تشهد أزمة سد النهضة تصعيداً جديداً من قبل إثيوبيا تجاه مصر والسودان، يهدد بانتقال الخلاف إلى مرحلة جديدة.
فلقد بدأت إثيوبيا تنتقل إلى نوع من التحركات السياسية الهجومية التي تبادر عبرها للرد على تحركات مصر والسودان الدبلوماسية الأخيرة.
فبعد الرسالة التي وجهتها إثيوبيا إلى مجلس الأمن الدولي قبل نحو أسبوعين، طالبةً الضغط على مصر والسودان للعودة إلى مفاوضات سد النهضة، واتهامها لمصر والسودان بأنهما اختارا إفشال المفاوضات وتدويل القضية لممارسة ضغط لا داعي له، وصف آبي أحمد الملء الثاني بأنه قيامة إثيوبيا.
كما قال رئيس الوزراء الإثيوبى، آبى أحمد، مؤخراً، رداً على رسالة من رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، إن افتراض فشل عملية التفاوض بشأن سد النهضة ليس صحيحاً، "لأننا رأينا بعض النتائج الملموسة بما في ذلك التوقيع على إعلان المبادئ". وقال آبى أحمد في الرسالة: "إذا تفاوضت الأطراف بحسن نية، فإن النتائج في متناول أيدينا". واعتبر أن إثيوبيا "ما زالت تعتقد أن أفضل طريقة للمضي قدماً هي مواصلة المفاوضات الثلاثية في إطار العملية التي يقودها الاتحاد الإفريقى للوصول إلى نتيجة مربحة للجانبين".
ولكن إثيوبيا واصلت التصعيد في الوقت ذاته، حيث اتهمت مصر والسودان بالسعي لزعزعة الاستقرار والقيام بتصرفات تتجاوز التهديد بالحرب، في سياق الخلاف بشأن سد النهضة الإثيوبي.
وقال الجانب الإثيوبي في رسالة بعث بها إلى الأمم المتحدة الأسبوع الماضي إن مصر والسودان وقعا اتفاقية عسكرية ثنائية "تتجاوز التهديد بالحرب"، وإنهما يحاولان الضغط على أديس أبابا من خلال تعطيل المفاوضات لتدويل ملف سد النهضة، وفقاً لما نقلته وسائل الإعلام الإثيوبية الأحد.
وأضافت إثيوبيا في شكواها أن "تصرفات مصر والسودان تظهر عدم احترامهما مبادئ الاتحاد الإفريقي، والرغبة بزعزعة الاستقرار".
وكان رئيسَا أركان الجيشين السوداني والمصري وقعا في مارس/آذار الماضي على اتفاق تعاون عسكري يغطي مجالات التدريب وتأمين الحدود، في موازاة تنسيق سياسي على أرفع المستويات بشأن قضية سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق الرافد الرئيسي لنهر النيل.
سد النهضة وسيلة لتبرير القمع الداخلي
ومن الواضح أن آبي أحمد يحاول استخدام السد كوسيلة لتوحيد شعبه، بل بالأحرى تقوية قبضته على السلطة.
فلقد اتهم جهات خارجية وأخرى داخلية لم يسمها، بإحداث الفوضى وزعزعة الاستقرار في البلاد، التي تشهد أزمات داخلية وأخرى إقليمية.
وجاءت تصريحات أحمد في بيان صادر عن رئاسة الحكومة الإثيوبية، السبت الماضي، بعد اجتماع لمجلس الأمن القومي، وقال البيان إن الاجتماع ناقش القضايا الداخلية والإقليمية.
وأضاف أن هذه الجهات "تعمل على إغراق البلاد في فوضى"، لكنه أشار إلى أنه "رغم المؤامرات والضغوط التي تمارس علي البلاد، ستقوم إثيوبيا بعملية الملء الثاني لسد النهضة في الموعد المقرر، وإجراء الانتخابات".
وعقب ذلك، صنفت إثيوبيا "جبهة تحرير تيغراي" و"جيش تحرير أورومو" منظمتين إرهابيتين.
وكان مجلس الأمن الدولي عبر قبل أيام، عن قلقه من الوضع الإنساني في الإقليم، مع تواتر التقارير التي تحدثت عن ارتكاب الجيش الإثيوبي جرائم ضد المدنيين هناك.
