رغم دعوة فرنسا لوقف إطلاق النار في غزة، وإعلانها مبادرة إنسانية ثلاثية مع مصر والأردن في القطاع، فإن التحرك الفرنسي في أزمة غزة الحالية يبدو أقل مما هو متوقع من باريس، التي تعد تقليدياً أكثر الدول الأوروبية حماساً للقضية الفلسطينية.
وقال الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون، أمس الأول الإثنين، إنه سيعمل مع الرئيس المصري والعاهل الأردني لطرح اقتراح محدد لوقف إطلاق النار، وفتح مسار محتمل لإجراء محادثات بين إسرائيل والفلسطينيين.
ولكن يبدو التحرك الفرنسي في أزمة غزة الحالية أقل زخماً وحماساً من مواقف فرنسا التاريخية تجاه القضية الفلسطينية.
موقف فرنسا التاريخي
فمنذ أن اتّخذ الرئيس الفرنسي شارل ديغول قراره التاريخي بعد احتلال إسرائيل للأراضي العربية 1967 بوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة، وعلى رأسها طائرات ميراج الشهيرة، التي لعبت دوراً أساسياً في انتصار تل أبيب على العرب في هذه الحرب، وأصبح ينظر لباريس باعتبارها أكثر الدول الأوروبية اعترافاً بالحقوق الفلسطينية، وإلى حد كبير من أقربها للعرب.
وكانت مواقف الرئيسين الفرنسيين، الاشتراكي فرانسوا ميتران، واليميني الديغولي جاك شيراك واضحة في هذا الاتجاه، حتى إن الأخير نهر رئيس وزرائه الاشتراكي ليونيل جوسبان عام 2000، عندما وصف جوسبان خلال زيارة له في الشرق الأوسط حزب الله بأنه منظمة إرهابية، وتعرّض للقذف بالحجارة في جامعة بيرزيت الفلسطينية.
سر ضعف التحرك الفرنسي في أزمة غزة الحالية
كان يتوقع أن يعزز وصول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون التوجهات الفرنسية المؤيدة للقضية الفلسطينية، لأن الرجل رفع خلال حملته الانتخابية شعارات ليبرالية، تدعو للعدل والانفتاح والتصالح مع المهاجرين والإسلام.
ولكن ما حدث أن المسلمين في فرنسا تعرضوا خلال السنوات الماضية لتضييق كبير على حرياتهم، وبات واضحاً أن سياسات ماكرون تقوم على منافسة اليمين المتطرف على أصوات الناخبين المعادين للمسلمين، علماً أن نسبة كبيرة من مسلمي فرنسا، ومن بينهم منظمات يهاجمها ماكرون الآن قد انتخبته.
هذه السياسات لم تُثر العداء للمسلمين والعرب في فرنسا فقط، بل أضعفت اليسار الفرنسي المتعاطف تقليدياً مع القضية الفلسطينية، بل إن هذا اليسار أصبح عرضة لهجمات اليمينيين، وبات يتم وصف الدوائر العلمية الفرنسية التي تحاول بحث القضايا الإسلامية بإنصاف بأنها يسار إسلامي.
ومن الواضح أن هذه السياسات بدأت تنعكس على السياسة الخارجية الفرنسية، التي أصبحت تعتمد بشكل كبير على التحالف مع الأنظمة الاستبدادية العربية، الأشد مغالاة في العداء لتيارات الإسلام السياسي المعتدل مثل الإمارات.
وها هي تنعكس على التحرك الفرنسي في أزمة غزة الحالية وموقف باريس من القضية الفلسطينية برمتها.
فلقد قدَّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجمعة 14 مايو/أيار 2021، تعازيه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في ضحايا إسرائيليين سقطوا نتيجة قذائف أطلقت من غزة، دون إدانة اعتداءات الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين العزّل في القطاع.
وأفاد بيان الإليزيه، بأن ماكرون جدد التزام فرنسا الراسخ بأمن إسرائيل و"حقها" في الدفاع عن النفس وفقاً للقانون الدولي، وأنه أدان قصف حركة حماس والفصائل الفلسطينية صواريخ على إسرائيل، علماً أن ماكرون لم يستنكر الاعتداءات الإسرائيلية في اتصاله الهاتفي، مع نظيره الفلسطيني محمود عباس.
