كانت الوساطة المصرية في حرب غزة نقطة مفصلية في مسار نفوذ مصر بمنطقة الشرق الأوسط، وشكلت ذروة تغييرات تحدث ببطء في السياسة المصرية في الأشهر الأخيرة،
فلقد أعادت مصر، يوم الخميس 20 مايو/أيار، التأكيد على مكانتها بأنها وسيط لا غنى عنه في الشرق الأوسط، بعدما نجحت في التوسط على اتفاق وقف إطلاق النار في حرب إسرائيل وحماس قصيرة المدة لكن باهظة التكاليف، التي أسفرت عن مقتل العشرات وتدمير أغلب مناطق قطاع غزة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وجاء وقف القتال بوساطة مصرية في الساعات الأولى من صباح الجمعة 21 مايو/أيار، وأعلنت القاهرة أنَّ وفدين مصريين سيتوجهان إلى تل أبيب والأراضي الفلسطينية لمتابعة تنفيذ الاتفاق، وبالفعل أفادت تقارير بأن بأن الوفد الأمني المصري الذي تم إرساله للعمل من أجل دعم وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية وصل إلى غزة الجمعة للقاء قادة "حماس".
الوساطة المصرية في حرب غزة تكررت من قبل
وهذه أحدث حالة عملت فيها مصر وسيطاً بين إسرائيل وحركة حماس الحاكمة في غزة، اللتيين خاضتا أربع حروب خلال ما يزيد قليلاً عن عقد من الزمان. إضافة إلى ذلك، كانت مصر فاعلاً رئيسياً منذ سحبت إسرائيل قواتها من غزة عام 2005 وسيطرة حماس على القطاع عام 2007.
ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة التي استمرت 11 يوماً، عملت مصر على توفير إطار يمكن للجانبين الاتفاق عليه، وفقاً لمسؤولين دبلوماسيين. ولم يتضح على الفور ما هي شروط وقف إطلاق النار، لكن من المرجح أن يعزز نجاحه المصداقية الدبلوماسية لمصر..
ولكن تأثيرها مختلف هذه المرة
قال مايكل حنا، مدير البرنامج الأمريكي في مجموعة الأزمات الدولية: "بفعل موقعها الجغرافي وعلاقاتها بجميع الأطراف، تحمل مصر أهمية مميزة في القضية الفلسطينية وغزة خاصة. وبالطبع، هي تسعى لإظهار تأثيرها وأهميتها الإقليمية لجميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الولايات المتحدة".
ويمكن للدور الذي أسهمت به مصر في التوسط في الصراع أن يساعد في تحسين العلاقات المتوترة بين حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي والإدارة الأمريكية الجديدة.
وها هو بايدن يجري أول اتصال بالسيسي منذ توليه السلطة
وبالفعل، تحدث الرئيس جو بايدن للمرة الأولى يوم الخميس، 20 مايو/أيار، مع الرئيس المصري منذ انتخابه، بحسب مكتب السيسي، قبل ساعات من أنباء موافقة إسرائيل على الاقتراح المصري.
كما وجه بايدن الشكر للرئيس السيسي والمسؤولين المصريين في كلمته عقب الإعلان عن وقف إطلاق النار.
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والسيسي قد ارتبطا بعلاقة وثيقة، لكن إدارة بايدن أثارت مخاوف بشأن سجل الحكومة المصرية في مجال حقوق الإنسان.
وفقاً للبيت الأبيض، ناقش الزعيمان جهود وقف إطلاق النار في غزة واتفقا على أنَّ الزعيمين سيبقيان على اتصال وثيق. ومن المقرر أن يتحدث بايدن عن تطورات وقف إطلاق النار في وقت لاحق يوم الخميس في واشنطن.
وفي هذا السياق، قال مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إنَّ مصر يمكن أن تحرز تقدماً في علاقتها مع الرئيس جو بايدن ومع شعبها من خلال تعزيز صورتها على أنها صانعة سلام ومناصرة للقضية الفلسطينية.
ضربة للمنافسين الإقليميين
وقد يؤدي الفوز الدبلوماسي في غزة أيضاً إلى اكتساب مصر بعض التقدم في منافساتها الإقليمية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، التي تحركت في العام الماضي لإقامة علاقات مع إسرائيل.
وتفيد تقارير بأن القاهرة تشعر بالقلق من التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، لأنه يهدد دور القاهرة كوسيط بين العرب والإسرائيليين، ومكانتها لدى الغرب بسبب هذا الدور، كما أن توسع التطبيع الإماراتي الإسرائيلي يهدد دور مصر كقائدة ثقافية وحضارية للمنطقة في حال زوال حاجز العداء العربي لإسرائيل.
والأخطر من ذلك قلق القاهرة من مشروعات التعاون بين إسرائيل والإمارات في مجال النقل التي تمثل منافساً أو بديلاً لقناة السويس، إضافة إلى علاقة أبوظبي وتل أبيب الوثيقة مع إثيوبيا في وقت أصبح ملف النيل هو الشاغل الأكبر للقاهرة، وسط مماطلة أديس أبابا ورفضها لتوقيع اتفاق ينظم عملية تشغيل سد النهضة الإثيوبي المثير للجدل.
كما أن الزخم الذي ظهر في الوساطة المصرية في حرب غزة يأتي متزامناً مع المصالحة المصرية مع دولة قطر، وتهدئة مع تركيا شملت إجراء جولة من المفاوضات بين البلدين في القاهرة، والدوحة وأنقرة أبرز حليفين لحماس.
