صدمة كبيرة أصيب بها الرأي العام في مصر جراء حادث القطار الأخير الذي خرجت فيه أربع عربات عن القضبان في 18 أبريل/نيسان 2022 بالقرب من مدينة طوخ بمحافظة القليوبية شمال القاهرة، وأعاد الجدل أسباب تكرار حوادث القطارات في مصر.
وكان سبب الصدمة أن هذا الحادث الذي أدى لمقتل 11 شخصاً وإصابة 98، جاء بعد فترة وجيزة من حادث قطار آخر، مما يشير إلى أن وتيرة حوادث القطارات تتصاعد بشكل كبير رغم وعود وزير النقل كامل الوزير المقرب من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بمعالجة هذا الملف.
وشهدت السكك الحديدية المصرية خمسة حوادث خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، أسفرت ثلاثة منها عن وقوع ضحايا.
وكان أخطر هذه الحوادث ما وقع في 26 مارس/آذار 2021، عندما تصادم قطاران في محافظ سوهاج بجنوب مصر، مما أدى إلى وفاة 32 مواطناً وإصابة 165 شخصاً نتيجة انقلاب عربتي أحد القطارين.
وذكرت إحصائية رسمية مصرية عام 2017، أن عدد حوادث القطارات بلغ 12236 حادثاً بين عامي 2006 و2016، حسبما ورد في موقع "بي بي سي".
واللافت أن تكرار كوارث القطارات في مصر يأتي رغم أن البلاد لديها واحدة من أوائل السكك الحديدية في العالم.
أسباب تكرار حوادث القطارات في مصر
يقول حسن عبدالظاهر، أستاذ هندسة الطرق في جامعة عين شمس الحكومية المصرية، لموقع Al Monitor الأمريكي عبر الهاتف، إن حوادث القطارات في مصر ترجع إلى عدة أسباب.
وأوضح أن السكك الحديدية أُهملت على مدار الأربعين عاماً الماضية، إلى أن أصدرت القيادة الحالية توجيهات عام 2014 بوضع حلول للمشكلات المزمنة التي يواجهها هذا القطاع.
وقال عبدالظاهر إن قطاع السكك الحديدية كان مديناً للدولة عام 2014 بمبلغ 55 مليار جنيه (3.5 مليار دولار)، في وقت بلغ فيه إجمالي دخله 3 مليارات جنيه (190.9 مليون دولار) ونفقاته 3.45 مليار جنيه (219.5 مليون دولار). وأضاف أن عدد العاملين في القطاع يصل إلى 54 ألف ما بين موظفين وعاملين وفنيين.
وقال: "هذا رقم ضخم لا يضم سوى 3000 سائق".
وأشار إلى أنه يجري تطوير السكك الحديدية أثناء تشغيلها، حيث يستخدمها نحو مليون راكب يومياً. وأشار إلى أنه يتعين على القطاع الخاص المشاركة في قطاع السكك الحديدية فور اكتمال تطوير البنية التحتية لتلافي ارتفاع أسعار التذاكر.
وقال عبدالظاهر إن شركة فرنسية تولت في السابق إدارة مشروع نقل تابع لمترو أنفاق مصر، وأكد أن هذا التطوير، حتى لو اكتمل، لن يمنع وقوع حوادث القطارات. وقال: "لا يوجد بلد في العالم يمكنه منع وقوع حوادث القطارات".
ويوافقه الرأي عماد نبيل، استشاري هندسة الطرق المصري، حيث قال لموقع Al Monitor عبر الهاتف: "عملية التطوير لا تعني أن الحوادث ستتوقف وإنما سيعود معدل تكررها إلى المستوى الطبيعي".
وأشار إلى أن قطاع السكك الحديدية المصرية متهالك بسبب فترات الإهمال الطويلة، وهو يرى أن مشروع التطوير الذي تعمل عليه وزارة النقل سيساهم في تقليل معدل هذه الحوادث.
