تواصل حكومة الوحدة والمجلس الرئاسي في ليبيا التعامل مع الملفات الشائكة التي خلفتها سنوات الانقسام والصراع، ويبدو أن التغيير الاستراتيجي للموقف الأمريكي يلعب دوراً هاماً في هذا السياق، فما الذي تغير في واشنطن وانعكس على ليبيا؟
وفي أحدث خطوات السلطة الجديدة في ليبيا، أعلن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي تأسيس مفوضية وطنية عُليا للمصالحة الوطنية لحل الخلافات بين الليبيين، وذلك في مؤتمر صحفي عقده المنفي مع نائبيه موسى الكوني وعبد الله اللافي في العاصمة طرابلس أمس الإثنين 5 أبريل/نيسان.
وقال المنفي: "أعلن لكم عن خطوة لطالما انتظرناها جميعاً، ألا وهي إطلاق مشروع حقيقي للمصالحة الوطنية يجمع بين أبناء شعبنا ويؤلف بين قلوبهم ويطوي صفحة الماضي"، وأضاف: "أعلن عن تأسيس المفوضية الوطنية العليا للمصالحة لتكون صرحاً يجمع الليبيين ويجبر الضرر ويحقق العدالة بينهم بما يكفله القانون"، دون تفاصيل عن اختصاصها وتشكيلها.
ويأتي هذا التطور في إطار تنفيذ خارطة الطريق التي تم التوافق حولها من خلال ملتقى الحوار السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة وشهدت تشكيل حكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة والتي تسلمت مهامها رسمياً في 16 مارس/آذار الماضي إضافة إلى المجلس الرئاسي الجديد، والهدف الرئيسي أمام السلطة المؤقتة هو قيادة البلاد إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
استراتيجية جو بايدن في ليبيا
وفي سياق الملف الليبي من الواضح أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر انخراطاً وتسعى لتفعيل أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية وتنشيط دور حلفائها الأوروبيين، وذلك في ظل إدارة جو بايدن، على عكس موقف الإدارة السابقة برئاسة دونالد ترامب التي يتهمها كثير من المحللين بالتسبب في تفاقم الصراع وإطالة أمده.
وتتجه إدارة بايدن لإعادة بلورة استراتيجية جديدة في ليبيا، تختلف عن تلك التي تبناها ترامب، والتي اعتمدت لغة غامضة وملتبسة تجاه طموحات زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر لحكم البلاد. إذ على عكس ترامب، لا تبدو إدارة بايدن متساهلة مع التجاوزات التي ارتكبتها ميليشيات حفتر، بحسب تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان لعام 2020، الذي صدر الثلاثاء 30 مارس/آذار الماضي.
التقرير الأمريكي وجّه اتهامات مباشرة لميليشيات حفتر بالتورّط في عمليات قتل تعسفي وغير مشروع وإخفاء قسري وتعذيب، وتجنيد أطفال واستخدامهم في الصراع، وتحدث عن استيلاء جماعات متحالفة مع حفتر على مدينة سرت (وسط) وتعرض العديد من المدنيين للاختطاف والاحتجاز بسبب "ولائهم" لحكومة الوفاق الوطني، وكذلك جرائم ميليشيا الكاني في مدينة ترهونة (غرب)، بحسب وكالة الأناضول.
ويعتبر هذا التقرير مؤشراً على طبيعة تحرك واشنطن خلال المرحلة المقبلة تجاه ميليشيات حفتر، في ظل انتشار الاغتيالات والاختطافات خاصة في مدينة بنغازي (شرق)، التي يكاد يخرج الوضع الأمني فيها عن السيطرة، حيث التزم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال عرضه للتقرير، باستخدام عبارة "كل أدوات دبلوماسيتنا للدفاع عن حقوق الإنسان ومحاسبة الذين يرتكبون الانتهاكات".
أي سلاح قد تلجأ إليه واشنطن في ليبيا؟
وسبق لمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، أن أصدر بياناً في 12 مارس/آذار أكد فيه العمل "على تعزيز المساءلة لأي طرف يسعى إلى تقويض خارطة الطريق الانتخابية التي وضعها الليبيون".
وهذه رسالة موجهة بشكل رئيسي لحفتر، الذي أجهض محاولات سابقة لإجراء انتخابات في 10 ديسمبر/كانون الأول 2018، كما نصّ عليها اتفاق باريس، وأيضاً انتخابات ربيع 2019، بحسب اتفاق باليرمو (إيطاليا)، بين أطراف الصراع.
