كان المتوقع أن تتوقف الميليشيات العراقية عن استهداف القوات الأمريكية في البلاد مع بدء المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة في فيينا، لكن حدث العكس تقريباً، فهل تسعى تلك الميليشيات المحسوبة على إيران لهدف مختلف عن أهداف طهران؟
الواقع أن السعي لإجابة هذا السؤال تكشف أن الواقع على الأرض في العراق ربما يكون أكثر تعقيداً مما يظنه الكثيرون. فصحيح أن غالبية الفصائل العراقية المسلحة التي يشار إليها بالحشد الشعبي تعتبر ذراعاً إيرانية في البلاد وتخضع لتعليمات طهران، لكن الأحداث على الأرض منذ تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن وتغير الحسابات والتحالفات تكشف عن قصة أكثر تشابكاً.
لماذا النأي عن إيران الآن؟
القصة تناولها موقع Middle East Eye البريطاني في تقرير له ينقل الصورة من وجهة نظر تلك الفصائل المسلحة ولماذا تسعى للنأي بنفسها عن طهران بسبب المفاوضات الحالية التي تجريها مع الولايات المتحدة وأيضاً التقارير عن لقاءات إيرانية- سعودية.
فمع تقارب إيران والولايات المتحدة خلال محادثات الاتفاق النووي في فيينا، بدأت الفصائل المسلحة العراقية تنأى بنفسها عن طهران خشية استغلالها كأوراق مساومة في المفاوضات الجارية.
وتحاول الفصائل إجبار الولايات المتحدة والحكومة العراقية على التفاوض معها بشكلٍ مباشر حيال القضايا الأمنية والسياسية، بدلاً من مناقشة تلك القضايا مع الإيرانيين فقط، وذلك بحسب تصريحات قادة عسكريين ومسؤولين للموقع البريطاني.
وقد أنشأت إيران عشرات الجماعات المسلحة في العراق، لكنها فقدت سيطرتها عليها خلال الأشهر الأخيرة. بينما طهران مشغولةٌ الآن بمحادثاتٍ من المحتمل أن تغير مسار الأمور مع الولايات المتحدة ومنافستها الإقليمية، السعودية.
في حين تأتي الفصائل المسلحة العراقية، واليمنية، واللبنانية المرتبطة بإيران في قلب هذه المحادثات. وربما يستخدم الدعم الإيراني لتلك الفصائل مستقبلاً كتكتيك تفاوض أثناء مساومة واشنطن والرياض، وهذا جعل الفصائل العراقية تشعر بالتهديد، وتخشى التضحية بها في أي لحظة من جانب رعاتها الإيرانيين.
تكثيف الفصائل العراقية هجماتها
ورداً على ذلك، كثّفت الفصائل هجماتها على القواعد العسكرية العراقية التي تستضيف القوات الأمريكية والدعم اللوجستي لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة خلال الأسابيع القليلة الماضية.
ولم تُعلن أي من الفصائل العراقية المسلحة مسؤوليتها عن أي من تلك الهجمات، لكن قادة فصائل مسلحة ومسؤولين عراقيين قالوا للموقع البريطاني إنّ الجماعات المسؤولة عن الهجمات مرتبطةٌ باثنتين على الأقل من الميليشيات الشيعية شبه العسكرية النافذة.
ولم "تُبارك" إيران هذه الهجمات، بحسب ما أفاد به قادة بعض الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وقالوا إنّ خلافاً نشب في الواقع بين قادة تلك الفصائل وبين المستشارين الإيرانيين خلال اجتماعٍ عُقِدَ في بغداد مساء الإثنين الثالث من مايو/أيار.
وحضر الاجتماع غالبية قادة الفصائل الشيعية البارزة المدعومة من إيران، وبينهم: قائد منظمة بدر هادي العامري، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، ورئيس أركان الحشد الشعبي أبوفدك المحمداوي.
وقال قائدٌ بارز ممن حضروا الاجتماع لموقع Middle East Eye إنّ الاجتماع عُقِدَ "لمناقشة تداعيات تلك العمليات وتأثيرها على الوضع العراقي، والمفاوضات الجارية بين إيران والولايات المتحدة، والحاجة إلى مواصلة التهدئة في المنطقة حتى إشعارٍ آخر".
وفي ذلك الاجتماع، أصر قادة كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق على أنّهم غير مهتمين بالمفاوضات الجارية، وهم على قناعة بضرورة الفصل بين الموقفين العراقي والإيراني في هذه المرحلة.
وأردف القائد للموقع البريطاني: "تهدف هذه الهجمات إلى توصيل رسالة لكافة الأطراف مفادها أنّ الفصائل المسلحة لا تعنيها نتائج أي مفاوضات مع الإيرانيين، وأنّ من يرغب في وقف هذه الهجمات يجب عليه التواصل مع الفصائل مباشرة. كما يقولون (قادة كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق) إنّهم لا يعتقدون أنّ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي اتفق مع الأمريكيين على موعدٍ لسحب القوات الأمريكية، وإنّ تلك الهجمات تهدف إلى الضغط على كليهما وإجبار القوات الأمريكية على الانسحاب. وقد قالوها للإيرانيين صراحةً إنّهم لن يحرجوهم بإعلان المسؤولية عن الهجمات، لكنهم لن يتوقفوا حتى يتفاوض معهم من يرغب في إيقاف الهجمات بشكلٍ مباشر".
