تعيش تركيا عصرها الذهبي في إفريقيا، بفضل تطور علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية بشكل غير مسبوق خلال العشرين سنة الأخيرة، وفي ظل تنافس دولي وإقليمي محموم على قارة يفوق عدد سكانها مليار نسمة، وتشهد أعلى زيادات في نسبة السكان، إضافة لنمو اقتصادي مطرد، وسوق شرهة تستورد أغلب احتياجاتها من الخارج.
وتمثل إفريقيا سوقاً عذراء لم تتشبع بعد مثلما هو الحال في أسواق أوروبا وآسيا والقارة الأمريكية، لذلك يشتد التنافس عليها بين القوى الاستعمارية القديمة مثل فرنسا والقوى الصاعدة على غرار تركيا.
ففرنسا مازالت متمسكة بنفوذها وهيمنتها على دول غرب إفريقيا، لأن خسارتها لهذه الأسواق لا يعني تراجع اقتصادها فقط، بل فقدانها صفتها كإحدى الدول العظمى في العالم.
في الوقت ذاته تشهد تركيا تطوراً صناعياً وتكنولوجياً متزايداً، وتشكل إفريقيا خياراً مثالياً لها، ليس فقط كسوق لصادراتها المتنوعة، وإنما لتعزيز نفوذها، وأخذ مكانها بين الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم، خاصة بعدما أوصد الاتحاد الأوروبي أبوابه في وجه مساعيها للانضمام إليه.
ربع قرن من التخطيط الاستراتيجي
لم يكن الاهتمام التركي بالقارة الإفريقية وليد السنوات الأخيرة، بل تعود أول خطة وضعت للانفتاح على إفريقيا إلى عام 1998، بهدف تحقيق نقلة نوعية على صعيد العلاقات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول القارة، بحسب وزارة الخارجية التركية.
وشُرع في تجسيد هذه الخطة مع بداية عام 2003، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان، عندما تم إعداد "استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية"، وأعلنت الحكومة التركية 2005 "عام إفريقيا".
ففي ذات العام نالت أنقرة صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، الذي أعلنها في 2008، "شريكاً استراتيجياً" له، خلال قمته العاشرة بأديس أبابا.
كما تقربت تركيا من المنظمات الإقليمية في إفريقيا، حيث اعتمدت سفارتها في أبوجا لدى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" في 2005. وانضمت إلى منتدى الشركاء الدولي التابع "للهيئة الحكومية الدولية للتنمية" في شرق إفريقيا "إيغاد"، في 2008، واعتمدت سفارتها في دار السلام (تنزانيا) لدى مجموعة دول إفريقيا الشرقية "EAC".
ولتأكيد رغبتها في المساهمة بنهضة القارة، انضمت تركيا في 2008، إلى بنك التنمية الإفريقي، وصندوق التنمية الإفريقي، بعد مصادقة اجتماع المانحين على طلبها.
وفي ذات العام عُقد في إسطنبول قمة التعاون التركية الإفريقية الأولى بمشاركة 49 دولة إفريقية وممثلي 11 منظمة إقليمية ودولية من ضمنها الاتحاد الإفريقي، ثم عقدت القمة الثانية في مالابو بغينيا الاستوائية عام 2014.
كما تنظم تركيا سنويا فعالية "يوم إفريقيا" بتاريخ 25 مايو/أيار من كل عام.
تجارة تتضاعف واستثمارات لامست 70 مليار دولار
لم يكن التبادل التجاري بين تركيا ودول إفريقيا يتجاوز 5.4 مليار دولار في 2003، ولكن هذا الرقم تضاعف بشكل قياسي ليبلغ 26 مليار دولار في 2019.
وتطمح أنقرة إلى أن يرتفع هذا الرقم إلى 50 مليار دولار خلال الفترة المقبلة، حيث فتحت 26 مستشارية تجارية بسفاراتها في إفريقيا لتعزيز هذا الطموح.
وفي يناير/كانون الثاني 2020، قال أردوغان إن "التبادل التجاري بين تركيا والدول الإفريقية زاد بواقع 381%، خلال السنوات الـ17 الأخيرة".
