أدى الوباء إلى تفاقم الانقسام العالمي بين الشمال والجنوب، مع تحرك الدول الغربية الغنية بثبات نحو مناعة القطيع بينما تنتظر غالبية دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وصول اللقاحات. ولا ينتج اللقاحات المضادة لفيروس كورونا المستجد إلا عدد قليل من البلدان، بينما يعتمد بقية العالم عليها في التلقيح.
ويثير هذا مخاوف من نشأة ترتيب جيوسياسي جديد، تُحدَّد فيه العلاقات الزبونية بين الرعاة والعملاء من خلال التباين بين المعروض من اللقاح مقابل الطلب، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
دبلوماسية اللقاحات
وتوجد بالفعل مؤشرات قوية على أنَّ من لا يملكون اللقاح معرضون للإكراه والإغراء الدبلوماسيين. وبدأت روسيا والصين بالفعل في توفير اللقاحات مقابل تنازلات مرضية في السياسة الخارجية، كما فعلت إسرائيل. في غضون ذلك، تركز الدول الغربية على برامج التطعيم المحلية الخاصة بها -على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة قد أعلنت مؤخراً عن نيتها تقديم مساعدات اللقاحات إلى البلدان المتضررة بشدة، وخاصة الهند.
وبينما لا تزال الولايات المتحدة وكندا وأوروبا تركز على حملات التطعيم المحلية الخاصة بها، فإنَّ منتجي اللقاحات الآخرين على استعداد لاستغلال الطلب العالمي واستخدام إمداداتهم الخاصة كأداة دبلوماسية.
وانخرطت كل من الصين وروسيا بنشاط في دبلوماسية اللقاحات، وربطت صادرات اللقاح بتنازلات سياسية وعمليات إعادة تشكيل جيوسياسية مواتية لها. ففي فبراير/شباط، توسطت روسيا في إطلاق سراح مواطن إسرائيلي محتجز في سوريا مقابل تمويل إسرائيل إرسال لقاح "سبوتنيك-في" إلى سوريا. وبالمثل، قدمت روسيا اللقاحات إلى بلدان أوروبا الوسطى والشرقية؛ مما جعلها أقرب إلى مدارها.
وأعلنت الصين أنَّ لقاحي "سينوفاك" و"سينوفارم" هما "منفعة عامة عالمية" وبدأت في إمدادهما لما يقرب من 100 دولة، وفي كثير من الحالات دون تكلفة. ويبدو أنَّ بعضاً من هذا يهدف إلى تقويض وإحباط الصفقات التي أبرمتها الدول مع شركة "فايزر" لتأمين شحنات سابقة، وربما رشوة المسؤولين المحليين. وفي الوقت نفسه، تشير تسريبات جديدة إلى أنَّ الصين طالبت بتغيير موقف باراغواي في تايوان ونجحت في الضغط على البرازيل لفتح سوق شبكات الجيل الخامس فيها أمام شركة هواوي في شرط مسبق لتلقي شحنات اللقاح.
أمر قد يطول لسنوات وسيعيد تشكيل النظام الجيوسياسي للعالم
وإذا كانت هذه الأفعال من باب اغتنام الفرصة، ولمرة واحدة، فمن المحتمل أن تأتي روسيا والصين في المقدمة. وينطبق الأمر أيضاً على الهند، بمجرد نجاحها في مواجهة الموجة الثانية المتصاعدة من الفيروس بسرعة. وإذا لم تكن هناك حاجة إلى المعززات أو اللقاحات المنتظمة أكثر من مرة كل عدة سنوات، فمن غير المرجح أن يشهد العالم إعادة توجيه كبير في نظامه الجيوسياسي. لكن إذا كانت هناك حاجة إلى حقنة سنوية، مثلما حذر علماء الأوبئة البارزون، فنحن نتحدث عن رواية أخرى.
ويمثل الأمن القومي أحد منافع الهيمنة الرئيسية التي توفرها القوى الطامحة. وتتجلى التبعيات الجيوسياسية عادةً من توفير الأدوات العسكرية من خلال صفقات الأسلحة والقواعد والالتزامات الأمنية الجماعية. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، تدفقت كميات هائلة من الأسلحة والتدريب والقوات إلى الجنوب العالمي حيث تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على الدول العميلة، بينما كانت تلك الدول العميلة تسعى بانتهازية للحصول على الراعي الأكثر سخاء.
