رغم امتلاك الصين أسطولاً بحرياً أكبر حجماً من نظيره الأمريكي، تقول تقارير غربية إن بكين تعتمد على ميليشيات بحرية تنتشر في بحر الصين الجنوبي لتنفيذ مهام محددة تفادياً لمواجهة عسكرية مفتوحة مع واشنطن، فما القصة؟
التقارير حول تلك الميليشيات التي تتشكل من المئات من سفن الصيد ذات اللون الأزرق والآلاف من الرجال الذين يرتدون زياً بنفس اللون، تتزامن مع الكشفت مؤخراً عن استراتيجية تعمل من خلالها الصين على بناء مدمرات وسفن حربية برمائية وحاملات وغواصات مُسلَّحة نووياً وقوارب هجوم سريع، إضافة إلى العديد من المنصات البحرية الأخرى ضمن جهد واضح لفرض هيمنتها إقليمياً وعلى البحار الدولية، وكذلك "استبدال الولايات المتحدة، الشريك المفضل لعدد من الدول في أنحاء العالم".
والحديث هنا عن من باتوا معروفين لدى خبراء الشأن الصيني بلقب "الرجال الزرق الصغار"، وهي في واقع الأمر ميليشيات بحرية تُسيطر عليها بكين، ويقول المراقبون إن حجمها قد يصل إلى مئات القوارب والسفن، إلى جانب آلاف من أفراد الطواقم العاملة بها، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
الصين تنفي وجود ميليشيات بحرية
من جانبها لا تعترف الصين بوجود تلك الميليشيات وعندما تُسأل عنهم ترد بأن تلك مزاعم غربية، لكن، في مقابل ذلك، يقول خبراء غربيون إن تلك السفن وطواقمها، التي يُتداول الزعم بأنها مجرد ميليشيات بحرية، هي في حقيقة الأمر جزءٌ لا يتجزأ من فرق العمل التي تستعين بها بكين لدفع مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وما وراءه قدماً.
ويذهب هؤلاء الخبراء إلى أن تلك السفن المطلية باللون الأزرق وطواقمها -التي يُزعم أن جيش التحرير الشعبي الصيني يموّلها ويسيطر عليها- تملك القدرة على استدعاء حضورٍ صيني مكثف وسريع للغاية حول الشعاب الصخرية والجزر المتنازع عليها، بحيث يكاد يكون من المستحيل تجاوزها دون إشعال مواجهة عسكرية.
وتصدرت تلك السفن الصينية التي تدور المزاعم حول كونها ميليشيات بحرية عناوين الأخبار في مارس/آذار الماضي عندما احتشدت أكثر من 200 سفينة صيد صينية حول منطقة الشعاب الصخرية "ويتسون ريف" Whitsun Reef، وهي ملكية فلبينية في سلسلة جزر "سبراتلي" Spratly الواقعة في بحر الصين الجنوبي.
وقال المحللون في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في سنغافورة إنهم لم يروا قط عمليةً صينية بحرية بهذا الحجم من قبل، وفي تناولهما للواقعة، كتب سمير بوري وغريغ أوستن، وكلاهما زميلان بارزان في المعهد، الأسبوع الماضي: "واقعة (ويتسون ريف) لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم، والأهم من ذلك، من حيث طول المدة: فقد تجمَّع أكبر عدد شهدناه في أي وقت من سفن الصيد الصينية على تخوم إحدى مناطق الشعاب الصخرية في أرخبيل سبراتلي، وبقيت هناك لعدة أسابيع".
واحتجّت الفلبين على واقعة "ويتسون ريف" في بكين، ووصفت تحركات السفن بأنها نوع من "الاحتشاد والحضور التهديدي"، وقالت إن أسطول السفن الصيني ينتهك أراضي فلبينية ومناطق صيد تابعة لها. وطالبت مانيلا السفن الصينية بمغادرة المنطقة التي يُفترض أنها منطقة اقتصادية خالصة تابعة لها.
بينما ردَّت بكين بأن القوارب، التي وصل عددها إلى 220 قارباً وسفينة في أحد الأوقات وفقاً للحكومة الفلبينية، كانت ببساطة تهرب من موجات بحرية هائجة ولجأت إلى بحيرة شكّلتها شعاب "ويتسون ريف" الصخرية على شكل زاوية منفرجة، والتي تسميها بكين منطقة "نيو جياو" وتدّعي أنها جزء من أراضيها.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، إن "الأمر يتعلق بوضع بحري طارئ، إذ اضطرت بعض قوارب الصيد إلى الاحتماء من الرياح القوية بالقرب من منطقة (نيو جياو)، وهو أمر طبيعي تماماً. ونأمل أن تتمكن الأطراف المعنية من النظر إلى الأمر بمنظور منطقي"، أما السفارة الصينية في مانيلا فكانت أشد صراحة في ردها على النقاش المتداول، وقالت: "لا توجد ميليشيات بحرية صينية كما يُزعم".