كما نجحت تركيا خلال قيادة أردوغان للبلاد في توقيع اتفاقيات تجنب الازدواج الضريبي مع 13 دولة إفريقية، وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة مع 5 أخرى.
وساهمت هذه الاتفاقيات في رفع قيمة التبادل التجاري بل ومضاعفته مع عدة دول إفريقية.
ولم تهتم تركيا فقط بالجانب التجاري بل ركزت أيضاً على الاستثمارات التي تساهم في فتح مناصب عمل بالدول الإفريقية.
وبلغت قيمة المشاريع التي ينفذها رجال أعمال أتراك بالقارة 70 مليار دولار، وفرت 100 ألف منصب شغل، بحسب ما أعلنه أردوغان خلال منتدى الاقتصاد والأعمال التركي الإفريقي، الذي عقد في عام 2020.
وهذا ما يميز التعاون الاقتصادي التركي الإفريقي مقارنة بالعديد من الدول الغربية، التي لا ترى في إفريقيا سوى سوق لبضائعها ومصدر للمواد الأولية الرخيصة الثمن.
فخلال القمة الثالثة للزعماء الدينيين المسلمين بإفريقيا، الذي عقد بإسطنبول في 2019، قال أردوغان إن "المستثمرين الأتراك يركزون ليس على بيع منتجاتهم فحسب، بل مشاريع تسهم في خلق فرص العمل وتنمية القارة الإفريقية".
وهذه النظرة القاصرة للدول الأوروبية نحو القارة السمراء دفعت عدة دول إفريقية للانفتاح على الاستثمارات التركية، وخاصة في قطاع الإنشاءات الذي ينافس نظيره الصيني عالمياً.
ويلعب قطاع الإنشاءات دوراً في زيادة الصادرات التركية لمواد البناء في الدول التي ينشط بها، خاصة الحديد الصلب والإسمنت.
فبحسب أرقام الخارجية التركية، فإن قطاع الإنشاءات التزم بتنفيذ مشاريع في 89 دولة بقيمة 39 مليار دولار ما بين 1972 – 2010، منها 21% منها في إفريقيا.
كما تساهم الخطوط الجوية التركية في تقريب المسافات مع إفريقيا، حيث تسير رحلات من إسطنبول إلى 58 وجهة في 38 دولة إفريقية.
** القوة الناعمة
إحدى تجليات الاهتمام التركي بالقارة السمراء ارتفاع عدد سفاراتها في إفريقيا من 12 إلى 42، بالإضافة إلى أن عدة دول إفريقية فتحت سفاراتها لدى أنقرة ما بين 2002 و2019.
واستقبال البعثات الطلابية يمثل وجهاً من أوجه قوة تركيا الناعمة، التي توفر منحاً دراسية في الليسانس والماجستير والدكتوراه، لنحو 4500 طالب إفريقي، بحسب أردوغان.
وتولت الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة خارجية التركية، تكوين العشرات من الدبلوماسيين الأفارقة ضمن "البرنامج التعليمي الدولي للدبلوماسيين الشباب".
وتلعب الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، دورا لا يستهان به في تثبيت القوة الناعمة لأنقرة، عبر المشاريع التي تنجزها في إفريقيا، حيث تمكنت من فتح 25 مكتباً لها في القارة.
فتركيا، بحسب منظمة "Development Initiatives" الدولية، تحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث حجم الإسهام في الأعمال الخيرية عام 2017، حيث أنفقت ما يقرب من 8.1 مليار دولار على المساعدات الإنسانية، متفوقة على دول تمتلك اقتصادات أكبر على غرار الولايات المتحدة.
وجزء من هذه المساعدات الإنسانية تستفيد منه دول إفريقيا، خاصة الواقعة جنوب الصحراء.
حيث التزمت تركيا بتقديم حزمة مساعدات سنوية بقيمة 200 مليون دولار للدول المصنفة على قائمة الأقل نمواً، بينها 33 دولة إفريقية، اعتباراً من عام 2012، تخصص لمشاريع التعاون التقني والبرامج والمنح.
وفي هذا الصدد، قدمت تركيا مساعدات طبية لعدد كبير من الدول الإفريقية لا يقل عن 20 دولة، ما سيعزز مكانتها في عالم ما بعد كورونا.
