يطرح الغضب العارم تجاه عدوان إسرائيل على قطاع غزة والقمع الوحشي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل الخط الأخضر، شكوكاً عميقة حول جدوى التطبيع الذي بدأته الإمارات العام الماضي.
فالمعارضة العلنية لإسرائيل من خلال الاحتجاجات في الشوارع، وعلى منصات التواصل الاجتماعي وفي أعمدة الصحف، تأتي بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاقيات لإقامة علاقات مع إسرائيل، مما يُعقِّد جهود الحكومات التي سعت إلى تعبئة المواطنين العرب من أجل القبول بتلك الصفقات، بحسب تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
وركز التقرير بشكل خاص على الموقف الشعبي داخل دول الخليج العربي، وبخاصة الإمارات التي فتحت الباب على مصراعيه أمام التطبيع مع إسرائيل، وكيف أطلقت إراقة الدماء الفلسطينية في قطاع غزة العنان للكثير من الأصوات التي تنتقد إسرائيل بشدة وتدعم الفلسطينيين دون مواربة.
مأزق التطبيع مع إسرائيل
ورصد تقرير الوكالة آراء محللين قالوا إنّ الصراع المشتعل حالياً سيعيق الجهود الإسرائيلية لإتمام المزيد من صفقات التطبيع مع الدول العربية الأخرى، ومنها المملكة العربية السعودية.
وقد وضعت تلك الانتقادات الحكومات العربية التي وقعت المعاهدات مع إسرائيل في موقفٍ صعب أمام شعوبها، إلى جانب تأكيدها على أنّ القضية الفلسطينية ما تزال لها جذورها العميقة لدى شعوب الشرق الأوسط ككل.
وقال المحلل السياسي الإماراتي عبدالخالق عبدالله للوكالة الأمريكية: "بغض النظر عن أولوياتك الوطنية أو الإقليمية في اللحظة الحالية، حين تحدث أمورٌ مثل هذه؛ تعود القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد".
ومع ذلك، فإنّ الدعوات المفتوحة التي أعرب عنها عددٌ لا يُحصى من مواطني الخليج لحقوق الشعب الفلسطيني وإدانة إسرائيل جاءت لتعكس التصريحات الرسمية من حكوماتهم على نحوٍ كبير، حيث أدانت جميع الحكومات العنف بطريقةٍ أو بأخرى.
لكن بعض الحكومات قطعت شوطاً أكبر من غيرها، وجاء بيان الإمارات خالياً من أي انتقاد لإسرائيل بل "دعا طرفي الصراع لوقف إطلاق النار"، وقال عبدالخالق عبدالله للوكالة إنّه كان يأمل لو أن بيان الإمارات الأخير الذي دعا "جميع الأطراف" لوقف إطلاق النار كان أكثر جرأة ووصف إسرائيل بأنّها المعتدي.
انتقاد إسرائيل ودعم الفلسطينيين علانية
وأصبح أمراً عادياً الآن أن يعبر مواطنو الخليج علانية عن رأيهم في التطبيع في تحد مباشر للروايات الرسمية التي صدرت عندما بدأ موسم التطبيع صيف العام الماضي على لسان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ففي البحرين، وقّعت جماعات المجتمع المدني خطاباً يحث الحكومة على طرد السفير الإسرائيلي، وفي الكويت، أقام المحتجون تظاهرتين، ويُطالبون بتصاريح لإقامة المزيد من التظاهرات. وفي قطر، سمحت الحكومة للمئات بالتظاهر نهاية الأسبوع أثناء إلقاء زعيم حماس لخطابه. وفي الإمارات، ارتدى البعض الكوفية الفلسطينية علانية على إنستغرام، بينما كتب آخرون تغريدات في الوسوم الداعمة لفلسطين.
وكان تطبيع الإمارات العام الماضي قد مهّد الطريق أمام ثلاث دول أخرى -البحرين والسودان والمغرب- لإعلان اتفاقيات مماثلة سريعاً مع إسرائيل، وفور تطبيع الإمارات علاقاتها مع إسرائيل في سبتمبر/أيلول، انطلقت عاصفةٌ من الدعاية الحكومية من أجل صياغة التطبيع على أنّه تمهيدٌ لعصرٍ جديد من السلام والتسامح الديني والأمن في المنطقة.
ووسط الرأي العام الإماراتي، لم تكن هناك أي معارضة ظاهرة تقريباً من المواطنين لإعلان حكومتهم إقامة علاقات مع إسرائيل، بل إنّ الشخصيات الوطنية الشهيرة على تويتر، ممن يمتلكون عشرات الآلاف من المتابعين، قد هلّلوا للاتفاقية بشدة. كما أنّهم عكفوا خلال الصراع القائم على الدفاع عن العلاقات مع إسرائيل والسخرية من المحتجين الفلسطينيين.
