بينما احتفلت تشاد الصيف الماضي بمرور 60 عاماً على استقلالها، ارتدى الرئيس إدريس ديبي، وهو جنرالٌ سابقٌ في الجيش هزم سابقاً قوات الزعيم الليبي معمر القذافي في الصحراء الكبرى، قفازاتٍ بيضاء وزياً رسمياً كاملاً للحصول على رتبة مشير فخرية.
في ذلك الوقت، كان ديبي قد قاد تشاد لما يقرب من ثلاثة عقود، أي نصف الفترة التي تمتَّعت فيها البلاد بالاستقلال. بعد وصوله إلى السلطة من خلال انقلاب، نجا ديبي من عدة تمرُّدات، وظهر كحليفٍ عسكري غربي قوي ضد التطرُّف الإسلامي، حتى حين تلطَّخَت سُمعة حكومته بالفساد والمحسوبية وانتهاكات حقوق الإنسان.
كرَّسَ ديبي نفسه للجيش التشادي، إذ استخدم ثروة البلاد النفطية لبناء واحدة من أقوى القوات المقاتلة في إفريقيا. وقاتلت هذه القوات ضد المُسلَّحين الإسلاميين في جميع أنحاء الساحل، بما في ذلك جماعة بوكو حرام النيجيرية والجماعة الإقليمية التابعة للقاعدة. وقال مُحلِّلون سياسيون إنه عندما بدأ الهجوم، لم يكن من غير المعتاد أن يقوم ديبي بزيارة القوات على الخطوط الأمامية.
قال الجيش التشادي إن ديبي أُصيبَ بجروحٍ قاتلة. وصرح المتحدِّث باسم الجيش، الجنرال عظيم برماندو، في بيانٍ أذاعه التلفزيون الرسمي، بأن ديبي "لفظ أنفاسه الأخيرة في الدفاع عن وحدة الأراضي في ساحة المعركة". تُوفِّيَ في 20 أبريل/نيسان عن عمرٍ يناهز 68 عاماً، في اليوم التالي لإعلان فوزه بفترة ولاية سادسة في أعقاب انتخاباتٍ رئاسية مُتنازَع عليها.
تفاصيل الموت غامضة
وبحسب تقرير لموقع صحيفة Washington Post لا تزال التفاصيل الدقيقة لمقتل ديبي غاضمة، وكانت حملته قد أعلنت في وقتٍ سابق أنه يسافر إلى شماليّ البلاد لزيارة القوات التشادية التي تقاتل جبهة التغيير والوفاق في تشاد، وهي جماعة متمرِّدة. وقال بيان الجيش إن البلاد ستُدار على مدار الأشهر الثمانية عشر المقبلة من قِبَلِ مجلسٍ عسكريٍّ انتقالي بقيادة الجنرال محمد كاكا، نجل ديبي.
وكان ديبي واحداً من أقدم رؤساء الدول في إفريقيا، وكان قصره المكسو بالرخام في العاصمة التشادية، إنجامينا، يطلُّ على واحدةٍ من أقل دول العالم نمواً، وهي دولةٌ فقيرة وغير ساحلية عدد سكَّانها حوالي 16 مليون شخص.
قال جود ديفيرمونت، مدير برنامج إفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي: "لقد أصبح شريكاً رئيسياً لفرنسا والولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، لكنه كان يحكم بقبضةٍ حديدية". وأضاف: "لديه سجلٌ حافلٌ لكونه رجلاً قوياً في إفريقيا عمل جنباً إلى جنب مع الغرب لمعالجة هذه القضية الأمنية الأوسع نطاقاً"، بينما لم يفعل شيئاً لتعزيز الديمقراطية داخل بلاده.
عندما استولى ديبي على السلطة في ديسمبر/كانون الأول 1990، توجَّه إلى العاصمة بسيارة مرسيدس سوداء بينما كانت الجماهير تهتف من حوله، ووعد بأن تكون إدارته مختلفةً تماماً عن إدارة سلفه، الديكتاتور حسين حبري، الذي كان في السابق رئيس أركان الجيش.
وقال لمحطةٍ إذاعية فرنسية: "سيعمل حزب حركة الإنقاذ الوطني (حزب ديبي) على أن تصبح تشاد دولةً ديمقراطية".
وفي مقابلةٍ عبر الهاتف أجرتها صحيفة Washington Post الأمريكية، قالت الخبيرة السياسية الفرنسية والخبيرة في شؤون تشاد، مارييل ديبوس، إن حكومة ديبي كانت قمعية لكنها أقل قسوةً من حكومة حبري، الذي اتُّهِمَ فيما بعد بالتعذيب المنهجي وقتل ما يصل إلى 40 ألف شخص (في عام 2016، أدانته محكمةٌ دولية في السنغال بارتكاب انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة).
وقالت ديبوس إن ديبي نظَّم أول انتخاباتٍ متعدِّدة الأحزاب في البلاد وسط "موجةٍ من الحرية والديمقراطية والأمن في إفريقيا الفرنكفونية". نشأت النقابات العمالية وجمعيات المجتمع المدني والمحطات الإذاعية الخاصة. لم يُقتَل مراسلو الصحف والإذاعات يُعتَقَلون من حينٍ لآخر بسبب تغطيتهم الانتقادات المُوجَّهة للنظام، لكنهم زُجَّ بهم في السجون. غالباً ما كان يجري احتواء المعارضين السياسيين، إذ كانت تُعرَض عليهم وظائف في الحكومة.
