أدت الأزمة في فلسطين خاصة القدس وغزة والتي امتدت إلى قلب إسرائيل إلى التفات صانع القرار الأمريكي والرأي العام هناك إلى المنطقة مجدداً بعد أن بدا أنها سقطت تماماً من الاهتمامات الأمريكية.
فرغم أن إدارة بايدن، مثل إدارة أوباما لا تبدو أنها مرتاحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلا أنها غيري مستعدة لممارسة أي ضغوط عليه لوقف جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين وازدرائها للشرعية الدولية والاتفاقات بين الجانبين، بل يبدو ان هذه الإدارة، لا تريد تكرار محاولة أوباما الفاشلة لإحياء عملية السلام.
وبما أن إدارة بايدن توجه تركيزها الأساسي نحو التصدي للنفوذ الصيني، ولم يعد يهمها في الشرق الأوسط إلا أمن إسرائيل، بما في ذلك معالجة أزمة الملف النووي الإيراني، فيبدو أنها اختارت التجاهل كسياسة أساسية تجاه الشرق الأوسط بأكمله وخاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، خاصة بعد أن بدأ أهمية هذا الصراع تخبو حتى بالنسبة للعرب.
ويبدو أنَّ أحداً لم يتوقع هذا الصدام العنيف المفاجئ، الذي انتقلت آثاره لكل العالم، وأثبتت القضية الفلسطينية أنها أصعب من أن يتم تجاهلها.
فقد انتقلنا في غضون أيام من الاحتجاجات والاضطرابات على مستوى الشارع في القدس الشرقية إلى القصف الصاروخي الكبير لإسرائيل والغارات الجوية الإسرائيلية في غزة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ومع دخول المواجهة يومها السابع، اعتبر الإسرائيليون أن التطور الميداني في هذه الجولة العسكرية يهدد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، فلم تعد أي بقعة جغرافية آمنة في إسرائيل، الأمر الذي قد يعيد النظر بصورة الدولة العبرية النمطية، التي ترسخت في الوعي الإسرائيلي والإقليمي والدولي بأنها دولة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
ويبدو عودة الاهتمام الأمريكي من القضية نابع في الأغلب ليس من المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، بقدر ما هو نتيجة تعرض أمن إسرائيل لهذا التهديد غير المسبوق.
ولكن هذا لا يمنع ظهور توجهات في الولايات المتحدة تنتقد إسرائيل ولو بقدر خفيف.
زعيم اليسار الأمريكي يدعو بايدن لفرض وقف إطلاق نار
وفي هذا الإطار، دعا المرشح السابق لانتخابات الرئاسة الأمريكية السيناتور عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز، إلى ضرورة وقوف أمريكا مع "حقوق الفلسطينيين" وحياتهم مثلما تدعم حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، مشيرا إلى أن حكومة بنيامين نتنياهو اتبعت سياسات "عنصرية" ضد الفلسطينيين على مدار السنوات الماضية، حسبما نقل عنه موقع شبكة "سي إن إن" الأمريكية.
وتطرق ساندرز في مقال نشره في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، وأثار جدلاً واسعاً، للعبارة الأمريكية التقليدية "إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها" التي يرددها الساساة الديموقراطيون والجمهوريون على حد سواء كلما تعرضت إسرائيل لهجوم صاروخي من قطاع غزة، ورغم تأكيده على هذا الحق للحكومة الإسرائيلية تساءل السيناتور الأمريكي: "لكن ماذا عن حقوق الفلسطينيين؟".
ودعا ساندرز(وهو يهودي) الإدارة الأمريكية إلى فرض "وقف إطلاق نار فوري" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولفت إلى أنه ورغم أن إطلاق حركة حماس الصواريخ نحو إسرائيل أمر غير مقبول، حسب تعبيره، إلا أن هذه الصواريخ لم تكن الشعلة الحقيقية للأزمة، مؤكداً أن السبب الحقيقي هو محاولة "إخلاء" سكان حي الشيخ جراح والذي يمثل ثمرة استراتيجية لتهجير سكان هذا الحي منذ سنوات.