وقال نبيل إنه حين كانت مصر تعاني في السابق من حوادث الطرق وكانت تشهد في المتوسط 50 حادثاً لكل 10 آلاف مواطن، كان المعدل العالمي ثلاثة حوادث لكل 10 آلاف مواطن. لكن المعدل انخفض في مصر بعد تنفيذ المشروع القومي للطرق.
حوادث القطارات انخفضت في عام 2019
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قد أصدر بياناً رسمياً في يونيو/حزيران عام 2020 يفيد بأن عدد حوادث القطارات انخفض بنسبة 8.9% إلى 1,863 حادثاً عام 2019، مقارنة بـ 2,044 حادثاً عام 2018، بينما ارتفع عدد الوفيات إلى 42.4 والإصابات إلى 100 عام 2019، مقارنة بـ 34.3 حالة وفاة و100 إصابة عام 2018.
وقال محمود الضبع، عضو لجنة النقل في البرلمان، لموقع Al Monitor عبر الهاتف، إن حوادث القطارات الأخيرة عرضية.
وقال: "لن نرى نتائج تطوير السكك الحديدية بين عشية وضحاها، فهي لم تخضع للتطوير منذ أكثر من 40 عاماً. ويجري العمل حالياً لتحسين كفاءة القطارات وخطوط السكك الحديدية".
وأشار الضبع إلى أن "الحوادث قد تحدث في أي وقت ولا تؤثر على عملية التطوير التي تتكشف نتائجها الإيجابية تدريجياً".
ونقل موقع Al Monitor عن الضبع قوله إن القيادة السياسية ووزير النقل في بلاده يعملان على تطوير هذا القطاع.
وأضاف: "حادث سوهاج على سبيل المثال وقع بسبب نقص العمالة وهذا خطأ بشري. وننتظر حالياً انتهاء التحقيقات لمعرفة سبب حادث قطار طوخ".
جنرال لإنقاذ القطارات
وزير النقل الحالي، الفريق كامل الوزير، جاء لمنصبه بعد إقالة وزير النقل السابق بعد حادثة مأساوية وغريبة وقعت في فبراير/شباط 2019.
إذ ترك فيها سائق قطار، الجرار الذي يجر العربات يسير وحده، لأن قطاراً آخر اصطدم به، فنزل للسائق الآخر؛ لمعاتبته، وفي أثناء حديثهما تحركت القاطرة واصطدمت بالحاجز الخرساني لنهاية الرصيف في المحطة الرئيسية في القاهرة، متسببة في حدوث انفجار وحريق كبير أودى بحياة 21 شخصاً وإصابة 52 آخرين.
وأظهرت تسجيلات المراقبة دخول جرار القطار (2302) بسرعة هائلة في النهاية الخرسانية للمحطة، مما أدى إلى انفجار خزان الوقود.
وبعد تكليف السيسي لكامل الوزير الذي كان رئيساً للهيئة الهندسية للقوات المسلحة بطريقة درامية بعد ترقيته إلى رتبة فريق، وعد الأخير بإنهاء الحالة المتردية للسكك الحديدية في مصر، مسلَّحاً بدعم كبير من الرئيس المصري، وسط حديث عن تمويل غير مسبوق خصص لتطوير هذا المرفق.
ورغم محاولة تحميل الكارثة للأنظمة السابقة، إلا أن الواقع أن السيسي يحكم مصر منذ عام 2014 أي منذ نحو سبع سنوات، وهي فترة ليست بقليلة.
ولكن يبدو أن حال السكك الحديدية لم يكن يلقى اهتماماً كبيراً من الرئيس خاصة خلال سنوات حكمه الأولى.
إذ سبق للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن ألمح قبل سنوات إلى عدم توافر تمويل لإصلاح السكك الحديدية مع وجود عجز في ميزانية السكك الحديدية قدَّره الوزير السابق بملياري جنيه في الوقت الذي خصص فيه الرئيس عشرات المليارات لمشروعي قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة فور توليه السلطة.
