جاء إعلان السودان أن إثيوبيا بدأت فعلياً في الملء الثاني لسد النهضة في بداية مايو/أيار، ليثير مخاوف من أن الأزمة قد وصلت إلى نقطة اللاعودة، وأن قدرة القاهرة والخرطوم على الضغط على أديس أبابا قد تنتهي بالنظر إلى أنه لن يمكنهما التلويح بقصف السد، خوفاً من حدوث فيضانات تغمر البلدين، وإن قبلا بالأمر الواقع قد يواجهان شحاً خطيراً في المياه.
وتأتي هذه الأنباء عن بدء الملء الثاني لسد النهضة، أبكر من المتوقع، إذ إن الملء الأول للسد أعلنت أثيوبيا عن انتهائه العام الماضي في 21 يوليو/تموز 2020، ولكن يبدو أنه في مواجهة التحركات المصرية السودانية عمدت أديس أبابا لبدء الملء الثاني في موعد أقرب، حتى يتسنى لها تفويت الفرصة على أي تحرك مصري سوداني.
خدعة إثيوبية
وسبق أن أبلغ وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي سيليشي بيكيلي مصر والسودان في رسالة رسمية وجهت إلى وزيري شؤون المياه في البلدين أن الملء الثاني لسد النهضة سيتم ما بين يوليو/تموز وأغسطس/آب 2021، وطالبهما بإرسال مراقبين لتبادل المعلومات.
كما قال رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد إنه "قبل التعبئة الثانية، ستقوم إثيوبيا بإطلاق المزيد من المياه من تخزين العام الماضي، من خلال المنافذ المنشأة حديثاً ومشاركة المعلومات"، وهو أمر لم يحدث حتى الآن بل بدأ الملء مبكراً عن المتوقع.
فلقد بدأت بالفعل الملء الثاني لسد النهضة في بداية مايو
وكان مصدر سوداني رفيع المستوى قد ذكر لوكالة رويترز الثلاثاء 25 مايو/آيار 2021، أن إثيوبيا بدأت المرحلة الثانية من ملء سد النهضة في الأسبوع الأول من مايو /أيار، في وقت تجري مصر والسودان مناورة في الأراضي السودانية تحمل اسم "حماة النيل"، والتي ينظر إليها البعض أنها وسيلة للضغط على أديس أبابا، بل قد تكون أداة للتغطية على أي عمل عسكري محتمل، خاصة خيار قصف سد النهضة.
ولكن الأنباء عن بدء الملء الثاني لسد النهضة، بدون اتفاق، لا تعني فقط، احتمالات مواجهة مصر والسودان أزمة مياه في وقت أبكر من التوقعات السابقة، بل قد تعني أيضاً أن فرص استخدام الخيارات العسكرية ولا سيما قصف السد على وشك الانتهاء أو أنها انتهت بالفعل، في وقت تبدو الحلول السياسية بعيدة عن أي وقت مضى.
وقال المسؤول بوزارة الري السودانية لرويترز: "إثيوبيا اتخذت عملياً قرار الملء الثاني لسد النهضة، وبدأت فعلياً المرحلة الثانية لملء السد ببدء حجز المياه منذ الأسبوع الأول في مايو/أيار 2021، عبر العمل في تعلية جدار السد الأوسط؛ مما يعنى حجز كميات من المياه". ولكنه قال إننا نتوقع أن يكون معدل التخزين أعلى في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب.
مصير النيل.. ثلاثة سيناريوهات تعتمد على معدل سقوط الأمطار
وكان وزير الري والموارد المائية المصري محمد عبدالعاطي، قد قال فيه إن هناك 3 سيناريوهات محتملة لمصر خلال الفترة المقبلة في حالة حدوث الملء الثاني لسد النهضة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشروق المصرية.
إذ قال عبدالعاطي، في مداخلة هاتفية على قناة تليفزيونية، إن السيناريو الأول متمثل في حدوث فيضان عالٍ مع وجود مناسيب آمنة في بحيرة السد العالي كافية لاستيعاب صدمة الملء الثاني لسد النهضة، والثاني حدوث فيضان متوسط والذي سيتم انتقاص منه كمية المياه التي ستخزنها إثيوبيا للسد.
أما السيناريو الأخير والأسوأ فهو تزامن حدوث الجفاف مع ملء سد النهضة، بحسب الوزير.
وأضاف قال إن ملء سد النهضة يعتبر صدمة؛ لأنه سينتقص من كمية المياه التي تأتي إلى مصر، خاصة إذا تزامن ذلك مع حدوث جفاف.
ولفت إلى اتخاذ مجلس الوزراء لأكثر من إجراء لمواجهة النقص في المياه، كتقليل مساحات الأراضي التي تتم زراعتها بالمحاصيل الشرهة للمياه، إضافة إلى إقامة محطات لمعالجة الصرف الزراعي ومحطات خفض وسدود حصاد أمطار، بجانب مشروع تبطين الترع.
