تفجرت الأوضاع في كافة الأراضي الفلسطينية، كما تشهد شوارع إسرائيل مواجهات دامية بين فلسطينيي الداخل والمستوطنين المتطرفين، فلماذا توحد الفلسطينيون هذه المرة ضد الاعتداءات الإسرائيلية؟
يمثل الفلسطينيون من عرب 1948 نحو 21% من سكان إسرائيل، خرج الآلاف منهم في مظاهرات اعتراضاً على الاعتداءات من جانب المستوطنين المتطرفين والشرطة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في القدس المحتلة والتي بدأت منذ شهر أبريل/نيسان الماضي في حي الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى.
ومنذ بدأ الحريق يخرج عن السيطرة بعد أن بدأت المقاومة الفلسطينية في إطلاق صواريخها من غزة تجاه إسرائيل رداً على الانتهاكات المستمرة بحق الأقصى وتحويل ساحته إلى معركة سالت فيها دماء المصلين خلال رمضان، وجدت الأقلية الفلسطينية من سكان إسرائيل نفسها ومنازلها هدفاً لهجمات ميليشيات مسلحة من المستوطنين المتطرفين، خصوصاً في اللد، وباقي المدن، لتتحول شوارع إسرائيل إلى ساحات وصفها الرئيس الإسرائيلي بالحرب الأهلية.
هذا الحريق، بحسب محللين داخل وخارج إسرائيل، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد أشعله آملاً في التشبث بمنصبه وتفادي الإدانة في محاكمته بتهم الرشوة وخيانة الأمانة واستغلال النفوذ، وربما يتحقق له ما أراد في ضوء تطورات الموقف، إذ وجهت أعمال العنف بين اليهود والعرب في إسرائيل ضربة قوية لجهود يائير لابيد، المنافس الرئيسي لنتنياهو لتشكيل حكومة جديدة.
ورصد تقرير أعده جاك خوري الكاتب في صحيفة Haaretz الإسرائيلية ما وصفها بالعوامل التي أدت إلى تذكية الاضطرابات بين فلسطينيي الداخل أو عرب إسرائيل بحسب وصف الكاتب والصحيفة.
التقرير جاء بمثابة الرد على سؤال جوهري هو: لماذا نزل المواطنون العرب في إسرائيل إلى الشوارع بهذه القوة؟ إذ من الواضح أنَّ هناك أكثر من دافع تسبب في حالة الانفجار في عشرات الأماكن هذا الأسبوع، لا سيما في المدن المختلطة.
العنصر الديني ويمثله المسجد الأقصى
وكان العنصر الأول الذي رصده التقرير هو العنصر الديني، إذ لا يزال يُنظَر إلى الإضرار بالرموز أو القيم الدينية باعتباره عملاً يمكن بسهولة أن يشعل حريقاً في المجتمع العربي.
وكانت هذه المسألة واضحة العام الماضي على سبيل المثال، حين أدخلت "القائمة المشتركة للأحزاب العربية" نفسها في فوضى على خلفية مشروعات قوانين ضد "علاج التحويل" وحقوق المثليين جنسياً وأصحاب الميول الجنسية المزدوجة والمتحولين جنسياً.
وقد أدركت "الحركة الإسلامية" و"القائمة العربية الموحدة" أنَّ بإمكانهما استخدام هذه القضية في المجتمع العربي، لكنَّ حزب منصور عباس (الحركة الإسلامية) ركَّز على النقاش بشأن قضايا المجتمع والجماعة وليس الدين. (علاج التحويل هو محاولة تحويل الميول الجنسية، خصوصاً للمثليين ومزدوجي الميول الجنسية والمتحولين جنسياً).
وعلى الجانب الآخر يمكن القول إنه بمجرد أن يخرج الجني الديني من قمقمه، فمن الصعب السيطرة عليه، خصوصاً حين يكون الأمر متعلقاً بالمسجد الأقصى بالتحديد.
حي الشيخ جراح
ويجري تصوير هذه القضية في إسرائيل باعتبارها نزاعاً على الملكية بين المستوطنين والفلسطينيين، لكنَّ الجانب الفلسطيني لم يقتنع بهذا على الإطلاق، وباتت مصطلحات مثل التطهير العرقي واقتلاع العائلات الفلسطينية من منازلها تقدم السردية المُرشِدة في هذا النقاش.
نشأ نضال جماهيري في حي الشيخ جراح، وتمكَّن الكثير من النشطاء، من المسلمين والمسيحيين بل حتى اليهود، من إيجاد سبيل للارتباط بالنضال الوطني الفلسطيني. واستمر الاحتجاج هناك لأسابيع، وانطوى على حوادث عنيفة. لم يجتذب الاحتجاج الآلاف، لكنَّ أصداءه ترددت بقوة.