لكن عدم الاحتجاج في دول الخليج لا يعني القبول بالوضع الراهن كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، بحسب تعبير الوكالة الأمريكية، ففي الإمارات، تُعتبر الأحزاب السياسية محظورة، كما تتعرّض كافة أشكال التعبير السياسي لقمعٍ شديد.
بينما قال عبدالله للوكالة: "إنّ الدعم الذي شهدناه في الأيام الأولى للتطبيع، أعتقد أنّه يُمثّل مفهوماً أعمق في المجتمع الإماراتي… وهو أنّ الغالبية العظمى من الدعم الظاهر كان دعماً للحكومة، وليس دعماً للتطبيع في حد ذاته".
الحرب على غزة أسقطت القناع
وقالت ميرا الحسين، طالبة الدكتوراه الإماراتية في جامعة كامبريدج، للوكالة الأمريكية إنّ الإماراتيين يشعرون بالرعاية والتقدير من حكومتهم التي تمنحهم شبكات أمان اجتماعية قوية: "لكن ذلك لا يعني ارتياحهم لما يحدث حولهم".
إذ غيّرت ميرا اسمها على تويتر دعماً للفلسطينيين منذ اندلاع القتال، واستغلت المنصة لانتقاد السياسات الإسرائيلية وتسليط الضوء على فظائع الحرب، وعلّقت على التطبيع مع إسرائيل قائلةً: "لن تُوقّع على أوراق وتتوقّع أنّ الكارثة الإنسانية ستختفي بين ليلةٍ وضحاها".
وعلى مرّ السنين، شهدت المناهج الدراسية في مدارس الخليج الكثير من التغييرات، حيث حلّت الهوية القومية التي تجمع الناس حول العالم في محل المُثل العربية والإسلامية.
حيث أوضحت الباحثة في معهد Arab Gulf States Institute بواشنطن كريستين سميث ديوان أنّ الإمارات كانت تُحاول صياغة الخطاب العام حول القومية ورفض الحركات الشبابية والإسلامية: "أعتقد أنّ العلاقة مع إسرائيل كانت تُعتبر وسيلةً لترسيخ تلك الأفكار أكثر. ولا أعلم كيف سينجح هذا الآن".
بينما قالت ميرا إنّ شقيقها الأصغر، وهو في العشرينيات من عمره، لم يدرس الصراع العربي-الإسرائيلي قط في المدرسة: "لكنه بدأ يعرفه للتو اليوم من الشبكات الاجتماعية".
وبالنسبة لملايين العرب، فإنّ الشبكات الاجتماعية هي المكان الوحيد الذي يُمكن فيه التمتع بحرية تعبيرٍ محدودة، ومنذ اندلاع الحرب، غمرت المستخدمين صور الأطفال الفلسطينيين الضحايا أثناء انتشالهم من تحت الأنقاض التي خلفها القصف الإسرائيلي على غزة.
كما غمرت المنصات صور قوات الاحتلال وهي تطلق قنابل الصوت والغاز على المصلين والمحتجين في المسجد الأقصى بالقدس، والعائلات الفلسطينية التي تُصارع قرارات طردهم من منازلهم في حي الشيخ جراح، والاحتجاجات الدامية بطول الضفة الغربية المحتلة.
وتسبب عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 10 مايو/أيار في استشهاد أكثر من 220 فلسطينياً على الأقل، بينهم 61 طفلاً و36 امرأة، بينما جُرِح أكثر من 1,440 شخصاً. وفي المقابل، تقول إسرائيل إن الصواريخ التي أطلقتها فصائل المقاومة من القطاع أسقطت 12 قتيلاً، بينهم جندي.
وقال بدر السيف، الأستاذ الجامعي الكويتي، للوكالة الأمريكية إنّ عدم التناسب الكبير في هذا الصراع هو ما دفع العديد من الناس في الخليج إلى الحديث: "ليشعر الإسرائيليون بالأمان، يجب أن يشعروا بقبولهم. وهذا الشعور بالقبول لن يكتمل بدون التعامل مع القضية الفلسطينية أولاً".
بينما قالت الباحثة السعودية المقيمة في بريطانيا مضاوي الرشيد، وهي من أشد منتقدي الحكومة السعودية، إنّه بالرغم من قمع المملكة الكبير للنشطاء الذين يُؤيد غالبيتهم حقوق الفلسطينيين؛ فإنّ الغضب الذي أظهره الكثيرون على الإنترنت يكشف الفجوة الكبيرة بين خطوات القيادة السعودية الحذرة من أجل التقرب لإسرائيل وبين المشاعر العامة في الشارع: "وهذا يظهر أنّه رغم سنوات من تبنّي الخطاب التطبيعي في وسائل الإعلام الرسمية السعودية، فإنّ نبض الشارع لم يتحوّل فعلياً عن القضية الفلسطينية".