خطة جديدة تهدف إلى تحسين صورة السعودية في أمريكا بدأت الرياض تعتمد عليها، للتغلب على الضرر الذي أصاب صورتها جراء سلسلة من الأزمات التي جلبت عليها سخط الكونغرس.
فباستخدام أساليب جديدة يسعى اللوبي السعودي لتقديم السعودية بشكل أكثر جاذبية للمجتمع الأمريكي، وبطرق تهدف للنفاذ للولايات الأمريكية ذاتها، ولم تعد تقتصر على واشنطن فقط، حسبما ورد في تقرير لموقع Salon الأمريكي كتبه بن فريمان: مدير "مبادرة شفافية النفوذ الأجنبي" بمركز السياسة الدولية.
موقف صعب يواجه السفيرة
في مطلع مارس/آذار 2020، كانت الأميرة ريما بنت بندر آل سعود، السفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة، في موقف صعب، ففيما كانت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) تجتاح العالم، انهارت أسعار النفط واندلعت حرب أسعار بين السعودية وروسيا، وتحمَّلت شركات النفط والغاز الأمريكية التبعات المؤلمة لذلك. ومع هبوط أسعار النفط، صبَّ السيناتورات الجمهوريون من الولايات المنتجة للنفط جام غضبهم على السعودية مباشرةً.
ولمعالجة مخاوفهم، وافقت الأميرة ريما على الحديث مع مجموعة منهم في مكالمة عبر الفيديو في 18 مارس/آذار، ووجدت نفسها مباشرةً على خط النار، بعدما وبَّخها سيناتور تلو الآخر بسبب دور المملكة في تراجع أسعار النفط العالمية.
كان اللوبي السعودي في واشنطن يعاني على نحو مماثل في رد فعله على الغضب المستعر بالكونغرس.
كانت شركة Hogan Lovells هوغان لوفيلز، وهي واحدة من كبريات شركات الضغط التي تعمل لصالح المملكة في العاصمة الأمريكية، تقود رد الفعل، فأرسلت رسائل بريد إلكتروني إلى مكاتب أكثر من 30 عضواً من أعضاء الكونغرس. وما كان لرسالتها أن تكون أوضح من ذلك: "السعودية لم ولن تسعى للإضرار عمداً بمنتجي النفط الصخري الأمريكيين".
دعوات لمعاقبة الرياض
مع ذلك، يبدو أنَّ جهودها لم تلقَ آذاناً مصغية، إذ ظلَّ بعضٌ من أكثر صانعي السياسة الذين يتعرَّضون لجهود الضغط (اللوبي) في واشنطن غاضبين من الرياض بسبب تراجع أسعار النفط.
فبحسب بيانات قدَّمتها شركة هوغان لوفيلز وفقاً لـ"قانون تسجيل العملاء الأجانب"، اتصل عملاء الشركة بالسيناتور الجمهوري عن ولاية ألاسكا دان سوليفان 4 مرات بصورة شخصية في الفترة بين مارس/آذار وأبريل/نيسان، لكنَّ سوليفان مع ذلك دعا إدارة ترامب لفرض تعريفات جمركية على واردات النفط السعودية.
وبات سيناتورات جمهوريون آخرون، كانوا قد دعموا سابقاً صفقات سلاح بمليارات الدولارات للمملكة، الآن يهددون بقلب كامل التحالف الأمريكي مع السعودية رأساً على عقب.
لم يكن نزاع النفط في ذلك الربيع أول انتكاسة يواجهها اللوبي السعودي في واشنطن في السنوات الأخيرة. فمن الحرب السعودية الكارثية في اليمن إلى القتل الوحشي للكاتب بصحيفة The Washington Post الأمريكية جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، كان للكونغرس مبرر كافٍ لإدارة ظهره للسعودية.
ولكن ترامب تصدى للكونغرس
وسعى الكونغرس آنذاك، وهو ما لم يكن مفاجئاً كثيراً، من خلال سلسلة من مشروعات القوانين التي تحظى بدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لإنهاء المشاركة العسكرية الأمريكية في الحرب التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن ووقف مبيعات السلاح للمملكة. لكن من حسن حظ اللوبي السعودي كان وجود الرئيس دونالد ترامب، الذي لطالما تودد إليه أمراء المملكة بأكثر الطرق شخصية، ليكون بمثابة شبكة أمان لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروعات القوانين تلك وحمايتهم من العقاب على جرائمهم العديدة، حسب تعبير كاتبي التقرير.