ورأى السيناتور الأمريكي أن "إخلاء" حي الشيخ جراح من سكانه "جزء من نظام أوسع يتسم بالاضطهاد السياسي والاقتصادي"، منتقدا التغلغل الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية والحصار المفروض على سكان غزة، ومشيرا إلى أن لدى 70% من سكان غزة الشباب أمل ضئيل بالحياة.
وفي الوقت نفسه، أكد السيناتور الأمريكي أن كل تلك الممارسات لا تبرر الهجوم الصاروخي لحماس التي استغلت التوتر في القدس وفشل السلطة الفلسطينية، التي وصفها بـ"الفاسدة"، في إجراء الانتخابات التي طال انتظارها، لكن رغم ذلك تبقى إسرائيل الدولة ذات السيادة على تلك الأرض و"بدلا من التمهيد للسلام والعدالة، سعت لترسيخ سيطرتها غير العادلة وغير الديموقراطية"، حسب تعبيره.
جدل بين النخب الأمريكية
مجلة Foreign Policy الأمريكية، عرضت حواراً بين اثنين الباحثين الأمريكيين يمثلان تيارين مختلفين بالسياسة الأمريكية، حول ما يجب أن تفعله، إدارة بايدن مع القضية الفلسطينية، وهل تواصل تجاهلها أم تحاول حلها، وهل محاولات الحل مفيدة لهذه الإدارة أم مضرة لها؟
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن إيما آشفورد، الزميلة البارزة بمبادرة الانخراط الأمريكي الجديد بمركز سكوكروفت للأمن والإستراتيجيات التابع للمجلس الأطلسي خاضت مع ماثيو كروينينغ، نائب مدير مركز سكوكروفت للأمن والإستراتيجيات التابع للمجلس الأطلسي، نقاشاً مطولاً حول هذا التصاعد الأخير للأحداث وتأثيره المحتمل على أولويات إدارة جو بايدن في السياسة الخارجية.
هل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم تعُد له أولوية؟
يرى كروينينغ أنَّ هذه الجولة من العنف هي الأسوأ، لكن مع ذلك يجب أن يُوضَع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في سياقه المناسب، وهو أنَّه لم يعد ببساطة أولوية عليا في الأجندة الدولية مثلما كان الأمر قبل عقدين من الزمن.
ويقول "إنَّ الشرق الأوسط أصبح مسرحاً لـ"اقتصاد القوة" بالنسبة للولايات المتحدة (أي أنها تسعى لتوفير جهدها في هذه المنطقة) في ظل توجيه اهتمامها إلى منطقة المحيط الهندي والهادئ، فضلاً عن أنَّ "اتفاقات أبراهام" تُظهِر أنَّ بإمكان إسرائيل التوصل إلى سلام مع جيرانها العرب دون حل المشكلة الفلسطينية أولاً، كما أنَّ السياج الأمني ومنظومة القبة الحديدية الإسرائيليين يُظهِران أنَّ إسرائيل فعَّالة للغاية في الدفاع عن نفسها، حسب قوله.
وعلى حد تعبير كروينينغ: "من الواضح أنَّ هذه الأزمة مهمة لإسرائيل والفلسطينيين، لكنَّ هذا أصبح صراعاً صغيراً في بلد صغير. وعلى عكس ما كان الحال في الماضي، باتت التداعيات الجيوسياسية الأكبر (لهذا الصراع) أقل".
من جانبها، تعتقد آشفورد أنَّ الأزمة الحالية جاءت مفاجئة لإدارة الرئيس جو بايدن، وليس المحللين والمتابعين فقط، وأنّ الإدارة قد اتبعت بصورة متعمدة نهجاً غير تدخليّ تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأنَّها قدَّرت أنَّها لم تعد قضية عالمية مهمة.
لكن الواقع أن أمريكا تتحمل المسؤولية لأنها الداعم الأول لإسرائيل
وفي حين تتفق آشفورد مع الإدارة في تقديرها هذا، فإنَّها تقول إنَّ "أمريكا لا يمكنها التظاهر بأنَّها ليست منخرطة هناك بالفعل. نعم، هذا صراع صغير في بلد صغير، لكنَّ واشنطن تُسلِّح وتدعم طرفاً واحداً سياسياً! لقد أمضت الولايات المتحدة سنواتٍ تُسلِّح إسرائيل وتتجاهل القضايا السياسية، كل ذلك في الوقت الذي أصبح فيه الوضع الفلسطيني لا يُطاق وفي الوقت الذي انتهى فيه أي أمل لحل الدولتين".
