في الحروب السابقة بين حماس وإسرائيل في غزة خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، بدا أنَّ هناك شيئاً واحداً لطالما كان يُشكِّل ملمحاً أساسياً في المسألة، إذ كانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، على الرغم من كل اجتهادهما ومحاولاتهما للابتكار في تطوير الأسلحة وأساليب الهجوم، في أحسن الأحوال غير فعَّالتين كثيراً حين يتعلَّق الأمر باستهداف إسرائيل من داخل قطاع غزة، لكن هذه المرة بدا الأمر مختلفاً، بسبب نوعية الأسلحة المستخدمة، وأيضاً قدرة هذه الأسلحة على التدمير.
فمن أنظمة الصواريخ الأولى وصولاً إلى أنفاق الهجوم التي تتطلب عمالة كثيفة والبالونات الحارقة، كانت هذه الجهود بدائية. وحتى حين أصبحت الصواريخ أكثر تطوراً بحلول صراع 2014، بعدما باتت تحلق لمسافة أبعد وبرؤوس حربية أكبر، جرى اعتراض معظمها في السماء.
في المقابل، بدا أنَّ السمة العسكرية الرئيسية لحماس هي مرونتها تحت الهجوم حين تشارك الدبابات الإسرائيلية في الهجوم.
لكنَّ شيئاً ما تغيَّر هذه المرة، إذ بدا في الساعات الأولى من المعركة الحالية أنَّ المجموعات المسلحة في غزة أكثر فاعلية وأكثر عزماً بكثير.
ترسانة المقاومة الجديدة
فمنحت إسرائيل مُهَلاً، ثم أطلقت رشقات ضخمة من الصواريخ، في محاولة لإرباك منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية المضادة للصواريخ، التي عادةً ما تعترض ما بين 85-95% من الصواريخ، ما تسبب في حالات إصابة ووفيات.
أيضاً فصائل المقاومة استخدمت نوعيات جديدة في هذه المعركة، مثل الطائرات المسيرة التي تحمل أسلحة تدميرية، والصواريخ بعيدة المدى مثل عياش 250، الذي استهدف مطاراً في النقب على بعد 220 كلم من قطاع غزة.
دفع هذا البعض للتساؤل عما إذا كانت حماس قد أدركت حدود القبة الحديدية.
فبعد سنوات من العمليات الإسرائيلية ضد غزة، بسكانها المُحاصَرين، لم تكن الإشارة الصادرة من حماس هي أنَّها لا تزال موجودة وحسب، بل ربما باتت أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى.
ويشير حجم عمليات إطلاق الصواريخ الأخيرة من غزة إلى أنَّ الجيش وأجهزة الاستخبارات قد غفوا، فخلال حرب غزة عام 2014، بلغ عدد الصواريخ التي أُطلِقَت من القطاع الساحلي خلال كامل الصراع الذي امتد 50 يوماً قرابة 4 آلاف صاروخ، وكان أعلى عدد يومي هو نحو 200 صاروخ، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
لكن حالياً، أعداد الصواريخ المُطلَقة من غزة أعلى بكثير، بما يتضمَّن مناسبتين جرى فيهما إطلاق أكثر من 100 صاروخ خلال بضع دقائق.
الأمر الذي يبدو واضحاً هو أنَّ حماس والمجموعات المسلحة الأخرى في القطاع قد أعادت منذ عام 2014 بناء ترسانات أسلحتها بهدوء وعلى نطاق أوسع مما كان يُعتَقَد.
وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت حماس العام الماضي، 2020، تفاصيل مشترياتها من الأسلحة في برنامج بقناة "الجزيرة"، بدا أنَّ هدفه الرئيسي إظهار كيف أنَّ الجهود المبذولة من جانب إسرائيل ومصر لم تمنع الحركة من إعادة بناء ترساناتها، ويُفتَرَض أنَّ ذلك تم بمساعدة من سوريا وإيران.
إسرائيل في وضع صعب
ففي حين يقصف الجيش الإسرائيلي مواقع الإطلاق ويستهدف شخصيات رئيسية، تشير الدلائل من الصراعات السابقة في غزة إلى أنَّ هذا نادراً ما يكون ناجعاً جداً.
فقد دفع هذا في السابق إسرائيل لإطلاق عمليات توغل برية واسعة النطاق بالدبابات إلى داخل غزة، وهي المحاولات التي تعثرت دوماً في مواجهة الغضب الدولي المتزايد ومحاولات الوساطة.
الأمر المهم هذه المرة ربما هو حصول حماس، ضمن ما حصلت عليه من أسلحة، على إمدادات من صواريخ "كورنيت" عالية الدقة المضادة للدروع، وهو نفس النظام الذي استخدمه حزب الله بفاعلية كبيرة ضد الدبابات الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية عام 2006.
استُخدِم أحد هذه الصواريخ يوم الأحد، 9 مايو/أيار، لاستهداف سيارة إسرائيلية قرب حدود غزة. وأُطلِق آخر في وقتٍ مبكر من يوم أمس، الأربعاء 12 مايو/أيار، على سيارة جيب، ما أسفر عن مقتل أحد ركابها وإصابة اثنين آخرين. وقد أوصلت رسالة واضحة بشأن ما قد تواجهه القوات الإسرائيلية التي تدخل غزة.
تكتيكات حماس مختلفة هذه المرة
نجحت فصائل المقاومة في هذه الحرب في استهداف مناطق حساسة بإسرائيل، قد تهدف ربما من ورائها إلى تكبيدها خسائر اقتصادية وسياسية كبيرة، بطريقة تعاملها مع القبة الحديدية واستهداف مناطق هامة داخل الأراضي المحتلة.
