الحرب بسلسلةٍ من الأحداث المشحونة بمحتوى عنصري في القدس وأماكن أخرى، حيث مداهمات الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى في أول وآخر أيام شهر رمضان وليلة القدر، وإطلاق قنابل الصوت والصواعق، وضرب الرصاص المطاطي في أحد أقدس المواقع الإسلامية، والتهجير القسري الوشيك للعائلات العربية في حي الشيخ جرَّاح بالقدس، والاشتباكات العنيفة بين مواطنين يهود وعرب في عدة مدن، مِمَّا يثير شبح "عمليات القتل الجماعي".
ولتنسيق الهجمات على العرب، أنشأ الإسرائيليون القوميون المتطرِّفون قنواتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل أسماءً مثل "الموت للعرب"، حسب Foreign Policy.
وورد أن الاعتداء الوحشي، الذي جرى في 12 مايو/أيَّار على رجلٍ عربي جُذِبَ وسُحِلَ من سيارته وهوجِمَ على يد حشدٍ من المتطرِّفين اليهود في إحدى ضواحي تل أبيب، قد نُسِّقَ عبر تطبيق تليغرام.
الأحداث سلطت الأضواء على أن إسرائيل تمثل نمطاً استعمارياً تقليدياً
سلَّطَت هذه الأحداث الضوء على مصدر ما يسمَّى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث الاحتلال على الطراز الاستعماري الذي لطالما سعت الرواية الإسرائيلية الرسمية إلى استبعاده.
ولكن الواقع أن إسرائيل تمثِّل القوة المحتلة للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة، حيث لاتزال تفرض حصاراً عسكرياً، على الرغم من إبعاد المستوطنين من القطاع عام 2005.
وداخل إسرائيل نفسها، يجري التمييز ضد المواطنين العرب على أسسٍ عرقية بطريقةٍ منهجية توصَف بشكلٍ متزايد بالفصل العنصري. والعدد الكبير من الاعتقالات ولوائح الاتهام ضد العرب بعد أحداث العنف الأخيرة بين العرب واليهود هو فقط مؤشِّرٌ أحدث على الأمر. وكما لاحظ الطبيب النفسي والفيلسوف فرانز فانون قبل 60 عاماً، فإن ما يفرز العالم الاستعماري هو حقيقة الانتماء أو عدم الانتماء إلى جنسٍ معين.
تباين هائل في الخسائر
ساعدت هذه الظروف الاستعمارية أيضاً في تفسير الاختلال الدراماتيكي في عدد القتلى (12 حالة قتل على الجانب الإسرائيلي مقابل 248 حالة في غزة). وليس من قبيل المصادفة أن إسرائيل محميةٌ بنظام القبة الحديدية (الذي منع 90% من الصواريخ المُطلَقة). وهذا التباين ليس صدفةً في التاريخ. إنه جزءٌ لا يتجزَّأ من الأصول الاستعمارية للصراع الذي يضمن عدم المساواة في المعاناة.
وبشكلٍ أكثر ملموسية، قدَّمَت الولايات المتحدة 1.6 مليار دولار على وجه التحديد لبطاريات القبة الحديدية، والصواريخ الاعتراضية، والصيانة، كجزءٍ من حزمة المساعدات البالغة 3.8 مليار دولار التي تقدِّمها سنوياً لإسرائيل والتي تذهب بالكامل نحو المساعدة العسكرية وغير مشروطةٍ بامتثال إسرائيل للمعايير القانونية الدولية الإنسانية.
تثير مواجهة واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين مزيداً من الأسئلة غير المريحة لإسرائيل، ليس أقلها الفحص الدقيق لأعدائها. إن جماعاتٍ مثل حماس يصفها البعض بأنها جهات قتالية وقمعية وليست حكومية وليست لها شرعية دولية.
لكن مقاتلي حماس يرتكزون إلى شرعية الوعد بالمقاومة العسكرية ضد الظالم، حسب تعبير الصحيفة الأمريكية.
في الوقت نفسه، فإن ظروف الاحتلال الوحشية تجعل من الصعب على أشكال المقاومة اللاعنفية التنافس مع الحركات المسلَّحة.
إسرائيل حاولت الاستفادة من الحرب على الإرهاب
كلُّ هذا سيئٌ بالنسبة للحكومة الإسرائيلية. على مدار عقدين من الزمان، تعزَّزَت الرواية الإسرائيلية الرسمية من خلال الخطاب الكاسح والخانق للحرب العالمية على الإرهاب، حيث صُوِّرَت إسرائيل بلا هوادة، على أنها ديمقراطية صغيرة وملتزمة تدافع عن نفسها ضد الغضب الذي لا يمكن تفسير لحركةٍ إرهابية إسلامية مزعومة مدعومة بدوافع معادية للسامية.
في عام 2020، أشارت إحدى الصحف الإسرائيلية البارزة إلى أن العامل المشترك بين حركتي حياة السود مهمة و#أنا_أيضاً هو الطريقة التي تُخضع أجساد السود والنساء للهيمنة من قِبَلِ آخرين.
هذا التركيز العالمي المتزايد على طرق تشكيل التجربة الإنسانية من خلال علاقات القوة، يقلب سردية نتنياهو ويلفت الانتباه إلى الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني الذي امتدَّ 54 عاماً.