لكن في عام 2020، عندما اجتاحت جائحة فيروس كورونا أمريكا، أصبح واضحاً على نحو متزايد أنَّ آفاق انتخاب ترامب كانت تتراجع، وتتراجع معها تلك الضمانة بالحماية القوية للسعودية.
السعوديون يتوجهون إلى الولايات لترويج رؤية 2030 بدلاً من العاصمة
وجدت الأميرة ريما منذ أن أصبحت سفيرة في فبراير/شباط 2019 نفسها تمضي المزيد والمزيد من الوقت مع أشخاص من خارج العاصمة واشنطن، لاسيما في الولايات التي اشتهرت بعلاقاتها العميقة مع السعودية. فمن ولاية ماين حتى ولاية أيوا وصولاً إلى ألاسكا، بدأت السفيرة السعودية حملة مغازلة الولايات الأمريكية.
ففي يوليو/تموز 2020، تحدثت الأميرة ريما في فعالية افتراضية استضافتها مؤسسات "شراكة ديس موينس الكبرى" و"مجلس ديس موينس للتجارة الدولية" و"هيئة التنمية الاقتصادية في أيوا". وكان من بين الحضور العديد من قادة الأعمال المحليين البارزين.
لم يكن مفاجئاً أن يكون محط التركيز الرئيسي لخطاب السفيرة هو "أهمية العلاقة الممتدة منذ 75 عاماً بين السعودية والولايات المتحدة". وسلَّطت الضوء كذلك على التغيرات الكبرى التي قالت إنَّها جارية في السعودية، بفضل "رؤية 2030" التي تتبعها البلاد، وهي خطة يرعاها ولي العهد محمد بن سلمان، نجل الملك سلمان بن عبدالعزيز والقوة المحركة للعرش في البلاد. وتهدف رؤية 2030، نظرياً على الأقل، لتحديث وتنويع اقتصاد السعودية القائم على النفط.
سرعان ما ستتحول هذه العروض التي تقدمها السفيرة إلى نمط متكرر. إذ ستقدم، على سبيل المثال، فكرة مماثلة في وقتٍ لاحق من عام 2020 أمام لجنة التوجيه والشبكات النسائية التابعة لغرفة سيوكسلاند للتجارة في أيوا.
لم يقتصر الأمر على ولاية أيوا. إذ بدأت تلقي خطابات شبيهة في أرجاء البلاد. فتحدثت في يوليو/تموز في فعالية استضافها "مجلس الشؤون العالمية في ماين"، وهي الفعالية التي حضرها أكثر من 70 عضواً من مجتمع الأعمال في ولاية ماين، فضلاً عن عضو الكونغرس الديمقراطي السابق مايك ميشود.
وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول، ألقت خطاباً، افتراضياً أيضاً، أمام "قمة وايومينغ للتكنولوجيا العالمية" بحضور أكثر من 80 من السياسيين وقادة الأعمال. كان من بينهم مارك غوردون وسينثيا لوميز، اللذان سيجري انتخابهما لعضوية مجلس الشيوخ في الشهر التالي. وفي وقتٍ لاحق من أكتوبر/تشرين الأول، ألقت الأميرة كلمة أمام أكثر من 50 من قادة الأعمال المحليين في "مجلس الشؤون العالمية في ألاسكا".
وفي أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، كانت الأميرة في "مجلس الشؤون العالمية في دالاس/فورت وورث"، ثم في مارس/آذار في "مجلس الشوؤن العالمية في هيوستن". وكالعادة، تألَّف الحضور من قادة الأعمال في المنطقة، بما في ذلك مسؤولون تنفيذيون بارزون في مجال النفط. وأيَّاً ما كانت القضايا المحلية التي قد تركز عليها في مثل هذه الخطابات، أبقت السفيرة دوماً تركيزها الرئيسي على مميزات خطة محمد بن سلمان "رؤية 2030" ومدى أهميتها لتعزيز العلاقة التي تعود إلى عقود بين البلدين.
خطة تحسين صورة السعودية في أمريكا تقودها هذه الشركة
وكان بين كل هذه الفعاليات شيء آخر مشترك: جاءت كلها بتنظيم وترويج من جانب عملاء ضغط مُسجَّلين لصالح السعودية.
فعلى الرغم من المظاهر، لم تكن هذه الفعاليات نتاج التخطيط الدقيق من جانب الدبلوماسيين السعوديين أو السفيرة نفسها. بل فعل السعوديون ما تفعله الكثير من الحكومات الأجنبية في واشنطن لجعل رسائلهم تصل إلى الأسماع. فقد استعانوا بعملاء ضغط وشركات علاقات عامة. وفي هذه الحالة، كانت شركة بعينها مسؤولة إلى حد كبير عن الطريقة التي أوصل السعوديون بها رسائلهم خارج واشنطن حتى الآن: مجموعة لارسون شاناهان سليفكا.