ما هي القبة الحديدية؟
القبة الحديدية الإسرائيلية هي منظومة دفاع جوي من تطوير شركة "أنظمة رافائيل الدفاعية المتقدمة"، وشركة "الصناعات الفضائية الإسرائيلية"، بدعم مالي وفني من الولايات المتحدة.
دخلت الخدمة لأول مرة عام 2011، وهي مصممة لاعتراض القذائف والصواريخ قصيرة المدى مثل تلك التي تُطلَق من غزة.
تعتمد منظومة القبة الحديدية على نظام رادار وتحليل لتحديد ما إن كان الصاروخ القادم يمثل تهديداً أم لا، ولا تُطلِق صاروخاً اعتراضياً إلا إذا كان الصاروخ القادم يهدد بإصابة منطقة سكنية أو بنية تحتية مهمة.
والصواريخ الاعتراضية التي تُطلَق عمودياً إمَّا من وحدات متحركة أو مواقع إطلاق ثابتة مصممة لتفجير الصاروخ القادم في الهواء، ما يؤدي إلى تلك الانفجارات في السماء، التي باتت مصاحبة لصافرات الإنذار خلال الصراعات الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة.
ما مدى نجاحها في وقف الهجمات؟
يقول المسؤولون الإسرائيليون وشركات الدفاع إنَّ المنظومة منعت آلاف الصواريخ والقذائف من إصابة أهدافها، بمعدل نجاح يتجاوز 90%.
لكنَّ بعض محللي الشؤون الدفاعية يشككون في هذه الأرقام، ويرون أنَّ الأرقام الإسرائيلية بخصوص الاعتراضات الناجحة غير موثوقة، وأنَّ المجموعات التي تطلق الصواريخ والقذائف من غزة مثل حماس والجهاد الإسلامي قد تأقلمت مع المنظومة.
وقال الجيش الإسرائيلي مجدداً الثلاثاء الماضي، 11 مايو/أيار، إنَّ القبة الحديدية دمرت 90% من الصواريخ التي وصلت المجال الجوي الإسرائيلي.
لكنَّ بعض الإسرائيليين يقولون إنَّ الحكومة تعتمد على المنظومة بشكل أكبر من اللازم ولا تخصص موارد كافية للدفاعات الأخرى، بما في ذلك الملاجئ.
ما الصواريخ التي تُطلَق من غزة، وما المشكلات التي تفرضها على القبة الحديدية؟
رغم أنَّ القبة الحديدية قيد الاستخدام منذ عقد من الزمن، فإن الصواريخ لا تزال تُطلَق على إسرائيل، وحتى مع أكبر التقديرات لمعدل نجاح القبة الحديدية يمكن لبعض الصواريخ الوصول إلى المناطق السكنية.
ويُقدِّر الخبراء الذين يتتبعون ترسانات حماس والجهاد الإسلامي أنَّ الحركتين ربما تملكان عشرات الآلاف من الصواريخ، غالباً لا تُصنَّع مما هو أكثر من المتفجرات والإطار المعدني.
بدأت حماس إنتاج صاروخ يُدعى "قسام" في عام 2001 تقريباً خلال الانتفاضة الثانية. في البداية كان مدى الصواريخ ميلين (3 كيلومترات تقريباً) أو 3 أميال (5 كيلومترات تقريباً)، لكنَّ الإصدارات اللاحقة مثل "قسام 3" لها مدى يبلغ نحو 10 أميال (16 كيلومتراً تقريباً).
لكنَّ بعض الصواريخ، مثل تلك التي ضربت تل أبيب على بُعد قرابة 40 كيلومتراً من حدود غزة يوم الثلاثاء، لها مدى أطول كثيراً. وقال الجيش الإسرائيلي في 2019 إنَّ مدى أحد الصواريخ الفلسطينية التي أصابت منزلاً قرب تل أبيب يبلغ 75 ميلاً (121 كيلومتراً تقريباً).
والخميس 13 مايو/أيار 2021، استهدفت فصائل المقاومة مطار رامون الذي يبعد أكثر من 220 كيلومتراً من قطاع غزة.
وشهدت إسرائيل بالفعل إطلاق صواريخ باتجاه القدس يوم الإثنين، ألحق أحدها ضرراً بمنزل في إحدى الضواحي الجنوبية، لكنَّ المسؤولين تفاجأوا من عدد الصواريخ طويلة المدى التي وصلت إلى تل أبيب منذ ذلك الحين.
وقال مايكل هيرتسوغ، وهو عميد متقاعد بالجيش الإسرائيلي، لصحيفة The Washington Post في عام 2019، إنَّ الصواريخ قصيرة المدى تمثل تهديداً أيضاً، لأنَّ القبة الحديدية أقل فاعلية عند مدى 2.5 ميل (4 كيلومترات تقريباً) فأقل.
ومع أنَّ الأسلحة كثيراً ما تكون بدائية ويفتقد الكثير منها إلى أنظمة التوجيه، فإنَّ أعدادها الهائلة وتكلفتها المنخفضة تمثل ميزة ضد القبة الحديدية. وبحسب تقارير في الصحافة الإسرائيلية فإنَّه في حين قد يكلف الصاروخ مبلغاً ضئيلاً يصل إلى بضع مئات من الدولارات، يُكلِّف كل صاروخ اعتراضي نحو 150 ألف دولار.