تواصلَ الأخذ والرد الدبلوماسي بين المسؤولين الفلبينيين والصينيين الأسبوع الماضي، فقد وصفت السفارة الصينية في مانيلا تصريحات وزير الدفاع الفلبيني بشأن القوارب الصينية بأنها "هوجاء" و"مثيرة للريبة"، وعلى الجانب الآخر، ردت وزارة الخارجية الفلبينية على بيان السفارة الصينية، ببيانٍ تذكِّر فيه الصين بأن دبلوماسييها ليسوا إلا "ضيوف" في مانيلا، وتعهدت بإصدار احتجاجات دبلوماسية يومية ما دامت السفن الصينية موجودة في المناطق البحرية الفلبينية.
ما قصة تلك الميليشيات البحرية؟
على الرغم من إنكار الحكومة الصينية، فإن الدوائر الغربية تعتمد توصيف البنتاغون بوجود "الميليشيات البحرية التابعة للقوات المسلحة الصينية" (PAFMM)، ويقول كارل شوستر، المدير السابق للعمليات في مركز الاستخبارات المشترك التابع لقيادة المحيط الهادئ الأمريكية، لشبكة CNN: "إن سفن الميليشيات البحرية التابعة للجيش الصيني لا تصطاد. لديهم أسلحة أوتوماتيكية على متنها وهياكل معززة، ما يجعلها شديدة الخطورة على المسافات القريبة. كما تصل سرعتها القصوى إلى نحو 18 إلى 22 عقدة، ما يجعلها أسرع من 90% من قوارب الصيد في العالم".
واعتاد بعض الخبراء الإشارةَ إلى الميليشيات الصينية باسم "الرجال الزرق الصغار"، في إشارة إلى اللون الذي تُطلى به قواربهم وسفنهم وأيضاً إلى قوات "الرجال الخضر الصغار"، وهم جنود ملثمون بأزياء عسكرية خضراء غير مميزة تسللوا إلى شبه جزيرة القرم قبل أن تضمها موسكو في عام 2014 [وهي قوات أنكرت روسيا تبعيَّتهم لها في البداية، قبل أن يقر بوتين بوجود قوات روسية في الأزمة بعد ذلك].
وذكر تقرير صدرَ في ديسمبر/كانون الأول عن قادة البحرية الأمريكية ومشاة البحرية وخفر السواحل، أن "بكين تستخدم ميليشياتها البحرية لانتهاك سيادة الدول الأخرى وفرض ادّعاءاتها غير القانونية".
وكتب كونور كينيدي وأندرو إريكسون، وهما خبيران أمريكيا بارزان في الموضوع، في تقرير لهما صدر عن الكلية البحرية الأمريكية في عام 2017، أن "الميليشيات البحرية عنصر رئيسي في القوات المسلحة الصينية وجزء مما تسميه الأخيرة (منظومة القوات المسلحة الشعبية)"، وأضاف الخبيران الأمريكيان أنها "قوة تتولى تنظيمها الدولة وتطورها وتتحكم فيها، وتعمل في إطار تسلسل قيادي عسكري مباشر للقيام بأنشطة ترعاها الدولة الصينية".
وقال إريكسون لشبكة CNN إن الميليشيات البحرية المزعومة مدمجةٌ في أسطول سفن الصيد الصيني، وهو الأكبر في العالم بعدد قوارب يصل إلى أكثر من 187 ألف قارب وسفينة، لكن العدد الفعلي للقوارب المسلحة لا يزال غير واضح للخبراء الغربيين.
ويقول الخبراء إن قادة تلك السفن، أياً كانت رتبهم وطبيعة انتمائهم للجيش الصيني، فهم يستطيعون قيادة أساطيل كبيرة من قوارب صيد فعلية وتوجيهها ضمن إجراءات محددة لخدمة سياسات الحكومة الصينية ومطالباتها الإقليمية، ومنها المطالبات في بحر الصين الجنوبي.
وأوضح إريكسون الأمر لشبكة CNN، قائلاً إن "الصين عادة ما تلتزم السرية بشأن قوتها البحرية الثالثة (خلاف القوات البحرية وخفر السواحل التابعة رسمياً للجيش الصيني)، التي يمكن القول إن عددها بالآلاف من السفن وعشرات الآلاف من الأفراد، وربما أكثر من ذلك".
