تأتي رياح الذكرى الـ73 لنكبة فلسطين، والتي تصادف السبت 15 مايو/أيار من كل عام، بما لا تشتهى السفن الإسرائيلية.
فقبل أسابيع من حلول الذكرى، تفجّرت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية كافة.
وتسببت الانتهاكات الإسرائيلية في مدينة القدس -والتي تصاعدت بداية شهر رمضان (13 أبريل/نيسان الماضي) وخاصة في منطقة "باب العامود" والمسجد الأقصى ومحيطه، وحي "الشيخ جراح"، إثر مساعٍ إسرائيلية لإخلاء 12 منزلاً من عائلات فلسطينية وتسليمها لمستوطنين إسرائيليين- في إطلاق شرارة الأحداث.
وتمكن المقدسيون من فرض إرادتهم على إسرائيل، حيث أجبروها على إلغاء ترتيبات أمنية فرضتها في باب العامود، وإجبار القضاء على تأجيل النظر في طرد سكان الشيخ جراح.
كما نجحوا في إلغاء مسيرة كان يعتزم المستوطنون تنظيمها داخل البلدة القديمة؛ احتفالاً بذكرى احتلال القدس.
ولاحقاً، انتقل التوتر إلى قطاع غزة، حيث اندلعت جولة قتال ضارية بين حركة حماس والفصائل الفلسطينية، وإسرائيل.
كما انفجرت في وجه تل أبيب، احتجاجات الفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية، والذين أبدوا تضامناً واسعاً مع إخوانهم في القدس وغزة.
أما في الضفة الغربية، فقد هبّ الفلسطينيون في مواجهات وتظاهرات يومية، تضامناً مع إخوانهم في غزة.
وسريعاً، تفاعل الفلسطينيون المقيمون بالخارج، وكذلك العرب والمسلمون، مع الأحداث.
ويؤكد خبراء ومحللون سياسيون، أن ما يجري، أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية بشكل كبير، وأظهر عجز إسرائيل -رغم قوتها وإمكانياتها الهائلة- على تطويع الفلسطينيين.
كما رأوا أن من أهم تداعيات ما يجري، إثبات فشل إسرائيل في تقسيم الفلسطينيين وزرع الشقاق بينهم.
كما تؤكد الأحداث، فشل إسرائيل في تطويع الشعوب العربية والإسلامية، واقتيادها نحو "التطبيع المجاني"، حيث أبدت تضامناً واسعاً مع الفلسطينيين، وتفاعلاً إيجابياً مع قضيتهم.
ويحيِي الفلسطينيون في 15 مايو/أيار من كل عام ذكرى النكبة، وهو مصطلح يطلقه الفلسطينيون على عملية تهجيرهم من أراضيهم، على أيدي "عصابات صهيونية مسلحة" عام 1948، وإقامة دولة إسرائيل.
من اليأس إلى اليقظة
يقول الخبير الأمني، اللواء المتقاعد يوسف الشرقاوي، إن الشعب الفلسطيني "كان غارقاً في حالة يأس، لكن حي الشيخ جراح أيقظه ليبعث برسائله إلى العالم، مفادها أنه عصيّ على الانكسار، وعازم على طرد الاحتلال".
وأضاف لوكالة الأناضول "نحن أمام مرحلة جديدة: ما بعد الشيخ جراح ليس كما قبله، قد نصاب ببعض الضعف في ظل تفوق الجيش الإسرائيلي، لكن الشعب سيسجل بطولة يظنها البعض مستحيلة".
ويتابع الشرقاوي، أن الشعب الفلسطيني "أفشل احتفالات كان يعتزم الاحتلال تنظيمها في القدس في ذكرى إتمام احتلالها (1967)، فارِضاً بذلك سيادته ولو رمزياً على المدينة".
ويرى الشرقاوي أن المطلوب حالياً من القيادة الفلسطينية "وقف التنسيق الأمني وسحب اعترافها باتفاق أوسلو وبإسرائيل".
شرخ إسرائيل يتعمق
ورغم حالة الضعف والوهن الذي تعانيه الحالة الفلسطينية بسبب الاحتلال والإقليم معاً، يقول الصحفي الفلسطيني محمد محسن وتد، إن عمق الشرخ في إسرائيل يتسع "على هوية الدولة ومعنى المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية".
