تبدو إسرائيل قلقة للغاية من فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً بشأن جرائمها ضد الفلسطينيين، فهل يؤدي هذا القلق إلى ردع قادة إسرائيل عن ارتكاب جرائم جديدة ضد الفلسطينيين؟
وتقدم المذابح التي ارتكبت في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة اختباراً واقعياً، ملطخاً بالدماء، يسمح بتقييم مدى فاعلية المحاكمات الدولية في ردع الأفراد والدول عن ارتكاب مزيد من الجرائم
فعلى مدى عقد التسعينيات من القرن العشرين نشبت الحروب في يوغسلافيا واحدة تلو أخرى، ومع كل نهاية حرب تجرى محاكمات للمتورطين في جرائم الحرب بها.
ولا تقوم المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الأشخاص غيابياً، لذا تنتظر تسليمها المطلوبين، وهو أمر قد يمثل مشكلة للمسؤولين الإسرائيليين إذا وُجِّه إليهم الاتهام في حال السفر للخارج، حيث يمكن أن يرفع محامون قضايا في بعض الدول المنضمة إلى المحكمة؛ للمطالبة بتسليمهم.
غضب إسرائيلي من تحقيق المحكمة الجنائية الدولية
وأثار تحقيق المحكمة الجنائية الدولية الأخير في النشاط الإسرائيلي -والفلسطيني- ردات فعل غاضبة من الحملة الانتخابية في إسرائيل.
إذ يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت أحدث تجلّ للاتهام الذي طالما وجهه للهيئات الدولية التي تشكك في النشاط الإسرائيلي، وهو أنها معادية للسامية. بينما هاجم أحد منافسي نتنياهو اليمينيين، أفيغدور ليبرمان، رئيس الوزراء شخصياً لفشله في تفادي هذه الكارثة الدبلوماسية.
في غضون ذلك، دعا حزب ميرتس اليساري إسرائيل إلى إعادة التفكير في سياساتها قيد التحقيق. الآن، ومع انتخابات 23 مارس/آذار في الخلفية، أصدر نتنياهو -الذي عينه رئيس إسرائيل مرة أخرى لتشكيل حكومة- بياناً جديداً يرفض سلطة المحكمة الجنائية الدولية، مشيراً إلى أن إسرائيل لن تتعاون مع إجراءاتها.
إن رد الفعل العنيف من جانب الإسرائيليين ضد احتمال المقاضاة الدولية مؤسف ولكنه متوقع، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لطالما جوبهت مؤسسات العدالة الدولية بالعداء المحلي. ففي يوغوسلافيا على سبيل المثال، قوبلت برفض شديد وتلاعب سياسي.
والآن بعد مرور نحو عقدين من نهاية الحروب اليوغوسلافية يمكن تقييم نتائج محاكم جرائم الحرب اليوغوسلافية.
الهدف كان ردع جرائم الحرب
انتهت الحروب بين دول يوغوسلافيا السابقة بعد سنوات من الوساطة الدولية، والتفاوضات، والدبلوماسية الصارمة. كانت الإجراءات القانونية تهدف إلى تكملة السياسة من خلال ردع جرائم الحرب، ودعم جهود المصالحة طويلة الأجل، ومحاسبة الأطراف المسؤولة.
تأسست المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في عام 1993، في ذروة حرب البوسنة، التي كانت قد بدأت في عام 1992. وكانت أول محكمة لجرائم الحرب منذ محاكمات نورمبرغ. هدفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، كما ورد في قرار الأمن الصادر عن الأمم المتحدة، إلى "وضع حد لمثل هذه الجرائم" و"تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة" من خلال توفير مساحة للضحايا للإدلاء بشهاداتهم حول ما لاقوه.
وعلى الرغم من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة كمؤسسة مؤقتة – مع تحديد عام 2010 تاريخاً لانتهاء مهمتها – استمر عملها حتى عام 2017.
كم عدد الذين أدانتهم محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا؟
كانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة غير قادرة على تحقيق هدفها الأول، وهو ردع جرائم الحرب.
بحلول الوقت الذي أنهت فيه اتفاقية دايتون حرب البوسنة في عام 1995، قُتل أكثر من مئة ألف شخص، وقتلت الغالبية العظمى من المدنيين البوسنيين على يد القوات الصربية البوسنية والجماعات شبه العسكرية. تضمنت حصيلة القتلى هذه بعضاً من أسوأ المذابح التي نجمت عن الصراع، بما في ذلك الإبادة الجماعية في سربرينيتشا. وفي عامي 1998 و1999، بعد أكثر من خمس سنوات من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ذبحت القوات الصربية 8661 ألبانياً آخرين في كوسوفو.
أثبتت المحكمة نجاحها في تعزيز العدالة والمساءلة بأثر رجعي، على الورق على الأقل. بحلول عام 2017، عندما أوقفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عملياتها، كانت قد اتهمت 161 فرداً، وأدانت 90، وبرأت 18 شخصاً. ولكن بغض النظر عن الأرقام، كان التأثير الإصلاحي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على الأرض مضطرباً على أقل تقدير، حسب المجلة الأمريكية.