وترى أنَّ اتفاقات أبراهام التي رعاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب– فضلاً عن الشيء الغريب المُسمَّى خطة السلام أو صفقة القرن- قد أضفت الصفة الرسمية على هذا الوضع. من ثَمَّ، تُحمِّل آشفورد الولايات المتحدة جزءاً من المسؤولية في هذه الأزمة وتقول إنَّ عليها أن تساعد في حلها.
يتحفظ كروينينغ على ذلك بعض الشيء، ويقول إنَّ الولايات المتحدة استثمرت طاقة ضخمة في محاولة حل هذا الصراع لعقود، وفي حين أنَّ إحباط الفلسطينيين أمر مُتفهَّم، فإنَّه لا يبرر العنف، حسب زعمه.
تتفق آشفورد في هذا الجزء الثاني، لكنَّها ترى أنَّ الغارات الإسرائيلية تقتل المدنيين أيضاً، وبالتالي فإنَّ إدانة العنف المُرتَكَب من جانب طرف واحد فقط لا يساعد الولايات المتحدة في إيجاد حل سياسي.
السياسة الإسرائيلية هي السبب الأكبر للمشاكل، هيومان رايتس وصفتها بـ"الأبارتيد"
ووفقاً لآشفورد، فإنَّ محاولة حل هذا الوضع تحتاج إلى تحديد المشكلات الجوهرية أولاً، وأولى هذه المشكلات في نظرها هي أنَّ السياسات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة كانت السبب الأكبر في خلق الأزمة الحالية.
وأضافت: "أدَّى السماح للمستوطنين اليهود بالاستيلاء على الأراضي في المناطق التي كانت تقليدياً مناطق فلسطينية وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية إلى وضعٍ وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش مؤخراً بأنَّه شكل من أشكال الفصل العنصري (الأبارتيد). بالنسبة لي، يبدو أنَّ الولايات المتحدة بإمكانها، ويجب عليها، أن تضغط على الحكومة الإسرائيلية لتحسين هذا الوضع".
تمييز فاضح في حق العودة
يزعم كروينينغ أنَّ الفلسطينيين لديهم مظالم مشروعة، وأنَّ سياسات إسرائيل، بما في ذلك عمليات إخلاء العائلات الفلسطينية في القدس، قد أثارت غضب الكثيرين. ويضيف: "لكنَّ هذه السياسات قانونية، حتى لو كانت مثيرة للجدل، لذا لا أرى كيف أنَّها (تسببت) في إطلاق الصواريخ. تستحق حماس بوضوح معظم اللوم عن إراقة الدماء". ويرى كذلك أنَّ الولايات المتحدة والمجتمع الدولي اتخذا خطوات كبيرة لمحاولة مساعدة الفلسطينيين على مدار عقود، بما في ذلك جهود فاشلة للتفاوض من أجل إقامة دولة فلسطينية ومساعدات للتنمية، ولم يعد يعتقد أنَّ لدى الولايات المتحدة خيارات واضحة لحل المشكلة.
ترد آشفورد على هذا الكلام بالقول إنَّ عمليات الإخلاء من حي الشيخ جراح أصبحت مثيرة للغضب بالنسبة للكثير من الفلسطينيين تحديداً، لأنَّ القانون الإسرائيلي لا يمنحهم حقوقاً. وتضيف: "فاليهود يمكنهم استعادة الأراضي التي تعود إلى ما قبل عام 1945، لكن لا يمكن للفلسطينيين في كثير من الأحيان المطالبة قانوناً بالأرض التي يعيشون عليها اليوم".
وتقول آشفورد إنَّ المسألة مسألة حقوق سياسية، فالفلسطينيون لا يملكون حق تقرير مستقبلهم ولا يمكنهم في كثير من الأحيان العمل أو العيش في سلام، وهذه وصفة لاستمرار الاضطرابات.