ويضيف "على مدى سبعة عقود جرى جمع الطيف اليهودي من أنحاء العالم، وحتى غير اليهودي من المساندين للمشروع الصهيوني، لكن هذا المشروع يجد نفسه اليوم أمام تناقضات فيما يتعلق بشكل الدول: يهودية، ديمقراطية، علمانية، ديمقراطية يهودية، يهودية توراتية… إلخ".
ويضيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتاد ترحيل الحلول أو التسوية وإدارة الأزمات دون اتخاذ موقف حازم، مستغلاً الانقسام الفلسطيني تارة، ومستفيداً من التطبيع تارة أخرى.
ورغم قطار التطبيع أو ما يطلِق عليه الصحفي الفلسطيني "الأخطبوط الدبلوماسي مع أنظمة عربية وإسلامية، سواء بالسر أو العلن (…)، تعود إسرائيل مجدداً إلى النفق المظلم في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية".
وأعلنت أربع دول عربية، خلال الشهور الماضية، تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وهي الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
ويقول وتد إن إسرائيل تفردت بالشعب كل في موقعه، لكن عقوداً من نهج نتنياهو أثبتت أنه لا يوجد امتيازات لجناح فلسطيني على آخر.
ويضيف أن تمادي إسرائيل في "الشيخ جراح" والأماكن المقدسة حرك جيلاً من الشباب لم يشهدوا الانتفاضات الكبرى السابقة، وأغلبهم وُلدوا بعد انتفاضة الأقصى عام 2000.
ويرى أن "فلسطين تمر بمرحلة حاسمة في ظل توحد لم يسبق له مثيل في أجزاء الوطن، وعليه يجب استثمار تضحيات الشارع المنتفض".
ويقول وتد إن الشعب الفلسطيني "بحاجة إلى قيادة جديدة شابة توحّده وتعيد للقضية الفلسطينية زخمها، إضافة إلى إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بضم كل الفصائل إليها".
كما يرى الصحفي وتد ضرورة "إعادة النظر في كل ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، من خلال مراجعة الاتفاقيات المبرمة الموقعة والتي لا يريدها الجيل الشاب، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني".
جرس إنذار كبير لإسرائيل
من جهته، لا يرى المحامي والحقوقي الفلسطيني معين عودة، أن الأحداث الحالية "تشير إلى نهاية قريبة لإسرائيل، كما يحاول البعض أن يصوّر الأمر، كما أن إسرائيل ليست دولة عظمى، كما تسوق نفسها".
ويعتقد أن الأحداث الأخيرة المتزامنة مع ذكرى النكبة التي هي ذكرى قيام إسرائيل تدق "جرس إنذار كبير لحكام إسرائيل بأن إمكانية تطويع الفلسطينيين أينما كانوا غير واردة سواء في أراضي 48، أو القدس، أو الضفة".
ولا يرى عودة أن مكانة إسرائيل في العالم قد تزعزعت "كما يحاول البعض إيهام نفسه"، مضيفاً: "صحيح أن الوعي الشعبي للأحداث أفضل، لكن مكانة إسرائيل موجودة".
ومع ذلك يلفت الحقوقي الفلسطيني إلى أن النظرة العربية لإسرائيل "ازدادت عدوانية، حتى لدى الشعوب التي لدى إسرائيل مع أنظمتها اتفاقات طويلة وقديمة مثل مصر".
ويضيف أن الأحداث الأخيرة في القدس والأقصى "دمرت مشروع التطبيع وعطلته سنوات للأمام".
أما عن وضع الفلسطينيين داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة، فيوضح المحامي الفلسطيني أن إسرائيل أمام واقع جديد "لا معنى للتعايش، ولا تطويع: إما حقوق كاملة للعرب، أو تجد حلاً تُضطر فيه لأن تتخلص منهم: سواء بالترحيل وهو خيار صعب، أو بحل سياسي وهو أكثر واقعية".
ويلفت عودة إلى أن الأحداث الأخيرة أعادت القضية إلى الواجهة خاصة، وبدأ التفاعل مع موضوع القدس والأقصى، بعد أن أصاب اليأس الكثيرين، نتيجة هرولة العرب إلى التطبيع.