"مجرمو الحرب أصبحوا أبطالاً"
في صربيا، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، وُصف العديد ممن حوكموا في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأنهم أبطال.
عند إطلاق سراحه المبكر في عام 2015 من حكم بالسجن لمدة 14 عاماً في لاهاي، عُيِّن فلاديمير لازاريفيتش، الجنرال الصربي الذي شرد وقتل المدنيين خلال حرب كوسوفو، على الفور محاضراً في الأكاديمية العسكرية الصربية، حيث وصفه وزير دفاع البلاد بأنه "نموذج يحتذى به".
اثنان من أسوأ مجرمي الحرب الصرب البوسنيين المدانين، رادوفان كارادزيتش وراتكو ملاديتش، اللذان أمضيا سنوات في الاختباء قبل تسليمهما إلى المحكمة، ممجدان في صربيا اليوم؛ حتى أن كارادزيتش حصل على تكريم برلماني في عام 2016.
ويعتبر العديد من سكان كوسوفو رئيس الوزراء السابق راموش هاراديناي، الذي حوكم مرتين وبرأته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة من ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الصرب وآخرين، بطل حرب. في كرواتيا، حضر الآلاف احتفالات تبرئة الجنرالين الكرواتيين أنته جوتوفينا وملادن ماركاتش، اللذين حوكما بتهمة اضطهاد الصرب وقتلهم في كرواتيا.
مع التمجيد العام والسياسي لمجرمي الحرب يأتي تحريف التاريخ. ومع أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أدانت كلاً من كارادزيتش وملاديتش بتهم الإبادة الجماعية، فإن السلطات الصربية البوسنية التي تحكم منطقة جمهورية صرب البوسنة المستقلة بحكم الأمر الواقع تعمل اليوم على إنكار وإعادة كتابة الأحداث التاريخية، ويرفض قادة صربيا وصفها بالإبادة الجماعية. أعاقت روسيا، الداعم القوي لصربيا وجمهورية صرب البوسنة، الجهود الدولية لتمرير قرارٍ لمجلس الأمن الدولي يعترف بسربرينيتشا كإبادة جماعية في عام 2015، وفي عام 2018، أبطلت الجمعية الوطنية لصرب البوسنة تقريراً يعترف بالإبادة الجماعية (المفارقة أنه في عام 2019، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن احتمال تعرض السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا لمذبحة مماثلة لسريبرينيتشا، إذا استعادت كييف السيطرة على منطقة دونباس دون ضمانات).
اليوم، يصدق 12 بالمئة فقط من الصرب في حدوث صربيا إبادة جماعية في سريبرينيتشا، و17 بالمئة فقط يقرون بالعثور على مقابر جماعية لنحو 1000 من ألبان كوسوفو في بلادهم. يبدو أن دول البلقان التي سلمت مجرمي حرب مشتبهاً بهم إلى لاهاي تعتقد أن مسؤولياتها التاريخية انتهت عند هذا الحد.
هذه الميول نحو تحريف التاريخ وادعاء المظلومية صعبت هدف المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة المتمثل في إنشاء "سجل تاريخي لا يقبل الجدال، ومكافحة الإنكار ومساعدة المجتمعات على التصالح مع تاريخها الحديث".
منذ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تطورت العدالة الدولية بشكل كبير، مع أنها لا تزال قيد الإنشاء. افتُتحت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في عام 1995، وتبعتها المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، كمحكمة دائمة تحاكم الأفراد بدلاً من الدول. وهذا ما يميز المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية، التي تأسست بموجب ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 وتسوي النزاعات بين الدول.
أول مواجهة بين إسرائيل والمحاكم الدولية
كانت أول مواجهة كبيرة لإسرائيل مع المحاكم الدولية في عام 2004، رداً على سلسلة من التفجيرات الانتحارية الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية، بدأت الحكومة الإسرائيلية في عام 2002 ببناء حاجز بين الضفة الغربية وإسرائيل، بحجة الاحتياجات الأمنية. لكن النقاد اتهموا الجدار -الذي خنق طريقه المتعرج القرى الفلسطينية وتسبب في عزلها تماماً- بأنه رسخ الاستيلاء الإسرائيلي غير القانوني على الأراضي الفلسطينية وانتهاك حقوق الفلسطينيين.
في يوليو/تموز 2004، أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً غير ملزم بأن الجدار ينتهك القانون الدولي ويجب هدمه. فيما تجاهلت إسرائيل طلب المحكمة تجاهلاً تاماً، وزعمت أن إجراءاتها بمثابة اعتداء مسيس على حقها في الدفاع عن النفس.