وبحسب المعطيات أدى حوالي 500 طبيب تركي وأكثر من 100 عامل في المجال الصحي خدمات طبية في عدة بلدان الإفريقية، ما بين 2007 – 2010.
التعاون العسكري
إحدى مشكلات القارة الإفريقية الرئيسية التي تعيق التنمية في بلدانها، التوترات الأمنية، وتحاول تركيا تقديم المساعدة العسكرية لعدة دول في مواجهة التنظيمات الإرهابية والمجموعات المتمردة والقرصنة.
حيث وقعت تركيا مع عدة دول إفريقية اتفاقيات تعاون أمني وعسكري على غرار الصومال وليبيا والنيجر ونيجيريا، فضلاً عن تدريبها لجنود وضباط أفارقة على أراضيها.
ففي الصومال، شيدت تركيا قاعدة عسكرية في أكتوبر/تشرين الأول 2017، لتأهيل الجيش الصومالي في مواجهة "حركة الشباب" المسلحة.
أما في ليبيا، فوّقع البلدان اتفاقية للتعاون الأمني في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، سمحت بتقديم أنقرة مساعدة عسكرية سريعة وحاسمة لقوات حكومة الوفاق الليبية أنقذت العاصمة طرابلس من السقوط في يد ميليشيات الشرق الليبي بقيادة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وتساهم تركيا حالياً في إعادة بناء الجيش الليبي، ونزع الألغام التي زرعها مرتزقة فاغنر في الأحياء الجنوبية لطرابلس.
وينتشر حالياً مستشارون عسكريون أتراك في قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب غرب طرابلس) بالقرب من الحدود التونسية، وبقاعدة مصراتة الجوية ومينائها البحري (200 كلم شرق طرابلس).
وتمدد النفوذ العسكري التركي إلى النيجر، الواقعة جنوب ليبيا، وإحدى دول الساحل، التي تواجه تحديات أمنية صعبة في مواجهة تنظيم داعش في الصحراء الكبرى (الغرب)، وجماعة بوكو حرام (شرق).
ووقعت تركيا مع النيجر في يوليو/تموز 2020، اتفاقية عسكرية مثيرة للغاية، خاصة أن نيامي واقعة تحت النفوذ الفرنسي، ما يمثل اختراقاً لافتاً لمناطق النفوذ الفرنسي.
أما نيجيريا، التي تعد أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان ومن حيث الناتج الداخلي الخام وصادرات النفط، فخطت خطوة مهمة نحو تعزيز تعاونها العسكري مع تركيا.
ففي 2018، وقع البلدان اتفاقية تعاون في مجال التدريب العسكري، وتهدف إلى إيصال المساعدات الإنسانية ومكافحة قراصنة البحار، وإنشاء مقرات مشتركة، وتنفيذ مناورات ثنائية، وتبادل الوفود العسكرية، وإرسال مراقبين لمناورات البلدين.
نيجيريا تخوض حرباً شرسة في الشمال ضد بوكو حرام وداعش في غرب إفريقيا، أما في الجنوب، وخاصة في دلتا النيجر الغنية بالنفط، فانتشرت أعمال القرصنة بشكل كثيف، وانتشرت لتشمل كامل خليج غينيا.
وتحتج نيجيريا، التي تعد أكبر مصدر للنفط في إفريقيا (2 مليون برميل يومياً)، لعدم تلقيها مساعدات عسكرية دولية في مواجهة التحديات الأمنية التي تجاوزت إمكانياتها.
تنافس تركي فرنسي على مناطق النفوذ
الصعود التركي القوي في إفريقيا اصطدم بالنفوذ الفرنسي ذي الخلفية الاستعمارية خاصة في شمال القارة وغربها.
وهيمنة فرنسا على اقتصاد العديد من الدول الإفريقية تتجلى من خلال ربط عملتها (فرنك غرب إفريقيا، وفرنك وسط إفريقيا) باليورو، وضمان قابليتها للتحويل.