وترى آشفورد أنَّ خطة ترامب للسلام كانت "مهزلة". إذ تعهَّدت الخطة علناً بحل الدولتين، "في حين أنَّها منحت في الحقيقة معظم الضفة الغربية للمستوطنين الإسرائيليين، تاركةً للفلسطينيين بقايا دولة صغيرة مُحاطة بإسرائيل وخاضعة لسيطرتها". وتقول إنَّ ذلك لم يكن مفاجئاً بالنظر إلى أنَّ من أعدها كان هو جاريد كوشنر، صهر ترامب الذي يتمتع بعلاقات شخصية وثيقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكنَّ الخطة "لم تكن حتى محاولة للتصرف كوسيط نزيه في هذه الحالة".
موقف دول الخليج من فلسطين
بدورها، تنتظر آشفورد أن ترى كيف ستتفاعل دول الخليج مع هذه المسألة. إذ كان اتفاق السلام بين دول الخليج وإسرائيل مبنياً، بحسب آشفورد، على افتراض من جانب دول الخليج بأنَّ القضية الفلسطينية لم تعد مهمة سياسياً بشكل خاص.
وتضيف آشفورد "أعني بهذا أنَّ الدول الخليجية كانت تعتقد أنَّ القضية لم تعد مهمة سياسياً من الناحية الداخلية، أو بعبارة أخرى، لم يعد سكانهم، الذين كانوا تاريخياً داعمين للغاية للقضية الفلسطينية، يكترثون.
وأردفت قائلة سنرى في الأسابيع المقبلة إن كان ذلك هو الحال أم لا، في ظل بث لقطات قصف المباني والجثث على شاشة الجزيرة على مدار الساعة.
وتقول إنَّه إذا ما انتهى الأمر باضطرار دول الخليج لتغيير رأيها في إسرائيل، فلا تلومن حكومة نتنياهو إلا نفسها على رفع التوتر إلى النقطة التي كانت الاشتباكات معها حتمية. فمسألة الإخلاء كانت تغلي ببطء منذ وقت طويل. في الواقع، أجَّلت المحكمة العليا الإسرائيلية جلستها بشأن القضية خوفاً من تأجج التوترات. وأضافت: "لكنَّ الشرطة الإسرائيلية بالغت في رد فعلها على الاحتجاجات، وقمعها في القدس الشرقية كان أكثر عنفاً بكثير مما هو مطلوب. أعني أنَّها استخدمت قنابل الغاز لتطهير مسجد خلال الصلوات في رمضان. هذا أمر مُهيِّج. لم تكن الحيلولة دون خروج التوترات عن السيطرة أمراً صعباً".
يجب على بايدن إيجاد حل على غرار يوغسلافيا وأيرلندا الشمالية وهذا مفيد له
وتقول آشفورد: "أدَّت الاتفاقات التاريخية ومؤخراً السياسات الإسرائيلية إلى خلق وضع توجد فيه مجموعة كبيرة من الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم والمُبتَلين بالفقر يعيشون عملياً داخل أراضٍ تسيطر عليها إسرائيل. وأضافت: "الحل ليس في مزيد من العنف. بل في إيجاد حل سياسي، مثلما ساعدت واشنطن في يوغسلافيا وأيرلندا الشمالية".
وهنا يلفت كروينينغ إلى أنَّ الدعم السياسي المحلي في الولايات المتحدة لإسرائيل يبقى عالياً، فوفقاً لاستطلاع رأي أُجري مؤخراً، يتعاطف الأمريكيون مع الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين بفارق 40%. بالتالي "لن يكون من الذكاء سياسياً بالنسبة لبايدن أن يلوم نتنياهو على هذه الأزمة".
وترد آشفورد بأنَّ أغلبية اليهود الأمريكيين تدعم حل الدولتين، وتدعم فرض ضغوط أمريكية لحل الأزمة، ومستعدة لتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية للتوصل إلى اتفاق. وتضيف: "بينما أتفهَّم أنَّ الإدارة (الأمريكية) الجديدة لا تريد إنفاق رأس مال سياسي على فلسطين وإسرائيل، فإنَّني أعتقد أنَّ هذه في الواقع قد تكون خطوة ذكية، فهي (خطوة) تحظى بشعبية سياسياً، وتُظهِر للعالم أنَّ بإمكان أمريكا ممارسة الدبلوماسية وليس فقط استخدام القوة العسكرية".