ومع ذلك، قد يجادل البعض بأن ذلك الرأي غير الملزم جعل صانعي السياسة الإسرائيليين أكثر عرضة للمساءلة في بلادهم. في عام 2004، وقبل أيام من صدور قرار محكمة العدل الدولية المرتقب، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأنه يجب على الحكومة تعديل مسار الجدار العازل للحد من إلحاق الضرر بالحياة المدنية الفلسطينية. ولكن كما جادل محامي حقوق الإنسان الإسرائيلي مايكل سفارد، صدر حكم المحكمة الإسرائيلية خصيصاً للتخفيف من آثار رأي محكمة العدل الدولية، مع ضمان الموافقة القانونية الشاملة على الجدار. وبالفعل، لا يزال الحاجز قائماً حتى يومنا هذا، على الرغم مما ألحقه من خراب بالمجتمع الفلسطيني.
من غير المرجح أن تنظر إسرائيل أبداً إلى جرائم الحرب المتهم بها جيشها بشكل جاد في المستقبل. يعتقد 92% من اليهود الإسرائيليين أن حرب غزة عام 2014 -وهي جزء من التحقيق الجديد للمحكمة الجنائية الدولية- كانت مبررة في ذلك الوقت. علاوة على ذلك، فإن الجيش الإسرائيلي هو بصفة مستمرة المؤسسة الأكثر ثقة بين اليهود الإسرائيليين. وكما هو الحال في يوغوسلافيا السابقة، من غير المرجح أن تؤدي محاكمة القادة العسكريين أو السياسيين الإسرائيليين إلى تغيير هذا الرأي. رداً على التحقيق الجاري في المحكمة الجنائية الدولية، أعلنت إسرائيل عدم تعاونها مع المحكمة، بل إن البرلمان المنتهية ولايته صاغ مشروع قانون لحظر التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية بموجب القانون.
وكما حدث في يوغسلافيا، قوبل بالحكم بهوس وطني، فلقد قال رئيس حزب يامينا، نفتالي بينيت، الأحد 7 فبراير/شباط: "لو كانت المحكمة الجنائية الدولية تُعِد قائمةً بالإسرائيليين المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب، فأنا أطلب منهم وضع اسمي على رأس تلك القائمة".
ستحقق المحكمة الجنائية الدولية مع حماس لاستهداف مناطق مدنية بالصواريخ واستخدام دروع بشرية، من بين اتهامات أخرى. لكن في إسرائيل، يسود تصور عام بأن إسرائيل هي الضحية.
ما القضايا الثلاث الرئيسية التي ستُحقّق فيها المحكمة على الأرجح؟
الأولى: حرب غزة عام 2014، ويشمل ذلك مسألة الهجمات غير المتناسبة بواسطة الجيش الإسرائيلي، وهجمات الصواريخ العشوائية بواسطة الجماعات الفلسطينية المسلحة، ومن بينها حماس.
والثانية: استخدام الجيش الإسرائيلي للقوة الغاشمة ضد "مسيرات العودة الكبرى" التي قادتها حماس بطول حدود غزة، والتي انطلقت في مارس/آذار عام 2018، وانتهت في ديسمبر/كانون الأول عام 2019.
والثالثة: النظر في قضية ما إذا كانت الأنشطة الاستيطانية بالضفة الغربية والبناء اليهودي في القدس الشرقية منذ 2014، يمكن اعتبارهما جرائم حرب. كما من الممكن النظر في تجريف إسرائيل المباني الفلسطينية بشكلٍ عرضي، ولكنّها لن تكون قضيةً رئيسية.
موقف أمريكا لم يتغير كثيراً بعد تولي بايدن السلطة
بعدما أعلنت المحكمة الجنائية الدولية عن تحقيقها مع الإسرائيليين والفلسطينيين، تبنت إدارة بايدن في البداية سياسة إدارة بوش التي تعارض توجيه اتهامات لإسرائيل، ولكنها تراجعت مؤخراً عن عقوبات إدارة ترامب ضد مسؤولي المحكمة.
ومؤخراً، قالت الخارجية الأمريكية إن الفلسطينيين ليس لديهم دولة ذات سيادة، وبالتالي لا يمكنهم تفويض الولاية القضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية، واصفاً هذا القرار بأنه "غير عادل" ويستهدف إسرائيل.
ومع ذلك، فقد الفلسطينيون كل ثقتهم في الولايات المتحدة كوسيط عادل، في الوقت الذي استغلت فيه أصوات اليمين في إسرائيل تحقيق المحكمة الجنائية الدولية لتجنب عملية السلام تماماً.
على الرغم من حقيقة أن الإجراءات القانونية الدولية -سواء في يوغوسلافيا السابقة أو في إسرائيل- يمكن أن يكون لها تداعيات مقلقة على السياسة المحلية، وقد تؤثر سلباً في دعم العدالة الدولية، فإن أهداف المحاكم الدولية تظل ملحة كما كانت دائماً.
لكن القانون لن يُمارس أبداً بمعزل عن السياسة. طغت التلاعبات السياسية المحلية على سعي المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لتحقيق العدالة في يوغوسلافيا السابقة، إلى جانب أن عمل المحكمة الجنائية الدولية في الأراضي الفلسطينية يواجه بالفعل مصيراً مشابهاً.