وفي هذا السياق يأتي العنصر الثالث، إذ مع بداية شهر رمضان ساعدت الحوادث التي وقعت على عتبات باب العامود في إذكاء الاحتجاجات في أنحاء القدس الشرقية المحتلة، ووجد الكثيرون رابطاً بين الشيخ جراح وباب العامود. ومن المهم هنا لفت النظر إلى أن الفلسطينيين ينظرون إلى المسجد الأقصى باعتباره رمزاً للسيادة والحضور الوطني في القدس.
لذا يمكن حتى للعلمانيين المسلمين وغير المسلمين الارتباط بسهولة بالقضية وتكوين محور يربط الشيخ جراح وباب العامود والأقصى، فكان الكثيرون ممن يحتجون صباحاً في الشيخ جراح ينتقلون إلى عتبات باب العامود وينتهي بهم الأمر مساءً بالصلاة في الأقصى.
جيل الشباب الفلسطيني
غلبة الشباب على الاحتجاجات واضحة، وهذا هو جيل اتفاقيات أوسلو في التسعينيات، وبعضهم وُلِدَ قبيل أو بعيد احتجاجات فلسطينيي الداخل في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2000.
وهناك أيضاً أشخاص أصغر تُعَد تلك الأحداث تاريخاً حديثاً بالنسبة لهم، جيل لا يُكِن أي إعجاب للقيادة السياسية في رام الله، ناهيك عن تلك التي في غزة، ولا يمكن للقيادات العربية المحلية منع هؤلاء الشباب من التظاهر.
كان الانطباع السائد في المجتمع العربي في السنوات الأخيرة هو أنَّ الجيل الشاب منغمس في ذاته وقد تجاهل النضال الوطني، وهو شعور تأكَّد في النقاش السياسي وشجَّعته الأحزاب، لكنَّ أحداث الأسبوع الماضي تظهر شيئاً مختلفاً.
فمع أنَّ عدد المحتجين الذين يخرجون إلى الشوارع ليس بالآلاف المؤلَّفة، فإنَّ الشباب الذين لا يقبلون بسلطة أحد يتركون بصمتهم، فلا يمكن لأحد إيقافهم، والاتهام بتكدير السلم العام لن يردعهم، بل على العكس، يُوصِل وجودهم رسالة إلى الجميع، سواء القادة المحليين أو الوطنيين.
المدن المختلطة في وسط البلاد تمثل عنصراً آخر من عناصر هذه الاضطرابات، إذ يمكن للتفاعل اليومي بين اليهود والعرب أن يكون وصفة للتعاون وخفض التوترات، لكن في المدن الإسرائيلية المختلطة، خصوصاً في وسط البلاد، يرى المرء تمييزاً ضد الكثير من السكان العرب.
ولا يجب أن يكون الاحتجاج على توغل اليهود اليمينيين في أحياء يافا والرملة واللد مفاجئاً، فالعرب هناك يمرون بوقت عصيب من الناحية الاقتصادية-الاجتماعية، وهم ينظرون إلى الاحتجاج في الشيخ جراح باعتباره مثالاً على نضالهم الخاص.
ويأتي العنصر الأخير متمثلاً في منصات التواصل الاجتماعي، حيث يجري تصوير الأحداث في الشيخ جراح أو المسجد الأقصى أو أي احتجاج آخر، ويُنشَر فوراً على منصات التواصل الاجتماعي، ولم تستغرق الدعوات للانضمام إلى التظاهرات وقتاً طويلاً.
وبحسب تقرير الصحيفة الإسرائيلية، بعض من يُلبّي الدعوات هو شباب لا يفهم الاحتجاج بشكل حقيقي، بل يريد فقط التنفيس عن إحباطه وغضبه. وخرجت احتجاجات كهذه في الناصرة وحيفا، وانضمت إليها اللد ويافا، ثم اتسع نطاقها.
أخيراً، فإنَّ التمييز وعدم المساواة والاغتراب وغياب أي أفق دبلوماسي للفلسطينيين يمثل وصفة سهلة جداً لتشجيع الاحتجاج، لا سيما بالنسبة لجيل لا يخضع للإملاءات ولا تمثل المساواة والحقوق حلماً يتحقق حين تكون البلاد مستعدة للتغيير. بل إنَّ هذا الجيل مستعد للتحرك على الفور حتى لو كان الثمن هو الاحتجاج العنيف.