تحول السؤال بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق إلى ما يشبه اللغز، فمتى وكيف يمكن أن تسحب واشنطن قواتها من بغداد؟
الغموض المحيط بتلك النقطة ازداد كثافةً خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، في ظل صدور بيان مشترك عن وزيرَيْ خارجية البلدين، يفيد باستمرار عملية سحب واشنطن جنودها المقاتلين من بغداد، ونفي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية وجود "أي تفاهم" في هذا الشأن.
وكانت قضية القوات الأمريكية في العراق قد أصبحت على صفيح ساخن منذ مطلع العام الماضي، بعد أن اتخذ البرلمان العراقي قراراً يوم 5 يناير/كانون الثاني، بخروج جميع القوات الأجنبية -بما فيها الأمريكية- من البلاد، كردّ فعل على اغتيال واشنطن الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي مهدي المهندس، في ضربة صاروخية استهدفتهم لدى خروج موكبهم من مطار بغداد الدولي، فجر الثالث من يناير/كانون الثاني 2020.
بيان من وزيري الخارجية بسحب القوات
مساء الأربعاء 7 أبريل/ نيسان، صدر بيان مشترك عن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونظيره العراقي فؤاد حسين، يفيد باتفاق الجانبين على "استمرار عملية انسحاب القوات الأمريكية من العراق"، وجاء البيان في إطار جلسات الحوار الاستراتيجي بين الجانبين، التي تتم من خلال تقنية الفيديو بسبب جائحة كورونا.
ويشير بيان وزيري الخارجية إلى تنفيذ قرار البرلمان العراقي المتخذ في العام الماضي، بشأن خروج القوات الأجنبية، التي تقدر أعدادها حالياً بنحو 3000 جندي يشكلون ما تبقى من قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية داعش، بينهم 2500 أمريكي.
وكان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد قرر عام 2011 سحب قوات بلاده التي كانت موجودة على الأراضي العراقية منذ الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين في عام 2003، لكن منذ عام 2014 تم إرسال قوات أمريكية مرة أخرى تحت مظلة التحالف الدولي، الذي تشكل لمحاربة تنظيم داعش، ورغم إعلان التحالف هزيمة التنظيم ظلت قوات التحالف هناك، وإن تقلص عددها في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
وبعد التطورات التي شهدتها المنطقة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، أصبحت القوات والقواعد الأمريكية على الأراضي العراقية ملفاً رئيسياً في التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران، إذ تتمتع الأخيرة بوجود قوي من خلال ميليشيات الحشد الشعبي، التي تشكلت أثناء الحرب ضد داعش وتدين بالولاء لإيران.
وتعرضت القوات والقواعد الأمريكية لهجمات متعددة من جانب الميليشيات العراقية، وخاصة حزب الله العراقي، واستهدفت واشنطن قواعد الحزب بضربات صاروخية في أكثر من مناسبة.
لكن ذروة التوتر في ذلك الملف جاءت في أعقاب اغتيال سليماني والمهندس، إذ حاصرت ميليشيات الحشد الشعبي السفارة الأمريكية، وكادت أن تقتحمها، في تذكير بما تعرضت له السفارة الأمريكية في طهران بعد ثورة الخميني عام 1979، ومع اتخاذ البرلمان العراقي قرار إخراج القوات الأجنبية -الأمريكية بشكل أساسي- بدأت جولات من الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد منذ يونيو/حزيران الماضي -تحت إدارة ترامب- تهدف إلى التوصل لاتفاق يحكم العلاقة الأمنية بين الطرفين، تمهيداً للانسحاب التام للقوات الأمريكية.
موقف غامض من جانب البنتاغون
الجولة الحالية من الحوار الاستراتيجي التي انطلقت الأربعاء هي الأولى بين الجانبين في ظل إدارة جو بايدن، التي تسعى جاهدةً لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي فإن البيان الصادر عن وزير الخارجية بلينكن يراه البعض متسقاً مع ما رشح عن الإدارة الجديدة حتى الآن، ويصب في النهاية نحو إقناع إيران بالعودة للاتفاق.