كما طالبت الولايات المتحدة الأمريكية إثيوبيا بضرورة سحب القوات الإريترية من إقليم تيغراي.
اتفاقيات استعمارية
وكان أحد مظاهر التصعيد الإثيوبي أيضاً حديث إثيوبيا عن اتفاقية تقاسم مياه النيل، والحدود هي اتفاقيات استعمارية عفا عليها الزمن، وهو طرح خطير ويهدد أحد الثوابت التي قام عليها الاتحاد الإفريقي الذي يوجد مقره في أديس أبابا، وقبله منظمة الوحدة الإفريقية، لأن في إفريقيا تحديداً أكثر من أي قارة أخرى، الحدود والدول ذاتها من تخطيط الاستعمار وفتح باب تغيير هذا الوضع معناه إشعال حروب لا نهاية لها في القارة.
ولهذا لم يكن غريباً، أن ترد وزارة الخارجية السودانية قائلة "إنه من الأعراف المستقرة في العلاقات الدولية التزام الدول والحكومات بالاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقعتها الأنظمة والحكومات السابقة لها".
ويزيد على ذلك حسب البيان السوداني "أن الادعاء الإثيوبي بأن الاتفاقيات المعنية إرث استعماري لا يعتد به، هو مغالطة صريحة للوقائع التاريخية، فلقد كانت إثيوبيا دولة مستقلة ذات سيادة وعضواً في المجتمع الدولي وقت إبرام تلك الاتفاقيات، بينما كان السودان خاضعاً للاستعمار الثنائي ( في إشارة للحكم البريطاني المصري للسودان).
وكان الأخطر في البيان السوداني، قول الخرطوم "لا نحتاج أن نذكر إثيوبيا بأن التهاون غير الرشيد في استخدام مثل هذه الدعاوى المضللة والتنصل من الاتفاقات السابقة، يعني كذلك المساس بالسيادة الإثيوبية على إقليم بني شنقول الذي انتقلت إليها السيادة عليه من السودان بموجب بعض هذه الاتفاقيات بالذات".
حرب آبي أحمد على الجميع
أصبح آبي أحمد يفتح كل الجبهات، فهو يصعد مع مصر والسودان في ملف النيل، ويصعد مع السودان في ملف الحدود، وقبل ذلك ألقى بنتائج الوساطة الأمريكية في سلة المهملات.
والآن بات ينظر له كمستبد دموي في الغرب بسبب ما يحدث في إقليم تيغراي، الذي يواصل التصعيد فيه أيضاً، وسط حديث عن غضب الحكومة المؤقتة في تيغراي (الموالية له) من سياسته التي سمحت باقتطاع أجزاء من الأقاليم وضمها إلى إقليم أمهرة.
وفي الداخل فإنه يتوجه لإجراء الانتخابات المضمونة النتائج لصالحه بعد انسحاب المعارضة الإثيوبية بسبب غياب ضمانات نزاهتها.
ومن الواضح أن الرجل الحائز جائزة نوبل للسلام، بات يتبع نهج الهروب من الأزمة عبر إشعال أزمة أخرى.
فهو يستغل أزمة سد النهضة في قمع المعارضة الداخلية، وتجميع شعبه على مشروع قومي، ومحاولة تقديم مصر والسودان، كأعداء لا يريدون الخير لإثيوبيا.
لماذا صعد آبي أحمد ضد مصر والسودان؟
إضافة للأسباب الداخلية ورغبه في خلق عدو خارجي يبرر القمع، يبدو الحراك السياسي الهجومي لإثيوبيا، في أزمة سد النهضة نابعاً من عاملين خارجيين.
الأول: هو رد على تحركات مصر والسودان السياسية والتي تؤدي إلى كشف عن مظاهر المماطلة الإثيوبية، كذلك حملت انتقادات لوساطة الاتحاد الإفريقي، الأمر الذي احتاج إلى رد فعل إثيوبي سريع.
الثاني: أنه رغم كثافة التحركات المصرية السودانية على الصعيد السياسي، وأيضاً بعض مظاهر التعاون العسكري بين البلدين، فإن كليهما لم يقم بأي عملية ضغط على الأرض على إثيوبيا باستثناء استرداد السودان لجزء من منطقة الفشقة التي كانت تحتلها أديس أبابا.