لكن حفتر اختار ربيع 2019، موعداً لبدء هجومه الكبير على طرابلس بدل إجراء الانتخابات، خاصة بعد المكالمة الشهيرة التي أجراها مع إدارة ترامب، واعتبرت "ضوءاً برتقالياً" لمواصلة القتال، الذي استمر 14 شهراً، وخلّف آلاف القتلى والجرحى، وجلب معه الخراب والمئات من مرتزقة "فاغنر" الروس.
وتراهن الولايات المتحدة والأمم المتحدة على إجراء انتخابات ليبية ذات مصداقية وتوفير الخدمات العامة الأساسية لإنهاء النزاع من خلال عملية سياسية شاملة، بحسب بلينكن، الذي أجرى اتصالاً هاتفياً مع رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة.
سر القلق الأمريكي
لا شك أن انتشار نحو ألفين من مرتزقة "فاغنر" في ليبيا يشكّل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، خاصة في ظل معلومات حول مساعي موسكو لإقامة تواجد عسكري دائم في البلاد، ما يمثل أكبر تهديد لمصالح حلف شمال الأطلسي (الناتو) جنوب المتوسط.
إذ يواصل مرتزقة "فاغنر" حفر الخنادق وتحصين مواقعهم، بحسب تقارير لقوات عملية "بركان الغضب" التابعة للجيش الليبي، ما يؤشر على أن انسحابهم قد لا يكون قريباً، لذلك تسعى واشنطن لتنشيط دور حلفائها الأوروبيين من أجل وضع ليبيا على جدول أولوياتهم، في مواجهة أي تمدد روسي بالمنطقة.
وفي هذا السياق جاءت مشاركة بلينكن في اجتماع وزراء خارجية الناتو، في 23 مارس/آذار، ببروكسل، لبحث عدة ملفات بينها التحديات التي تمثلها روسيا في ليبيا.
وبعد يومين من هذا الاجتماع زار وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا، العاصمة طرابلس، للتعبير على أن أوروبا موحدة بموقفها تجاه الوضع في ليبيا، والتأكيد على مساندتها لحكومة الوحدة الوطنية، وهذا الموقف الأمريكي الأوروبي الداعم لحكومة الوحدة، يعزز تآكل الثقة الدولية في حفتر، الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية في استجلاب المرتزقة الروس إلى ليبيا.
استبعاد مواجهة أمريكية – روسية هناك
وتستبعد عدة أوساط أمريكية متابعة للملف الليبي لجوء الولايات المتحدة إلى القوة لإخراج مرتزقة "فاغنر" من ليبيا، فالتدخل العسكري الأمريكي في ليبيا عام 2011، كان من نتائجه تثبيت المرتزقة الروس أرجلهم في قاعدتين جويتين في كل من سرت والجفرة (وسط)، وهذا آخر ما كان يتوقعه صانع القرار الأمريكي قبل 10 سنوات.
لذلك من المتوقع أن تُفعّل واشنطن أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية للضغط على موسكو لإخراج مرتزقتها من ليبيا، وأيضاً قد يطال هذا الضغط حلفاءها في المنطقة الذين سهّلوا من تواجد "فاغنر" في الجناح الجنوبي لحلف الناتو.
ويعتبر البعض أن تجميد إدارة بايدن لصفقة بيع طائرات "إف 35" للإمارات يأتي في جزء منه كنوع من الضغط الأمريكي على أبوظبي لوقف تنسيقها العسكري مع روسيا في ليبيا، لكن بايدن يواجه انقساماً في رؤية الحزبين الديمقراطي والجمهوري بالكونغرس تجاه الحل في ليبيا.
فبينما صادق مجلس النواب الأمريكي على "قانون دعم الاستقرار في ليبيا"، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ما زال القانون معلقاً على مستوى مجلس الشيوخ الذي كان يتمتع فيه الجمهوريون بالأغلبية، لكن هذا الانقسام لم يمنع واشنطن من إدراج ميليشيا الكانيات، التابعة لميليشيات حفتر، على قائمة العقوبات، في نفس الشهر.
وينص "قانون دعم الاستقرار في ليبيا"، على إعداد قائمة بأسماء المخترقين للقانون الدولي ولحقوق الإنسان في ليبيا، وفرض عقوبات ضد مَن ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم مالية، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من ولاية بايدن، تبدي واشنطن انخراطاً أكثر في الملف الليبي، لاستعادة المبادرة من أطراف دولية على رأسها روسيا.
كما سعت لتنشيط حلفائها الأوروبيين من أجل مزيد من التدخل في الملف الليبي، لكنها تواجه انقساماً داخلياً في الكونغرس عرقل اعتماد "قانون الاستقرار في ليبيا"، ورمت واشنطن بثقلها خلف إجراء الانتخابات في موعدها، مع تهميش دور حفتر دون استبعاده تماماً، لقدرته على تقويض السلام في البلاد.