وأشار وزير الري المصري إلى الآثار السلبية التي تعرض لها السودان بسبب التصرفات الأحادية لإثيوبيا خلال الملء الأول وما بعده، مضيفاً أن إثيوبيا تعتزم تخزين ما يقرب من 13.5 مليار متر مكعب مياه خلال الملء الثاني.
مخاطر الملء الثاني على السودان
"حياة وسلامة نصف سكان منطقة النيل الأزرق مهددة جراء خطوة الملء الثاني لسد النهضة".
هكذا قال وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس، الأحد الماضي، خلال لقاء سابق مع مبعوث مفوض الاتحاد الأوروبي الخاص وزير الخارجية الفنلندي، بيكا أولافي هافيستو.
وشرح الوزير مخاطر تنفيذ إثيوبيا لوعيدها بالبدء في الملء الثاني لسد النهضة بصورة أحادية ، من غير اتفاق أو تبادل معلومات.
الملء الثاني لسد النهضة يهدد السودان بخطر كبير/رويترز
وذكر أن القرار الإثيوبي يؤثر بشكل مباشر على سد الروصيرص السوداني وعلى كل الحياة على النيل الأزرق خلف سد الروصيرص، بما في ذلك توليد الكهرباء من خزان الروصيرص وسد مروي، ومحطات مياه الشرب على النيل الأزرق والنيل الرئيسي حتى مدينة عطبرة في شمال البلاد.
كما شرح الوزير التأثير السلبي الذي ستحمله هذه الخطوة على مشاريع الري على النيل الأزرق والنيل الرئيسي، وفوق كل ذلك تهديد حياة وسلامة نحو نصف سكان السودان على ضفاف النيل الأزرق، حسب قوله.
هل يعني الملء الثاني للسد أنه فات أوان العمل العسكري؟
ليس هناك تحليل من جهة عسكرية مصرية أو سودانية متخصصة يتحدث عن تداعيات قصف السد على البلدين، وهل يؤدي إلى حدوث فيضانات مدمرة لهما أم لا.
ولكن الرواية المصرية والسودانية المحذرة من بناء السد تركز دوماً على احتمالات انهياره جراء أخطاء في تصميمه وتقول إن هذا سوف يؤدي إلى فيضانات مدمرة بالنسبة للسودان وقد تمتد لمصر.
وسبق أن حذر خبير السدود المصري أحمد الشناوي من أن هناك كارثة محدقة بمصر والسودان على حد سواء جراء سد النهضة، إذ قال إن المنطقة التي يتم بناء سد النهضة الإثيوبي عليها هي "منطقة فوالق"، مؤكداً أنه "لا يجب أن يتم بناء السدود عليها من الأساس".
وقال الشناوي لوكالة "سبوتنيك": إن حالة الغمر الشديد والمفاجئ أو حالة التسريب الجانبي الناجم عن ضغط التخزين، يمكن أن تحدث انهيار السد بصورة مفاجئة مما يتسبب فى كارثة تتجاوز إثيوبيا إلى السودان بجنوبه وشماله ثم إلى داخل صعيد مصر"، حسب قوله.
يعني هذا الكلام أن انهيار السد بسبب أخطاء التصميم سيكون له أضرار كارثية على السودان وصعيد مصر، بينما يجب ملاحظة أن الفيضانات المحتملة لن يكون لها تأثير كبير على إثيوبيا؛ لأن السد مقام على الحدود مع السودان وفي إقليم إثيوبي نائٍ مهمَّش بالأصل.
ماذا سيحدث للسودان ومصر إذا تم تدمير سد النهضة بعد الملء الثاني؟
ويقود هذا إلى استنتاج أنه في حال تعرُّض السد لضربة جوية أدت إلى إضعافه ثم انهياره فإن هذا سيكون له آثار كارثية على السودان (مشابهة للآثار المحتملة للانهيار جراء خطأ التصميم)، وقد يحتمل أن تمتد الآثار إلى صعيد مصر، وقد يكون لها تأثير على السد العالي.
بطبيعة الحال لا يمكن تقديم تقدير دقيق لحجم الفيضانات الناتجة عن مثل هذا الانهيار المحتمل إذا تم الملء الثاني، علماً أن السد سيحتجز بعد الملء الثاني نحو 18 مليار متر مكعب من المياه.
يقول البعض إنه في حال انهيار السد، لن تندفع كل هذه المياه للسودان، بل جزء منها فقط، بينما سيُحتجز جزء كبير خلف ما سيتبقى من جسم السد، ولكن هذا الاحتمال لن يغير من الواقع شيئاً، إننا أمام كارثة محتملة حتى لو أن هناك خلافاً في التقديرات حول حجمها.