كما أن تهديد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الشهير بأن رد فعل مصر على المساس بمياه النيل سيؤدي إلى ما سيمس استقرار المنطقة كلها، لم يعقبه أي تصرفات على الأرض، يمكن أن تمثل ضغطاً على إثيوبيا.
لم يستطيعا أن يفعلا معه شيئاً حتى الآن
يفيد تقرير لموقع "مدى مصر" بأن القاهرة حاولت الضغط بقوة على السودان لتقديم الدعم لجبهة تحرير تيغراي في إثيوبيا، وفقاً للمسؤولين المصريين؛ في محاولة واضحة لإضعاف آبي أحمد بشكل أكبر، بعد أن وصلت المفاوضات مع حكومته بشأن السد إلى طريق مسدود، رغم الضغط الذي واجهته القاهرة من إريتريا للامتناع عن هذا، وهي حليف مصر التقليدي.
ولكن من الواضح حسب تقارير متعددة أن مصر والسودان لم يكن لهما أي دور يذكر في تمرد تيغراي.
وهناك تقارير بأن الأوامر الصادرة للجيش السوداني هي التزام الحياد خلال أزمة تيغراي، حسبما ذكرت مصادر سودانية لمجلة Foreign Policy الأمريكية، فيما قاد رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك وساطة إفريقية لم تلق آذاناً مصغية كبيرة.
في المقابل دعمت الإمارات وإريتريا إثيوبيا في هذه الحرب، حيث رصدت منصة الاستقصاء المفتوحة المصدر "بيلنجكات"، وجود طائرات بدون طيار صينية الصنع في القاعدة العسكرية الإماراتية بمدينة عصب الإريترية.
وحتى الاضطرابات في إقليم بني شنقول فرغم الغموض المحيط بها، وحديث بعض المصادر الأجنبية والإثيوبية عن دور مصري سوداني، فإنه من الواضح أن العكس قد يكون محتملاً.
فاضطرابات بني شنقول التي تأتي معظم الأخبار عنها من جهات إثيوبية حكومية قد يتم المبالغة فيها من قبل النظام الإثيوبي بهدف إحكام السيطرة على الإقليم في ظل النزاع بين سكانه الأصليين (وبهم نسبة كبيرة من المسلمين) وبين الأورومو والأمهريين الذين يعيشون في الإقليم، وقد يكون بين أهداف النظام نزع الأراضي حول السد لبيعها للمستثمرين.
يشعر آبي أنه يستطيع مواصلة محاصرة مصر والسودان في أزمة مياه النيل دون رد فعل مؤثر حتى الآن، باستثناء التحركات السياسية والإعلامية.
حتى نتائج التحركات السياسية للبلدين، لم تؤد إلى أي موقف دولي واضح يدين إثيوبيا (باستثناء موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب).
ورغم أن هناك تعاطفاً بادياً من كثير من الدول مع مصر، وبالأخص العربية، إلا أن كل ذلك لا يبدو له تأثير يذكر على إثيوبيا، خاصة أن البلاد تواجه قضية ذات بعد دولي أكثر خطورة وهي قضية مذابح تيغراي.
ويبدو أن النسخة الجديدة من آبي أحمد صاحب نوبل، لا تأبه بكل ردود الفعل على ما حدث في تيغراي بل يزداد قمعه للإقليم.
إذ يمكن أن يفهم من خلال ضمه لمناطق من تيغراي للأمهرة أن آبي أحمد مصمم على إضعاف الإقليم ككل وتهميشه وليس فقط جبهة تحرير تيغراي المتمردة.
ولكن مواصلة آبي أحمد التصعيد في كل الاتجاهات، لا يبدو خياراً مضموناً، خاصة إذا اتجهت مصر والسودان، لاستخدام أدوات اللعب الخشن تجاه أديس أبابا.
وقد يكون آبي أحمد قد استطاع بمعاونة الإريتريين وميليشيات أمهرة قمع إقليم التيغراي، ولكنه يظل إقليماً صغيراً يمثل نحو 5% من السكان.
ولكن توسع اعتماده على الأمهريين، وإغضاب باقي القوميات في مقدمتهم الأورومو (أكبر القوميات) وسكان إقليم بني شنقول، ومواصلته إغلاق المنافذ أمام المعارضة الشرعية، وفي الوقت ذاته استمرار استفزازه لمصر والسودان، قد يجعل كل هؤلاء الخصوم يجتمعون ضده.