تصف المجموعة نفسها بأنَّها "شركة علاقات عامة وشؤون حكومية وشؤون عامة وتسويق، من الحزبين، يقع مقرها في مدينة ديس موينس بولاية أيوا". وتتباهى بمجموعتها المثيرة للإعجاب من العملاء، بما في ذلك مجموعة والمرت Walmart وشركة فورد موتور Ford Motor Company. لكن لا يتضمَّن موقعها أي إشارة إلى قدر العمل الاستثنائي الذي قامت به لتعزيز جهود السعوديين على الصعيد الوطني الأمريكي منذ توقيع عقد مع المملكة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بقيمة 126500 دولار شهرياً.
وبحسب تقرير سيُنشَر قريباً عن اللوبي السعودي من إعداد "مبادرة شفافية النفوذ الأجنبي" بمركز السياسة الدولية، أفادت الشركة، في البيانات التي قدمتها بموجب قانون تسجيل العملاء الأجانب، بإجرائها أكثر من 1600 نشاط سياسي لصالح السعوديين، أي أكثر من كل الشركات الأخرى التي تعمل لصالح السعوديين مجتمعة في عام 2020.
يخاطبون بلدات صغيرة وكنساً يهودية
أضف إلى ذلك عاملاً آخر: بعكس الشركات الأخرى التي تضغط لصالح السعودية، تعمل مجموعة لارسون شاناهان حصراً تقريباً خارج واشنطن. وقد تواصلت مع مجموعة كبيرة من الجهات المؤثرة على المستوى المحلي والولايات لصالح الأمراء السعوديين، بما في ذلك شركات صغيرة وساسة محليون وشركات غير ربحية ووسائل إعلامية خاصة بالبلدات الصغيرة وكُنُس يهودية، بل حتى طلاب المدارس العليا.
وسواء أدرك أيٌّ من هؤلاء الأمريكيين ذلك أم لا، فإنَّه كان يجري استهدافهم بحملة لمنح السعوديين نفوذاً ذا طابع محلي، وبالتالي تمهيد الطريق أمام حملة إعادة تأهيل للعلاقات العامة السعودية في واشنطن نفسها.
هناك نمط بسيط إلى حد ما للطريقة التي كان اللوبي السعودي يتودد بها للولايات من أجل خطب ود واشنطن. فأولاً، أطلقت مجموعة لارسون شاناهان حملة محلية، تضمنت المئات من المكالمات ورسائل البريد الإلكتروني للمشرعين على مستوى الولايات وغرف التجارة وأساتذة الجامعات والشركات الصغيرة وأي شخص أو شيء يمكنك تخيُّله تقريباً في هذا الإطار. بدورها، تخلق بعض هذه الروابط فرصاً للحظات إعلامية قوية، مثل تلك التي أجرى فيها المتحدث باسم السفارة السعودية فهد ناظر– وهو عميل سعودي سابق مُسجَّل بموجب قانون تسجيل العملاء الأجانب- مقابلات مع إذاعة ساوث داكوتا العامة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وبرنامج "Michigan's Big Show" في ولاية ميشيغان في فبراير/شباط الماضي.
والهدف خلق قواعد جماهيرية لنظام ملكي خليجي
وأدَّت أنشطة الضغط الأخرى إلى فعاليات مهمة لتوصيل الرسالة السعودية، وملء المقاعد (أو الدعوات على تطبيق Zoom) في النقاشات بمراكز الأبحاث، أو منتديات الأعمال، أو حتى الحوار بين الأديان.
وعليكم إدراك ذلك أيضاً: مثل هذه الفعاليات ليست مجرد وسيلة من جانب مسؤولي البيروقراطية السعودية للقاء قادة الأعمال المحليين. بل إنَّها توفر أيضاً الفرصة المثالية لعملاء الضغط المدعومين من السعودية كي يبدأوا إعادة بناء العلاقات التي تضررت في واشنطن من جرَّاء تراجع أسعار النفط، والحرب الأهلية المدمرة في اليمن، وقتل جمال خاشقجي.
ويعد هذا الجزء الثاني من الحملة الجماهيرية المصطنعة للمملكة، ولذا، تولت واحدة من مجموعات الضغط الرئيسية للسعودية في واشنطن، شركة هوغان لوفيلز، المسؤولية عن هذا الجزء.