ويجب ملاحظة أن النيل الأزرق الذي يحجز سد النهضة مياهه، هو نهر شبه موسمي، لأن الأمطار في إثيوبيا تتساقط بالأساس في موسم الصيف، وبالتالي فإن أي عملية لقصفه وتدميره يفترض أن تتم في بداية الصيف قبل امتلاء النهر خلف السد بالمياه، حتى لا تسبب الفيضانات في تخريب السودان وصعيد مصر، أما بعد بدء الملء الثاني لسد النهضة (وهو الملء الأساسي)، فإن المياه ستكون محتجزة خلف السد طوال العالم وليس الصيف فقط، وقد يعني هذا أن الملء الثاني لسد النهضة هو بمثابة نقطة اللاعودة بالنسبة لخيار قصف السد، والذي قد يصبح شبه مستحيلاً بعدها.
وسبق أن قال الإعلامي والأكاديمي المقرب للسلطة في مصر معتز عبدالفتاح إن قصف سد النهضة بهدف تدميره يمكن أن يؤدي إلى إطلاق ما وصفه بـ"تسونامي نهري" جراء انطلاق المياه في موجة فيضان مدمرة يصل ارتفاعها إلى حوالي 25 متراً، وهذه الموجة العالية ستهدد السودان وقد تطيح بسد الروصيرص السوداني، وستصل المياه إلى مصر خلال 17 يوماً بعد أن تكون دمرت شمالي السودان، وقد تنتقم إثيوبيا من السودان ومصر، حسب قوله.
والسيناريو الآخر، بحسب معتز، هو "الضرب الجزئي للسد"؛ حيث تقوم الطائرات بضربة محدودة في جسم السد لتحدث "ثقب" يتدفق منه الماء، وبالتالي تخسر إثيوبيا ولا تضار مصر والسودان، وسيكون حافز أديس أبابا –للانتقام الشامل ضد سد الروصيرص السوداني والسد العالي أو غزو السودان- أضعف في هذه الحالة، حسب قوله.
ولكن هناك احتمال أنه في حال كان هدف الغارة الجوية المفترضة مجرد تعطيل السد أو إحداث ثقب به، دون تدميره، فإن هذا لن يكون له فاعلية؛ لأن إثيوبيا سوف تواصل حجز المياه وتستطيع ترميم وإصلاح السد.
وحتى في حال قيام مصر والسودان بضغوط عسكرية أو أمنية أو استخباراتية بعيداً عن ضرب السد نفسه، فإن إثيوبيا ستصبح بعد الملء الثاني في وضع أقوى وقادرة على الرد على الدولتين عبر التحكم في كمية المياه التي سوف تصرفها عبر السد، والتي لن تكون في الغالب حسب احتياجات أديس أبابا المائية، بل حسب أغراضها السياسية المحلية والخارجية، والتي يبدو أنها بلا حدود حتى الآن.
فمن الواضح أن أزمة سد النهضة والنزاع مع مصر والسودان أداة مفضلة في يد رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد لتوحيد شعبه المنقسم، وضرب المعارضة، وتعزيز حكمه الاستبدادي، ومع تزايد الاضطرابات في البلاد (خاصة بعد انكشاف فظائع حرب تيغراي)، وتلويحه بتأجيل الانتخابات، وبعد الملء الثاني لسد النهضة فإنه سيصبح في وضع أقوى للتلاعب بورقة السد لإظهار قوته أمام شعبه في مواجهة مصر والسودان.
خط أحمر انتُهك من قبل
على المستوى السياسي والمعنوي أيضاً، فإن ملء السد الأول كان خطاً أحمر، سمحت مصر والسودان لإثيوبيا بانتهاكه دون رد فعل يذكر، ولكن فيما يتعلق بالملء الثاني نجح البلدان في خلق حالة من التعاطف المحلي والعربي والدولي معهما، وبات العالم ينظر لإثيوبيا على أنها الجانية وأن مصر والسودان لهما الحق في رد فعل ما، وبالتالي أصبح العالم مهيَّأ لعمل عسكري مصري أو مصري سوداني مشترك، حتى لو قوبل بالرفض أو الإدانة.
ولكن خرق إثيوبيا للخط الأحمر الجديد بملئها الثاني لسد النهضة، دون رد فعل مصري سوداني، من شأنه تبديد حالة الزخم للقضية، وأن يتراجع تقبل العالم لأي تصعيد مصري سوداني لاحق ضد أديس أبابا.
هل فقدت مصر والسودان فرصتهما الأخيرة؟
من الصعب الجزم بإن مصر والسودان، قد خسرتا فرصتهما الأخيرة لقصف السد بعد بدء إثيوبيا للملء الثاني، لأن كمية المياه المحتجزة خلف السد حتى الآن قد تكون غير كبيرة على الأرجح (علماً بأن هناك كميات مخزنة من العالم الماضي)، لأن الأمطار تكون قليلة في بداية موسم الصيف في إثيوبيا وتزداد خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، الأمر الذي قد يعني أن خيار قصف السد يحتمل أنه قد أصبح صعباً وأكثر خطورة ، ولكن في الأغلب لم ينتهِ تماماً.
إلا أن الأكيد أنه كلما مر الوقت ازدادت صعوبة هذا الخيار، ومخاطره على البلدين، وقد يصبح مستحيلاً خلال فترة زمنية قصيرة، فترة تحسب بالساعات والأيام، وليست حتى الأسابيع.