مظاهرات تأييد فلسطين مسموح بها في أمريكا وممنوعة في باريس
أما المفارقة الكبرى، فإن أمريكا، البلد الذي يُعرف بالتأييد الأعمى لإسرائيل، تشهد مظاهرات في العديد من المدن رفضاً لقصف غزة، ونحو 75 من الأعضاء الديمقراطيين بمجلسي النواب والشيوخ ينتقدون سياسة بلادهم في الأزمة.
في المقابل، فإن فرنسا بلد الحريات فرضت حظراً على تنظيم الاحتجاجات التضامنية مع فلسطين، وذلك بدعوى تجنب تكرار أعمال الشغب والعنف التي رافقت أحداثاً مماثلة في العاصمة باريس قبل سنوات.
حتى أن الشرطة الفرنسية قمعت، السبت 15 مايو/أيار 2021، مظاهرة لعشرات المتظاهرين الذين تجمعوا في العاصمة الفرنسية باريس، للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ما أثار حالة من الفوضى بشوارع باريس.
وطبقت الشرطة في العاصمة الفرنسية تعليمات "التشتيت المنهجي والفوري" فور محاولة المتظاهرين التجمع باستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، وأفاد صحفيون بوقوع صدامات بين المتظاهرين والشرطة في شمال العاصمة الفرنسية.
وهتف المحتشدون "فلسطين ستحيا، فلسطين ستنتصر"، وكانت مجموعة من نحو مئة شخص في جادة باريس تردد "إسرائيل المجرمة".
وقال محامو جمعية الفلسطينيين في المنطقة الباريسية إن "فرنسا هي الدولة الديمقراطية الوحيدة التي تحظر هذه المظاهرات"، حسبما ورد في تقرير لموقع فرانس 24.
تراجع موقف فرنسا له تأثير مضاعف
لا يمكن إنكار وجود موقف فرنسي إيجابي يسعى لتحقيق وقف إطلاق نار في غزة، إضافة إلى اتفاق زعماء فرنسا ومصر والأردن على تدشين مبادرة إنسانية في قطاع غزة، بعد قمة ثلاثية ضمت ماكرون مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حضرها افتراضياً الملك عبدالله عاهل الأردن.
ولكن يلاحظ ضعف لافت للدور الفرنسي مقارنة بدور باريس التاريخي، وهو ضعف له تأثير مضاعف بالنظر إلى أن فرنسا هي الدولة الغربية الكبرى التي كانت عادة تأخذ مواقف متوازنة في الصراع العربي الإسرائيلي، دور كان يحاول التوازن مع الانحياز الأمريكي.
في المقابل، فإن التراجع الفرنسي في تأييد القضية الفلسطينية يقابله تعالي أصوات أمريكية تطالب بمراجعة سياسة واشنطن تجاه إسرائيل، وكذلك فتور في حماس الإدارة الأمريكية في تأييد تل أبيب.
ولكن استياء إدارة بايدن من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ورثته من أوباما، وظهور أصوات كثيرة في الحزب الديمقراطي تطالب بموقف أمريكي أكثر توازناً، لا يغير واقع أن الولايات المتحدة في المحصلة بتركيبتها السياسية هي مؤيدة بالكامل لإسرائيل في كل الأحوال.
رغم ذلك يلاحظ أن خطاب إدارة بايدن حتى لو منع إدانة إسرائيل في مجلس الأمن لم يدن حماس بقسوة، كما وعلى خلاف الموقف الفرنسي، قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إن "إسرائيل لديها مسؤولية لحماية المدنيين مع الاحتفاظ بالحق في الدفاع عن نفسها"، وألمح إلى رفضه لتدمير إسرائيل للبنايات التي تحوي مكاتب إعلامية في غزة.
كما كان لافتاً أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قال إن الوضع في القدس من تصعيد إسرائيلي ضد الفلسطينيين، هذا العام، يلقي بظلاله على المسلمين في كل مكان، بل إن بايدن أشاد بالنائبة الديمقراطية ذات الأصول الفلسطينية رشيدة طليب، بعد أن انتقدت طريقة تعامله مع الأزمة قائلاً: "أنا معجب بذكائك وشغفك وتعاطفك، أحترم قلقك على أهلك"، مضيفاً: "وأصلي لأن تظل جدتك وأسرتك بخير"، وتابع: "سأعمل لسلامة أهلك بالضفة، أنت محاربة، وأشكر الله على ذلك".