من جهة أخرى، يشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2020 بشأن الجيش الصيني إلى وجود 84 قارباً فقط يتبعون فعلياً الميليشيات البحرية الصينية، وكلها مخصصة لوحدةٍ تعمل من سانشا الواقعة في جزيرة هاينان، في الروافد الشمالية لبحر الصين الجنوبي. وقال التقرير إن الوحدة، التي تأسست في عام 2016، تحصل على دعم مستمر للعمل في جزر سبراتلي.
وذكر التقرير أن "وحدة الميليشيات البحرية التابعة للجيش الصيني (PAFMM) هي الوحدة الأكثر احترافية في الصين. وتتلقى قواتها رواتب مستقلة عن أي مهام معروفة للصيد التجاري، ويُجنَّد أفرادها من قدامي العسكريين المتقاعدين مؤخراً".
متى تشكلت تلك الميليشيات البحرية؟
كتب غروسمان، المحلل بمؤسسة "راند"، أن تشكيل الميليشيات البحرية الصينية يمكن تتبع جذوره إلى الأيام التي تلت الثورة الشيوعية في عام 1949 عندما بحثت حكومة ماو تسي تونغ عن سبلٍ للدفاع عن سواحلها، ولما كانت الصين لا تملك أي قوة بحرية تُذكر وقتها، اختارت بكين أن تضخ الأموال والتدريبات في ميليشيات بحرية تنبثق عن نظامها القومي ويؤمن أفرادها بمبادئه.
وأضاف غروسمان أنه بحلول الستينيات، ومع تطور القوات البحرية للجيش الصيني، بدأت الصين في تدريب تلك الميليشيات على التكتيكات والعمليات العسكرية ورفعت من وتيرة استخدامها لأداء مزيد من المهام البحرية المنوط بها الجيش الصيني.
وفي عام 1974، عندما دخلت الصين في حرب مع فيتنام الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة، للسيطرة على جزر باراسيل في بحر الصين الجنوبي، برهنت سفن الصيد على جدواها في العمليات القتالية، بحسب غروسمان.
فقد استخدمت البحرية الصينية وقتها سفينتي صيد لإيصال 500 جندي صيني إلى الجزر المتنازع عليها، وأدى وجود قوارب صينية مدنية حول الجزر إلى إرباك عملية اتخاذ القرار العسكري الفيتنامي، وفقاً لمحلل مؤسسة "راند".
ويقول غروسمان: "إن أحد الدروس الرئيسية التي استفادتها بكين هو أن الاعتماد على ميليشيات الصيد المدنية جعل الولايات المتحدة أبعد بكثير عن احتمالية التدخل في الأمر، حتى عندما كان الجار المهدد حليفاً للولايات المتحدة"، ويشير غروسمان وخبراء آخرون إلى أن الصين استخدمت الميليشيات البحرية في عملياتها التي أدت إلى السيطرة على منطقة شعاب "ميجي ريف"، و"سكاربورو شول" المتنازع عليها أيضاً مع الفلبين، في عامي 1995 و2012 على التوالي.
وقال حكم صادر عن محكمة المنازعات التابعة للأمم المتحدة إن كلا المنطقتين تقعان في المنطقة الاقتصادية الخالصة لدولة الفلبين، لكن الصين لا تعترف بهذا الحكم. ومن جانبه، قال وزير الدفاع الفلبيني، ديلفين لورنزانا، إن "استمرار وجود الميليشيات البحرية الصينية في المنطقة يكشف عن نيتها احتلال المزيد من المناطق في بحر الفلبين الغربي".
على صعيد آخر، استخدمت الصين قوارب الصيد أيضاً لمواجهة البحرية الأمريكية مباشرة، وفقاً لتقرير صادر عن "مبادرة الشفافية البحرية الآسيوية" (AMTI)، وهي هيئة تابعة لـ"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الأمريكي.
ففي 9 مارس/آذار، زُعم أن زورقي صيد -يعملان مع سفن بحرية وسفن صيد صينية- حاولوا استهداف سفينة مسح أمريكية على متنها مدنيون، في بحر الصين الجنوبي. وتوقفت سفن الصيد الصينية أمام السفينة الأمريكية، ما أجبرها على التوقف على نحو طارئ لتجنب الاصطدام، وفقاً للتقرير.
ما الغرض من تشكيل ميليشيات بحرية؟
يقول الخبراء الغربيون إن الغرض من تشكيل الميليشيات البحرية، وأن تكون هناك قوة بحرية غير نظامية، تابعة للصين هو أن تعمل تلك الميليشيات بأعداد ضخمة في خدمة المطالبات الصينية في الأقاليم المحيطة بها دون أي إشراك رسمي لجيش التحرير الشعبي الصيني على الإطلاق.