إذ قال السيسي في مؤتمر جماهيري إن الدولة لا تستطيع أن تدفع المئة مليار جنيه المطلوبة لتطوير السكك الحديدية.
وأضاف قائلاً إنه بدلاً من تخصيص عشرة مليارات لإصلاح كهرباء وميكنة السكك الحديدية، لو وضعت هذا المبلغ في البنك لجاء للدولة بمليار سنوياً أو ملياري جنيه.
وألمح إلى ضرورة تطوير السكك الحديدية من خلال رفع أسعار التذاكر، لمنع تكرار كوارث القطارات في مصر.
وقال في تعليقه على رفض الركاب زيادة الأسعار، وقولهم إنهم "غلابة" ولا يستطيعون دفع الزيادة: "وأنا كمان غلبان ومش قادر"! (في إشارة إلى عدم قدرة الدولة مالياً على إصلاح السكك الحديدية في وقت كانت قد حفرت قناة السويس الجديدة خلال عام لرفع معنويات الشعب المصري).
وانتقد السيسي تدني أسعار السكك الحديدية قائلاً: "لا توجد خدمات بهذه الأسعار على مستوى العالم".
وفي تصريح آخر، قال السيسي إن تطوير السكك الحديدية يحتاج من 200 إلى 250 مليار جنيه، وهذه الأموال غير موجودة.
ركاب القطارات مهمَّشون طبقياً وجغرافياً
لم يكن تطوير السكك الحديدية أولوية للأنظمة المصرية المتعاقبة، بما فيه النظام الحالي لأسباب عدة.
السكك الحديدية هي مواصلات الغلابة في مصر، بالتالي فإن تكلفة التطوير يصعب استعادتها عبر رفع أسعار التذاكر، علماً بأن هناك توجهاً في كثير من دول العالم لاعتبار المواصلات جزءاً من الخدمات التي يجب أن تتحمل الدولة تكلفتها.
كما أن التكلفة الاجتماعية والسياسية لفرض الأمن والانضباط في هذا المرفق سواء على الركاب أو العاملين تبدو صعبة بالنسبة للأنظمة المصرية المتعاقبة (التي قد تضطر لاستخدام درجة عالية من البطش لفعل ذلك).
كما أن مؤسسة السكك الحديدية هي نموذج للتركيبة البيروقراطية العتيقة التي تقوم على التراتبية في الترقي والشكلانية، وتعاني من انخفاض الأجور، وتدهور المستوى العالم للموظفين، وعملية التطوير الثقافية معقدة كثيراً بالنسبة للأنظمة المركزية.
مصر نجحت في إدارة قناة السويس وفشلت في إدارة السكك الحديدية وقصر العيني
تظهر إدارة مصر بنجاح لمرفق قناة السويس ذي الطبيعة العالمية، وآخرها حل أزمة جنوح السفينة، أن العنصر البشري المصري إذا تلقى التدريب والأجور المناسبين ولديه قيادة جيدة قادر على العمل بكفاءة.
يظهر النجاح في إدارة قناة السويس منذ تأميم مصر لها عام 1956، والفشل الذريع في إدارة السكك الحديدية، طبقية متأصلة في المؤسسات المصرية، فالمؤسسات التي تتعامل مع الأجانب مثل قناة السويس والطيران المدني والسياحة (بصورة أقل) تتمتع بكفاءة عالية تناظر المستويات العالمية، وكذلك المؤسسات التي تتعامل مع النخب والشرائح العليا من الطبقة الوسطى تتمتع بمستوى مرتفع أيضاً، بينما تتدنى مستويات المؤسسات مع انخفاض مستوى الطبقات التي تتعامل معها.
وبشكل ضمني، هناك محاولة لتفسير ذلك بأن العيب في هذه المؤسسات الموجهة للبسطاء والفقراء يأتي من المستهلكين لها، وليس من المشغلين، كأن ركاب القطارات الفقراء هم المسؤولون عن تدهور أحوالها وليس المسؤولين.