كما أن اللغة الفرنسية تعد أحد عوامل الهيمنة على دول إفريقيا الفرانكفونية، وكذلك القواعد العسكرية المنتشرة في المنطقة، والجاليات الإفريقية في فرنسا، تجعل الارتباط الإفريقي بباريس مسألة غاية في التشابك والتعقيد.
لكن تركيا تمتلك أفضلية على فرنسا، كونها دولة مسلمة، ومعظم الدول الإفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي أغلب سكانها مسلمون، ويكنون كرهاً لهذا الماضي المليء بالمآسي، ويتوقون للتحرر من الهيمنة الفرنسية المتواصلة على بلادهم.
وهذا ما يفسر سر تقرب تركيا من الزعماء الدينيين المسلمين في إفريقيا، حيث نظمت 3 قمم للزعماء المسلمين الدينيين الأفارقة؛ في 2006 و2011 و2019، برعاية الرئيس أردوغان شخصياً.
كما تمثل الاستثمارات التركية خياراً يفضله الأفارقة لأنه يوفر لهم فرص الشغل والعملة الصعبة والتكنولوجيا، بينما لا تنظر لهم فرنسا سوى كسوق لمنتجاتها، ومصدر للمواد الخام.
ففي الجزائر مثلاً بلغت الاستثمارات التركية 4.5 مليار دولار، وفّرت نحو 34 ألف فرصة عمل، بينما الاستثمارات الفرنسية لم تتجاوز 2.5 مليار دولار.
لكن التبادل التجاري بين الجزائر وتركيا يتراوح ما بين 3.5 و4.2 مليار دولار، وهو رقم أقل من حجم المبادلات التجارية بين الجزائر وفرنسا (6.9 مليار دولار).
عسكرياً، تواجهت تركيا وفرنسا بشكل غير مباشر في شمال إفريقيا، حيث دعمت باريس ميليشيات حفتر، بينما وقفت تركيا إلى جانب حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، وانتصار الأخيرة على حفتر كان بمثابة انتصار لتركيا على فرنسا.
ولتجاوز عائق اللغة، ينشط معهد يونس إمرة في العديد من الدول الإفريقية لتعليم اللغة التركية، بينها السودان والمغرب وإثيوبيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا وتونس ومصر والسنغال والجزائر.
ويتوقع أن يتعزز التعاون الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري والثقافي بين تركيا والدول الإفريقية في الأعوام المقبلة، بالنظر إلى حاجة الطرفين لبعضهما البعض.
فإفريقيا تنتظر من تركيا مساعدتها للخروج من الهيمنة الغربية ومحو ما تبقى من آثار الاستعمار، ومساعدتها على تحقيق استقرارها الأمني وإقلاعها الاقتصادي.
أما تركيا فتحتاج للدول الإفريقية لمضاعفة صادراتها والارتقاء باقتصادها لمصاف العشرة الكبار في العالم، ودعم مواقفها في المحافل الدولية، خاصة أن الطرفين يتفقان على ضرورة إصلاح الأمم المتحدة حتى لا تبقى تحت هيمنة خمس دول تمتلك حق الفيتو، "فالعالم أكبر من خمسة" على حد قول أردوغان.
فمن المتوقع أن يتضاعف هذا التعاون مع إفريقيا، خلال الأعوام القليلة المقبلة، خاصة بعد توجه الأوضاع نحو الاستقرار في ليبيا، ما يفتح السوق الليبية نحو مزيد من الاستثمارات التركية ورفع حجم التبادل التجاري.
كما أن المصالحة التركية المصرية المرتقبة من شأنها أيضاً مضاعفة التبادل التجاري بين البلدين، خاصة أنه رغم برودة العلاقات فإن مصر أصبحت مؤخراً الشريك التجاري الأول لتركيا على مستوى إفريقيا، بعد تراجع المبادلات التجارية مع الجزائر، متأثرة بانخفاض أسعار النفط.
ويمثل اقتراح الجزائر تشكيل تكتل لشركات مختلطة بين الجزائر وتركيا لدخول أسواق إفريقية، خاصة مع انطلاق منطقة التبادل الحر الإفريقية، فرصة أخرى لأنقرة لتعزيز تواجدها الاقتصادي في القارة السمراء من البوابة الجزائرية.