لكن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي، قال الخميس 8 أبريل/نيسان، إنه "لا يوجد أي تفاهم مع بغداد حول الجدول الزمني المتعلق بعملية سحب القوات القتالية لبلاده من العراق، وهو ما زاد من حالة الغموض بشأن قضية انسحاب القوات.
وجاءت تصريحات كيربي خلال المؤتمر الصحفي اليومي له، والتي قال فيها إن عبارة "التوصل لتوافق بخصوص استمرار عملية سحب القوات القتالية الأمريكية بالعراق" الموجودة بالبيان المشترك، "لا تعني في الواقع أن الانسحاب سيبدأ"، مضيفاً: "البيان ينص على أنه تقرر إجراء مباحثات فنية إضافية من قبل الطرفين بخصوص الانسحاب النهائي".
كما لفت كيربي إلى أن وجود الولايات المتحدة بالعراق يأتي بناءً على موافقة ودعوة بغداد، مضيفاً "والمهمة التي تم إطلاقها ضد تنظيم داعش الإرهابي لم تكن قائمة على وجود عسكري أمريكي دائم هناك، والإدارة (الأمريكية) ذكرت منذ فترة طويلة أنها يوماً ما ستسحب جنودها".
متحدث البنتاغون زعم كذلك أن هناك اتفاقاً بين الجانبين على أهمية الوجود الأمريكي بالبلاد، متابعاً "وما ترونه في البيان هو في الواقع تأكيد على أهمية شراكتنا مع العراق، والمهمة المستمرة ضد داعش، وفي نهاية المطاف سنتحدث عن التوقيت المناسب لانسحاب مناسب".
وجدد كيربي تأكيده على أن "نية الولايات المتحدة في الانسحاب ليست جديدة، لكن النقطة الجديدة في البيان هي: إجراء محادثات فنية بشأن الانسحاب"، مبيناً أنه "لا يوجد تفاهم حالياً على موعد انسحاب بعض الجنود"، بحسب وكالة الأناضول.
المعركة ضد داعش
وتوقف بعض المحللين عند عبارة "المعركة المستمرة ضد داعش"، التي استخدمها المتحدث باسم البنتاغون للتدليل على أن قرار الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق ربما لا يكون أمراً محسوماً أو سريعاً كما بدا من البيان الدبلوماسي الصادر عن وزيري الخارجية.
وبحسب تقرير لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية، الجولة الحالية من الحوار الاستراتيجي بين البلدين جاءت بطلب من العراق، نتيجة للضغط المتزايد من جانب الفصائل السياسية والميليشيات الشيعية التي تدين بالولاء لإيران، على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لضمان انسحاب باقي القوات الأمريكية من العراق في أسرع وقت.
ويواجه الكاظمي موقفاً أشبه بالسير على الحبل، حسب توصيف الوكالة الأمريكية، يتمثل في التحدي الذي تمثله الميليشيات المسلحة التي تدين بالولاء لطهران وتتحدى رئيس الوزراء علناً، متخذة من وجود القوات الأمريكية ذريعة، وفي الأسبوع الماضي تكرر مشهد المسيرات المسلحة في شوارع بغداد، والمطالبة "بطرد القوات الأمريكية"، مهددةً مرة أخرى "بقطع أذن الكاظمي" إذا لم يحدث ذلك الانسحاب.
وتعليقاً على البيانات الخاصة بالانسحاب، قال المتحدث باسم الجيش العراقي الجنرال يحيى رسول، إن رئيس الوزراء أصدر أوامره بتشكيل لجنة تتولى المحادثات الفنية مع الجانب الأمريكي، للتوصل إلى توافق بشأن "آليات وتوقيتات" عملية انسحاب القوات الأمريكية.
الخلاصة أن عملية انسحاب القوات الأمريكية من العراق، رغم أن عددها لا يزيد عن 2500 الآن، ربما لا تتم في الحال كما يبدو، إضافة إلى أن كيفية إتمام تلك العملية ليست واضحة، ويرى كثير من المحللين أنها تأتي في قلب الملف الأكبر المرتبط بالاتفاق النووي مع إيران.