وحتى إذا كانت السفن الرئيسية المستخدمة، مثل تلك التي تحدثت التقارير العسكرية الأمريكية عنها، قليلة نسبياً من جهة العدد، فإن الواقع يشهد بأنها يمكن أن تقود معها زوارق بحرية بالمئات، كما رأينا في واقعة "ويتسون ريف".
كما لفت ديريك غروسمان، وهو محلل للشؤون العسكرية في مؤسسة "راند"، العام الماضي، إلى أن "القوات التي تتولى العمل في (المناطق الرمادية) هذه وعملياتها البحرية صُمِّمت من أجل (الانتصار دون قتال) على خصومها، عن طريق إغراقه بأسراب من سفن الصيد" التي تعجز السفن العسكرية عن التعامل معها.
ومن وجهة النظر التكتيكية، فإن قوارب الصيد هذه تشكّل مئات العوائق التي سيتعيّن على خصم، مثل البحرية الأمريكية، التعامل معها وحلها. وإذا استدعينا أن البحرية الأمريكية في الغالب لن تنشر سوى عدد قليل فقط من المدمِّرات البحرية لمواجهة التحركات الصينية، فإن هذا يعني أن الأعداد الضخمة من القطع البحرية ستكون في صالح الصين.
وفي تقرير أصدرته دورية Military Review التابعة للجيش الأمريكي في وقت سابق من هذا العام، كتب الباحثان شوشيان لو، من جامعة جونز هوبكنز، وجوناثان بانتر، من جامعة كولومبيا: أنه لما كانت هذه قوارب وسفن الصيد هذه رخيصة الثمن، فإن الواقع أنها ستفوق دائماً، من ناحية العدد، عدد السفن البحرية التي قد توفرها الولايات المتحدة، ومن ثم، يشير الباحثان إلى أنه حتى قوارب الصيد الحقيقية غير المسلحة، التي تعمل تحت قيادة سفن الميليشيات البحرية، يمكن أن تتحول إلى قوة عسكرية فعالة.
ويوضح الباحثان تكتيك عمل هذه القوارب، بالقول: "بدلاً من تهديد التحركات المباشرة، تشكل سفن الصيد الصينية خطراً أشد إرباكاً. إذ عند نشرها بأعداد، ولو حتى محدودة، يمكن لقوارب الصيد أن تعطّل، إن لم تحظر تماماً، قدرة أي سفينة بحرية على إجراء عملياتها الحربية ضد الغواصات وعمليات الطيران بطائرات الهليكوبتر التابعة لها".
ومن وجهة النظر الاستراتيجية، كتب الباحثان أن "التحدي الذي تنطوي عليه هذه السفن تحدٍّ خطير"، خاصة لدول جنوب شرق آسيا الأخرى التي لديها مطالبات بحقوق وميزات في بحر الصين الجنوبي لكن ليس لديها القوة العسكرية اللازمة لمواجهة الصين.
كما أن "الدول الأضعف، التي تدرك تبعية سفن الصيد الصينية المحتملة للجيش الصيني، قد تتردد في التعامل معها بطريقةٍ قد تثير أي رد فعل ضدها من جمهورية الصين الشعبية (الحكومة المركزية في بكين)"، لكن في نفس الوقت، ولما كانت الصين تقول إنها ليست سفناً عسكرية، فيمكنها أن تدعي أن أي إجراء أو عمل تتخذه قوات بحرية أجنبية ضد هذه القوارب وسفن الصيد يشكّل هجوماً على مدنيين صينيين.
ومع ذلك، كتب الباحثان الأمريكيان أن "العوامل نفسها التي تجعل الميليشيات البحرية قوة لا يمكن إنكارها (طواقم العمل المدنية فيها وتقنيات الاستخدام المزدوج لأغراض مدنية وعسكرية) تزيد أيضاً من مخاطر وقوع حوادث وتصعيد" إلى مواجهات. ولا يقتصر الأمر هنا على احتمالية اندلاع مواجهات مع السفن الأمريكية على نحوٍ يفضي إلى صراع أوسع نطاقاً. فقد قال بيان صادر عن البيت الأبيض إن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، تحدث مع نظيره الفلبيني، وقال إن معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة والفلبين تسري على الواقعة الأخيرة، وهذا يعني أن أي عمل عدائي ترتكبه السفن الصينية ضد القوات أو الأراضي الفلبينية قد يؤدي إلى رد عسكري أمريكي.