الانسحاب الأمريكي من العراق
من أجل وقف الهجمات التي لا هوادة فيها والضغوط الناتجة عنها، حاولت الحكومة العراقية والولايات المتحدة شراء مزيدٍ من الوقت مطلع الشهر الماضي بإعلان الاتفاق على سحب القوات القتالية الأجنبية من العراق خلال عامٍ واحد. لكن المقربين من الكاظمي قالوا إنّه ليس هناك جدولٌ زمنيٌ محدد، كما لم يُحرز أي تقدم منذ ذلك الحين رغم محاولة الجانب العراقي الإسراع في تشكيل اللجان الفنية المعنية بوضع الجدول الزمني.
وقد شكك بعض المسؤولين والساسة العراقيين في مدى جدية الاتفاق. بينما قال مسؤولٌ عراقي بارز، مطلع على تفاصيل المحادثات، للموقع البريطاني: "لقد كان الاتفاق صورياً فقط، وقد تلاعب الكاظمي بالشعب العراقي"، وتتفق الفصائل المسلحة المدعومة من إيران الآن مع وجهة النظر المشككة هذه على ما يبدو.
ورغم تعهد الفصائل بوقف الهجمات بمجرد تأكيد انسحاب القوات، لكن غياب الجدول الزمني المفصل تحول إلى ذريعة لاستئناف الهجمات ضد الأهداف الأمريكية، بعد توقفها مؤقتاً بموجب هدنةٍ غير رسمية وفقاً لمسؤولين أمنيين عراقيين.
وأنكرت الفصائل المسلحة العراقية مسؤوليتها عن الهجمات، وأكّدت التزامها بالهدنة التي توصلت إليها مع القوات الأمريكية بوساطة الحكومة العراقية. وبدلاً من ذلك، أعلنت جماعات لم تكن معروفة مسبقاً مسؤوليتها عن الغارات، ويُعتقد على نطاقٍ واسع أن تلك الجماعات هي مجرد غطاءٍ للفصائل البارزة المدعومة من إيران.
استمرار نزيف الدم العراقي
وربما تكون الخسائر الأمريكية نادرة، لكن الخسائر العراقية آخذةٌ في التزايد، وخلال الأسابيع الخمسة الماضية تعرضت قاعدة فيكتوريا، وقاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار، وقاعدة بلد في محافظة صلاح الدين للاستهداف بعشر هجمات صاروخية.
وصرّح قائد بارز في الحشد الشعبي لموقع Middle East Eye البريطاني بأنّ العامري وفياض وأبوفدك هم من أوائل المعترضين على تلك الهجمات، وأردف أنّ غياب مباركة طهران وإصرار الإيرانيين على التهدئة إبان إجراء المفاوضات المشحونة قد منح القادة المتشككين ما يكفي من الأسباب لانتقاد الهجمات، مما عمّق الانقسامات بين الفصائل المدعومة من إيران.
"أعرب الثلاثة عن رفضهم لتلك الهجمات، وأعلنوا جاهزيتهم للتعاون مع الحكومة من أجل الكشف عن الجناة وتسليمهم إلى السلطات المختصة. ويرى ثلاثتهم أنّ ضرر تلك الهجمات أكثر من نفعها، لأنّها باتت تستهدف الآن المدنيين والجنود العراقيين، وليس هناك مبررٌ لشنها طالما التزمت الحكومة العراقية بوضع جدولٍ لانسحاب القوات الأمريكية. لكن المشكلة هي أنّ قادة كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق على قناعة بأن العامري وفياض وأبوفدك صاروا أكثر ميلاً إلى الكاظمي ويسعون لحمايته. وهذا أمرٌ لا يروق لهم".
هناك ثلاثة عوامل مؤثرة هنا: لم تعد للفصائل المسلحة العراقية قيادةٌ موحدة، ويشعر الكثيرون بالتهديد نتيجة حديث إيران مع أعدائهم السعوديين والأمريكيين، إلى جانب الخوف الواضح من التخلي عنهم.
وقد قال قادة الفصائل المسلحة لموقع Middle East Eye إنّ تلك العوامل ستؤدي إلى زيادة الهجمات، وسوف تتراكم أزمات الحكومة العراقية في حال واصلت تجاهل قادة الفصائل والتعامل مع الإيرانيين فقط.
بينما أوضح القائد البارز في الحشد الشعبي للموقع البريطاني "إنّهم يرغبون في أن ينأوا بأنفسهم عن الإيرانيين، وأن يجبروا الحكومة العراقية والأمريكيين على التفاوض معهم مباشرة".
وترغب كتائب حزب الله تحديداً في أن تكون من صناع القرار الذين لا يمكن تجاوزهم في أي قضية مرتبطة بالشأن العراقي، وكذلك هو الحال مع عصائب أهل الحق. لكن عصائب أهل الحق لديهم تمثيلٌ سياسي، لذا فهم أقل قلقاً من كتائب حزب الله في هذا الصدد. ولم يسمح الإيرانيون بتلك الهجمات، ولم يسمح بها خامنئي أيضاً، مما يعني أنهم لا يمتلكون سلطة إيقافها. ومن المرجح أن تتواصل تلك الهجمات حتى تحصل الفصائل المعنية على ضمانات كافية، أو حتى تتضح نتائج المفاوضات.