نحن أمام رئيسين متناقضين، فماكرون رئيس أسهم في تبديد إرث بلاده الإيجابي تجاه القضية الفلسطينية، بينما بايدن رئيس محاط بإرث طويل من التأييد الأعمى لإسرائيل يحاول التخفف منه، ولكن لا يريد أن يتحداه.
في المقابل، كان الأوروبيون دوماً أقل حساسية في نقد إسرائيل، وأكثر قدرة وفاعلية على دعم الفلسطينيين ولو دبلوماسياً فقط، وكانت فرنسا تقود هذا التوجه، لأن حساسيات ألمانيا التاريخية تجاه اليهود تمنعها من القيام بذلك.
موقف فرنسا انعكس على أوروبا بمجملها
ولكن اليوم تتراجع فرنسا عن هذا الدور، ويتصاعد اليمين بلونيه المتطرف وشبه المتطرف في أوروبا، مثلما هو الأمر في المجر وإيطاليا، وحتى فرنسا.
وحتى بلد مثل اليونان كان لديه علاقات تاريخية مع العرب أصبح حليفاً لإسرائيل، نكاية في تركيا، وبحثاً عن مصالحه في شرق المتوسط.
وأصبح الجانب المؤيد للحقوق الفلسطينية في أوروبا تقوده دول صغيرة مثل أيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا، وبات واضحاً أن موجة العداء للعرب والمسلمين التي يستغلها ساسة اليمين الأوروبي قد انتقلت من شوارع العواصم الأوروبية إلى أروقة السياسة الدولية.
ورغم أنه لا يمكن وصف فرنسا بأنها منحازة لإسرائيل كالنمسا والمجر، فإنها في السابق كانت تقود التيار الأوروبي المؤيد الأكثر تفهماً ولا نقول تأييداً للحقوق الفلسطينية.
والنتيجة أن أوروبا فشلت في إصدار بيان مشترك حول الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، لأن الفيتو المجري حال دول نشره.
المفارقة أن هذا يأتي في وقت تحاول فيه أوروبا ادّعاء زعامتها الأخلاقية للعالم، باعتبارها جنة الليبرالية الموعودة، والحقيقة أن أوروبا، وخاصة فرنسا بضعف موقفها تجاه القضية الفلسطينية، تفقد آخر أرصدتها الأخلاقية، التي بدأت تتساقط منها منذ أن تركت بعض دول القارة اللاجئين يغرقون في البحر المتوسط، ثم جعلت هذه الدول الغنية المهاجرين البسطاء خصماً لها، فأصبحت تقيم لهم محاكم تفتيش لإضعاف هوياتهم الدينية والثقافية.
الغريب أن ماكرون الذي جاء وصوله للحكم كردّ فعل على التطرف اليميني المناهض للعولمة ورفض التنوع الثقافي، والذي انتقد في بداية حكمه سياسات إيطاليا بترك المهاجرين يغرقون في البحر، قد أعطى هذه السياسات اليمينية شرعية، عبر خلقه أزمة داخلية في فرنسا حول ما يسميه الانفصالية الإسلامية، وتحوله من الدعوة للسماح بتوسيع الحريات الدينية لمسلمي فرنسا إلى التضييق على ما تبقى منها.
وهكذا شرعن ماكرون لشكل من أشكال الترامبية الفرنسية، أو دعنا نصفها بالماكرونية التي يمكن القول إنها ترامبية متدثرة بالعلمانية والليبرالية، ليبرالية تمنع التظاهرات وتصوير رجال الشرطة أثناء قمعهم المظاهرات وارتداء المرأة لما تشاء، وأخيراً منع الناس من إدانة العدوان الإسرائيلي.
المفارقة أن الولايات المتحدة التي خرجت لتوها من معركة الانتصار على الترامبية، تبدو رغم استمرار دعمها السياسي اللامحدود لإسرائيل أكثر ليبرالية في السماح لمواطنيها وسياسييها في التعبير عن دعمهم للشعب الفلسطيني وانتقاد إسرائيل.
وهكذا بينما تتحرك المظاهرات في شوارع نيويورك وشيكاغو دعماً للقضية الفلسطينية فإنها تقمع في باريس، في مؤشر أن الترامبية وجدت لها في عاصمة النور موطناً بعد هزيمتها في أمريكا.