العلاقة بين حماس والقاهرة كانت دوماً مركبة
يُذكر أنَّ مصر خاضت أربع حروب مع إسرائيل بين عامي 1948 و1973. ولكن عقد البلدان اتفاق سلام في عام 1979 وطبّع العدوان السابقان العلاقات بينهما بعد الاتفاق، ومنذ ذلك الحين ازداد تعاونهما في القضايا الأمنية. وأشادت إسرائيل بحكومة السيسي لمساعدتها، وسمحت تل أبيب بدورها للقوات المصرية بمزيد من الحرية بالقرب من الحدود لقتال المسلحين في سيناء، في مخالفة للقيود التي وضعها اتفاق السلام على انتشار القوات المسلحة المصرية في سيناء.
أما علاقات القاهرة مع حماس فكانت دوماً معلقة بخيط رفيع، وذلك بالأساس بسبب الخصومة بين حكومة الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك ومن بعده الرئيس السيسي وبين حركة الإخوان المسلمين المصرية، والتي ينظر لها أنها تمثل مرجعية لحماس، رغم تأكيد الحركة الفلسطينية على عدم تدخلها في الشأن المصري.
ونتيجة لذلك إلى جانب إسرائيل، فرضت القاهرة حصاراً على قطاع غزة، وغالباً ما تصور وسائل الإعلام المصرية الموالية للحكومة حماس على أنها تهديد، رغم أنه حدث تقارب وتنسيق أمني بين البلدين منذ عام 2017.
ولكن العلاقة بين مصر وحماس معقدة، ومتشابكة، فرغم التوتر المشار إليه، كانت مصر وسيطاً بين حماس وإسرائيل عدة مرات؛ فقد عملت على وقف إطلاق النار في الصراعات الثلاثة السابقة بين حماس وإسرائيل وتهدئة الأزمات الأخرى مع إسرائيل.
ولكن في آخر حروب حماس وإسرائيل قبل المعركة الأخيرة، التي وقعت في عام 2014، كان الموقف المصري أكثر انتقاداً لحماس، ووجهت القاهرة وسائل إعلامها لمهاجمة الحركة الفلسطينية وهي منخرطة في القتال مع إسرائيل.
ولكن في الجولة الأخيرة، إضافة إلى الوساطة المصرية في حرب غزة بين حماس وإسرائيل، بدا الخطاب الإعلامي المصري مختلفاً، وحجم وطريقة التغطية للجانب الفلسطيني أكثر إيجابية، وحجم المساعدات وسرعتها كان لافتاً ومثيراً للدهشة بالنسبة لمنتقدي مواقف الرئيس السيسي من غزة.
تطبيع رسمي وجفاء شعبي
إضافة إلى ذلك، تتبع مصر خطىً حذرة مع مواطنيها الذين يعارضون بشدة سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين. وفي الوقت الذي يتعاون فيه المسؤولون المصريون والإسرائيليون بهدوء في مجال الأمن، نادراً ما تنتقد الحكومة إسرائيل بشدة في العلن، رغم أنها تسمح للشخصيات البارزة المتحالفة مع الحكومة أحياناً بالتنديد بإسرائيل أو تصويرها على أنها العدو في وسائل الإعلام.
ونفس الشيء ينطبق على الثقافة الشعبية. ففي العام الماضي، أثار مسلسل درامي مصري عن المستقبل، الذي تدور أحداثه في عام 2120، انتقادات من إسرائيل لتوقعه زوالها بحلول ذلك الوقت. وحظي المسلسل بموافقة الرقابة الحكومية. ومع تصاعد التوترات الأسبوع الماضي، أصدر مغنون مصريون أغنية بعنوان "نفديكي يا فلسطين" بأسلوب موسيقى الراب المليء بالمؤثرات التكنولوجية والمعروف باسم "المهرجانات". ولجأ العديد من المصريين كذلك إلى الشبكات الاجتماعية للتعبير عن تضامنهم مع غزة.
ولم تسمح الحكومة المصرية، التي تحظر أية احتجاجات، بمظاهرات مؤيدة للفلسطينيين. لكن خطابها الرسمي هذه المرة كان أكثر انتقاداً لإسرائيل؛ بدايةً من خطبة رئيس جامعة الأزهر السابق الدكتور أحمد عمر هاشم المقرب من الحكومة إلى تصريحات وزير الخارجية سامح شكري.
وكان الصراع الأخير في غزة قصيراً ولكن دموياً، إذ أسفر القتال عن سقوط ما لا يقل عن 230 فلسطينياً، من بينهم 65 طفلاً، وفقاً لمسؤولي الصحة في غزة، مقابل 12 قتيلاً في إسرائيل بصواريخ من غزة، بينهم طفلان.
في المقابل، تسببت صواريخ المقاومة الفلسطينية في شلل غير مسبوق في الحياة في مناطق عدة في إسرائيل من بينها تل أبيب أهم مدن الدول العبرية التي شعرت بوطأة الحرب بشكل غير مسبوق.
إلى جانب الدور المصري السياسي، تعهد السيسي بتقديم مساعدات بقيمة 500 مليون دولار لغزة لإعادة الإعمار، بالإضافة إلى تخفيف الحصار لإرسال سيارات الإسعاف والإمدادات إلى القطاع. ونُقِل عدد من جرحى غزة إلى المستشفيات المصرية لتلقي العلاج.
وقال حسام بهجت، مؤسس ومدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إنَّ المبادرة الفلسطينية الجديدة هي فرصة أيضاً للمطالبة بالإفراج عن الناشطين المصريين المؤيدين للفلسطينيين، رامي شعث ومحمد المصري، اللذين اعتقلا قبل عامين، ومحتجزين بدون محاكمة منذ ذلك الحين.
يُذكر أنَّ شعث والمصري من بين آلاف احتُجِزوا دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة في حملة قمع واسعة النطاق ضد الحريات الشخصية. ورامي شعث هو نجل نبيل شعث مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حسب الصحيفة الأمريكية.