وينسب للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر قولٌ لوصف هذه الظاهرة، يقول فيه: "لقد نجحنا في إدارة قناة السويس ولم ننجح في إدارة قصر العيني".
وقصر العيني واحد من أكبر المستشفيات الحكومية في البلاد، والمرضى فيه أغلبهم من الفقراء وبصورة أقل الطبقة الوسطى.
ويقال إن المفكر الكبير عبدالرحمن بدوي علَّق على كلام الرئيس بأنه لو منح للمسؤولين عن قصر العيني نفس إمكانيات المسؤولين عن إدارة قناة السويس لحققوا النجاح ذاته، وقيل إن الرئيس غضب عليه من هذا التعليق.
تبدو هذه الطبقية ظاهرة عالمية، ولكن الواقع مستفحلة في مصر بشكل كبير، وفي التخطيط المصري المركزي وحتى التفكير الشعبي يفترض وجود أن تكون الأولوية للأغنياء والعاصمة والمدن على حساب الفقراء والأقاليم والريف.
ويمكن القول إن جذور هذه الطبقة تعود لعهد الفراعنة؛ حيث كان الفرعون إلهاً على الأرض، يبنى الأهرامات التي تعد واحداً من أعظم المعالم المعمارية في التاريخ لكي يدفن فيها، بينما يبيت الفلاح في بيت بسيط.
حتى في ثورة يناير/كانون الثاني كان هناك مركزية لميدان التحرير من قبل الثوار والإعلام على كل ساحات الثورة الأخرى، فلا يكاد يتذكر العالم شيئاً من مشاهد الثورة إلا مشاهد ميدان التحرير.
ليست مصر وحدها التي تتسم بهذه الظاهرة، فالمجتمعات النهرية العريقة التي أقامت دول استبدادية مثل الهند وروسيا والصين، كانت تعرف هذه الظواهر، دوماً، ولكنْ هناك توجة عالمي كبير لإنهاء هذا الاختلال.
ولكن في مصر لم تثر مناقشات جدية حول هذا الموضوع، كما أن هذا الاختلال يتزايد مع طبيعة نظام الرئيس السيسي التي ازدادت فيها مركزية شخص الرئيس في التخطيط.
شتان بين جهود تطوير السكك الحديدية والعاصمة الجديدة
ورغم الإعلان عن جهود كبيرة مؤخراً لتحديث السكك الحديدية، فإنها في الأغلب لا يمكن مقارنتها بحجم الاستثمارات في البنية الأساسية التي تضخ في العاصمة الجديدة والقاهرة الجديدة ومناطق شرق القاهرة تحديداً، والعين السخنة والعلمين الجديدة وغيرها من المشروعات التي تستهدف الأثرياء بالأساس.
وتقليدياً كانت مصر تعاني من اختلال في توزيع الخدمات بين القاهرة والأقاليم، وبين المناطق الغنية والمناطق الفقيرة، ولكن مع ازدياد مركزية النظام، وتراجع الدور المحدود أصلاً للبرلمان، فإن احتمالات تزايد هذه الاختلالات تزيد باعتبار أن عملية التنمية توجهها بالأساس دوافع النظام وأهدافه، وليس خطط عقلانية تراعي متطلبات عدالة التوزيع والثوابت الديموغرافية والجغرافية.
قد تكون العديد من المشروعات التي يتم التركيز عليها مثل منتجعات الأثرياء مربحة للدولة على المدى القريب والمتوسط، ولكن من منظور أبعد فإن الاستثمار في حماية الإنسان سواء في مجالات التعليم أو الصحة أو البنية الأساسية هي أمور حيوية، ولها عوائد أكثر أهمية.
فحتى الدول الرأسمالية التي توصف بأنها منحازة للأغنياء باتت تعطي أولوية للمشروعات المخصصة للفقراء، لأنهم الأحوج والأكثر عدداً، والأهم أن تجاهلهم سيؤدي إلى تضرُّر الدولة برمتها، فقراءها وأغنياءها.