يمكن العودة بعلاقات الشركة مع السعودية إلى عام 1976 على أقل تقدير، حين وقَّعت الشركة الأم السابقة على هذه الشركة، شركة هوغان وهارتسون، عقداً لأول مرة مع المملكة.
وإلى جانب الترويج للرواية السعودية بشأن الحرب الكارثية في اليمن، تعمل هذه الشركة الآن على تحويل جهود مجموعة لارسون شاناهان على المستوى المحلي ومستوى الولايات إلى رأس مال سياسي في الكونغرس. وتروج الشركة لرؤية تتمثل في الدعم الجماهيري الأمريكي للعلاقات الأمريكية-السعودية داخل واشنطن.
ويجري تصميم رسائل البريد الإلكتروني التي ترسلها الشركة خصوصاً بحسب كل مكتب تتواصل معه في الكونغرس، فتأتي على ذكر القضايا وأصحاب المصلحة المحليين ذوي الصلة بالسيناتورات والنواب المقصودين. فعلى سبيل المثال، في فبراير/شباط الماضي، بعدما ألقت السفيرة السعودية كلمة أمام مجلس الشؤون العالمية لهيوستن الكبرى، بعثت شركة هوغان لوفيلز برسالة بريد إلكتروني إلى مكتب السيناتور الجمهوري جون كورنين لتسليط الضوء على تصريحاتها بشأن التعاون الأمريكي السعودي بشأن الطاقة والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء في ولايته.
لكن هناك حقيقة رئيسية دوماً ما يجري إغفالها: أنَّ هذه الفعاليات نفسها كانت بتنظيم من اللوبي السعودي. وعادةً لا يكون لدى أعضاء الكونغرس وطاقم موظفيهم أي فكرة أنَّ هذه اللقاءات كانت نتيجة لهذا اللوبي بالتحديد.
بالطبع لا يوجد أي شيء جديد بشأن استعانة البلدان الأجنبية بعملاء الضغط من أجل الترويج للتجارة مع الولايات المتحدة، كما لا يوجد بالضرورة أي شيء غير أخلاقي بشأن الترويج لمثل هذه العلاقات. لكن فيما يروِّج اللوبي السعودي بحماس لقصة وردية عن اقتصاد المملكة الآخذ في التنوع على نحو متزايد وتوسيع حقوق المرأة والفرص السياحية المثيرة، ينبغي على صانعي السياسة ووسائل الإعلام التي تغطيهم أن يتذكروا أنَّ مثل هذه الروايات، على أقل تقدير (ولصياغة الأمر بصورة مهذبة قدر الإمكان)، غير كاملة، حسب تعبير الموقع الأمريكي.
وفيما تقنع مجموعة لارسون شاناهان وشركة هوغان لوفيلز وغيرها من الشركات مزارعي أيوا ومُصنِّعي ساوث داكوتا وصيادي سرطان البحر في ماين بالفرص الاقتصادية المستقبلية، تتجاهل هذه الشركات الجوانب الأكثر أهمية في العلاقات الأمريكية السعودية في اللحظة الراهنة: المستويات المذهلة من مبيعات السلاح الأمريكية للمملكة، والحرب المدمرة في اليمن، واستهداف المعارضين السعوديين ومجموعات حقوق المرأة، وتورط نظام المملكة في القتل الوحشي لجمال خاشقجي.
هذه عواقب حقيقية لشراكة كثيراً ما تفلت من عمليات التدقيق الجدية، وحماها الرؤساء السابقون من كلا الحزبين، والذين كانوا أكثر اكتراثاً بالحصول على النفط الرخيص ومحاربة الإرهاب، وفق تعريفهم له.
وفي لحظة تدرس فيها إدارة بايدن والكونغرس مستقبل الشراكة الأمريكية السعودية، لا ينبغي التقليل من مثل هذه الصورة التي يحاول اللوبي السعودي الترويج لها من خلال الاستعانة بأعضاء المجتمع في مختلف أرجاء الولايات المتحدة.
في الواقع، حتى لو تحقق الازدهار الاقتصادي المستقبلي الموعود بين البلدين، فإنَّه بالكاد سيصلح من سلبيات المملكة الكثيرة، حسبما ورد في تقرير الموقع الأمريكي.
ويقول الموقع: "على أعضاء الكونغرس والموظفين العموميين المحليين، على حدٍّ سواء، أن يكونوا مدركين لذلك. فما قد يبدو وكأنَّه مظهر دعم جماهيري متسع للمملكة يمكن أن يكون في الحقيقة مجرد سراب آخر في الصحراء".