وبالرغم من أنَّ هذه التدفقات تضاءلت منذ ذلك الحين، لكنها تظل مستمرة. وفي السوق الحالية لهذه السلع، تتربع الولايات المتحدة على القمة، بدعم من عدد قليل من الحلفاء. فيما تهيمن روسيا داخل منطقة صغيرة من الدول التابعة، وتسعى الصين إلى الشيء نفسه، بنجاح مختلط ولكن تطلعات واضحة.
القوى الكبرى والسعي نحو الهيمنة على العالم في توريد اللقاحات
وفي سوق الأدوية العالمي، تبدو الأمور مختلفة. فبالرغم من أنَّ الولايات المتحدة لا تزال لاعباً رئيسياً، فإنها تواجه منافسة شديدة من العديد من الخصوم المحتملين. ففي أوروبا الغربية، تتمتع ألمانيا والمملكة المتحدة بنفوذ مفرط، كما هو الحال بالنسبة لروسيا في مناطق نفوذها السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية. وتتمتع كل من الصين والهند بقدرة إنتاجية هائلة، والأهم من ذلك أنهما تسيطران على أسواق تصدير الأدوية الجنيسة (أو الأدوية المكافئة) خارج الغرب. وعلى الرغم من كونها قوة إقليمية صغيرة نسبياً، فإنَّ لإسرائيل أيضاً أهمية أكبر بكثير مما قد يشير إليه حجمها بوصفها أحد الموردين الرئيسيين للأدوية الجنيسة.
وإذا استمر ارتفاع الطلب على اللقاحات على المدى الطويل، فسيسفر عن التنافس بين هذه الدول، سعياً للهيمنة على العالم في توريد اللقاحات، توازن قوى عالمي مختلف تماماً عمّا نعرفه اليوم.
وفي ما يتعلق بآسيا، قد يكون التركيز في الغالب على تايوان، حيث كانت دبلوماسية الأوبئة أكثر احتداماً. وحاولت الصين استغلال الوباء لعزل الجزيرة، التي تحركت لإحباط تلك المحاولات من خلال مبادراتها الدبلوماسية الخاصة – بما في ذلك الترويج لنجاحاتها في مجال فيروس كورونا المستجد.
وعلى وجه الخصوص، فشلت الصين في سعيها لربط توفير اللقاح إلى باراغواي بتقويض علاقاتها مع تايوان. إذ بدلاً من ذلك، تدخلت الهند لتوفير اللقاحات، بناءً على طلب تايوان. وفي حين أنَّ الصين قد تكرر مثل هذه التحركات في المستقبل، فإن نفوذ الهند سيزداد إذا أصبح توفير اللقاح سلعة جيوسياسية أساسية وطويلة الأجل.
من المستفيد الأكبر؟
لكن ما قد يثير الدهشة بحسب فورين بوليسي، هو أنَّ المستفيد الأكبر قد يكون إسرائيل. إذ تستعد شركة Teva Pharmaceuticals، أكبر منتج منفرد للأدوية الجنيسة في العالم، بالفعل لبدء تصنيع جرعات مرخصة من اللقاحات. وتعد الشركة مصدراً أساسياً للأدوية ذات الأسعار المعقولة لمعظم دول الجنوب وستعزز النفوذ الجيوسياسي لإسرائيل أيضاً بدرجة كبيرة إذا أصبح توفير اللقاح المضاد للفيروس ضرورياً لصحة العالم. ووفقاً لبعض التقارير، عرضت إسرائيل جرعات على هندوراس وجمهورية التشيك وغواتيمالا مقابل نقل سفاراتها إلى القدس.
وفي الوقت الذي بدأ فيه شمال الكرة الأرضية بالخروج من الأزمة بالآلات اللازمة لتوفير المعززات الوقائية حسبما تقتضي الضرورة، يواصل الجنوب العالمي محاربة وباء يزداد ضراوة. ومع ذلك، قد يكون الوباء مُكلِّفاً جيوسياسياً حتى بالنسبة لهذه البلدان الغنية، إذ يعود الحلفاء أو العملاء السابقون للتوافق مع الخصوم الحاليين، في ظل ما يبديه الشركاء السابقون من نفوذ وإصرار متزايدين، كما تقول المجلة الأمريكية.