"سيد استراتيجية فرق تسد"
قالت ديبوس، مؤلِّفة كتاب "Living by the Gun in Chad – العيش بالبندقية في تشاد": "لقد كان حقاً سيداً لإستراتيجية فرِّق تسُد. المشكلة في تشاد أنه من الصعب حقاً على المعارضة المدنية أن تفعل أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة".
في فترات السخط، قلَّصَت الحكومة خدمة الإنترنت، لاسيما حجب وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي استمرَّ لأكثر من عام بعد الإعلان عن إصلاحاتٍ دستورية في عام 2018 كان من شأنها أن تمكِّن ديبي من البقاء في السلطة حتى عام 2033. وقال منتقدون إن العنف بدوافع سياسية مستمر أيضاً، مشيرين إلى اختفاء زعيم المعارضة ابن عمر محمد صالح عام 2008، الذي اختُطِفَ من منزله في إنجامينا.
في الفترة التي سبقت انتخابات أبريل/نيسان، قال مرشَّح المعارضة يايا ديلو -زعيم متمرِّدين سابق خدم في حكومة ديبي- إن والدته وابنه وثلاثة آخرين قُتِلوا أثناء مداهمة منزله من قِبَلِ قوات الأمن. وقال بيانٌ حكومي إن العملية كانت محاولةً للقبض على ديلو الذي يُزعَم أنه لم يستجب على استدعاءين قضائيَّين. وانسحب العديد من مرشَّحي المعارضة من السباق الرئاسي احتجاجاً على هذا الهجوم.
وحافظ ديبي على موقف الرجل العسكري القوي مع إصراره على إيمانه بإجراء انتخاباتٍ مفتوحة. وتلقَّى الجيش في بعض الأحيان دعماً من الفرنسيين، الذين اتَّخذوا مقراً لعملياتهم الإقليمية لمكافحة الإرهاب في إنجامينا وأرسلوا طائراتٍ مقاتلة لضرب طابور من المتمرِّدين قيل إنه كان متَّجِهاً نحو العاصمة في 2019.
وكان تقدُّم المتمرِّدين في ذلك العام واحداً من العديد من محاولات التمرُّد التي واجهها ديبي، الذي نجا من هجومٍ على العاصمة في عام 2006، عندما انضمَّ العديد من أعمامه وأبناء إخوته إلى مجموعةٍ مُنشقَّة من الجنرالات، ومرةً أخرى في عام 2008 عندما حاصَرَ المتمرِّدون القصر الرئاسي.
هل قتلته القوات العائدة من ليبيا؟
وأوردت صحيفة New York Times الأمريكية أنه منذ وقتٍ ليس ببعيد، كان أعضاء جبهة التغيير والوفاق، الجماعة المتمرِّدة التي يقال إنها قتلت ديبي، يقاتلون في ليبيا المجاورة تحت قيادة مُتشدِّد قوي تلقَّى الدعم الفرنسي، حسبما قال طارق المجريسي، المتخصِّص في شؤون ليبيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مجموعةٌ بحثية مقرها لندن.
وكان التشاديون يمثِّلون مجموعةً من مجموعات المرتزقة الأجنبية العديدة التي تقاتل تحت قيادة القائد الليبي خليفة حفتر، عندما شنَّ حملةً للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس في عام 2019. ونفت فرنسا أيَّ دورٍ لها في الهجوم، لكنها منحت حفتر في السابق دعماً عسكرياً ودبلوماسياً.
وعرضت إدارة ترامب دعماً سياسياً لحفتر على شكل تأييدٍ عام في أبريل/نيسان 2019 أدَّى إلى قلب السياسة الأمريكية.
لكن منذ أن خَمَدَ القتال في ليبيا العام الماضي، ومنذ أن تجذَّرَت عملية سلام مؤقَّتة تدعمها الأمم المتحدة، بدأ بعض المرتزقة الذين يقاتلون هناك في العودة إلى أوطانهم. وتشير الأحداث الأخيرة في تشاد إلى أنهم جلبوا معهم أسلحةً حصلوا عليها من ساحة المعركة الليبية.
وقال المجريسي: "كان هناك مسلسلٌ كاملٌ من تطوُّر الجماعات التشادية المتمرِّدة على الأراضي الليبية على مدار السنوات العشر الأخيرة".
وقال مسؤولٌ فرنسي ذو خبرةٍ طويلة في منطقة الساحل، أمس الثلاثاء 20 أبريل/نيسان، إن ديبي كان في الشمال يشارك في القتال ضد المتمرِّدين. وقال المسؤول، الذي تحدَّثَ شريطة عدم الكشف عن هويته، نظراً لمناقشة قضايا أمنية حسَّاسة: "لن نعرف أبداً ما إذا كان قد أُصيبَ برصاصةٍ من المتمرِّدين أم حتى بمجرد سقوطه من سيارته".