كثف المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية الليبية المنبثقة عن حوار جنيف زياراتهم للدول المنخرطة في النزاع الليبي الذي وصل إلى عقده الأول، إذ قام الأسبوع الماضي رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بزيارة فرنسا أولاً، تبعها بزيارة لمصر، وأخيراً زار تركيا وقابل الرئيس رجب طيب أردوغان.
كل زيارة من هذه الزيارات كانت لها دلالات وأثارت جدلاً واسعاً من حيث ترتيب الزيارات، والتصريحات التي تلتها، والتخمينات والإشارات التي يحاول البعض التقاطها من كل زيارة من هذه الزيارات. من جانبه كان المجلس الرئاسي يؤكد في كل زيارة على ضرورة خروج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا، والحفاظ على سيادة الدولة الليبية، والمساهمة الإيجابية في إنجاح خارطة الطريق التي تنتهي بانتخابات تجرى نهاية العام الجاري -في ذكرى استقلال ليبيا- 24 ديسمبر عام 2012.
ما الذي تمثله هذه الجولة من الزيارات وما أهميتها؟
هذه الزيارات تمثل في مجملها تحولاً في سياسة الدول المنخرطة في ليبيا، فكل دولة من هذه الدول تسعى أن تظهر أنها داعمة للمسار السياسي وللمجلس الرئاسي، الأمر الذي عبر عنه رئيس حكومة الوحدة الوطنية بقوله إن "دول الاتحاد الأوروبي تدعمنا وهذا مدعاة للارتياح"، كما أبدى ثقته بأن "مصر -التي يعرفها- ستكون مع حكومته". وقال أيضاً إن "الرئيس رجب طيب أردوغان لم يدخر جهداً في دعم هذا المسار الذي تحاول من خلاله أن تنهي الأزمة في ليبيا".
روسيا من جانبها وفي تصريح مشترك مع ألمانيا وفرنسا أعلنت دعمها لحكومة الوفاق، وكذلك إيطاليا التي زار وزير خارجيتها طرابلس تدعم هذا المسار، وبدأت وزارة الخارجية الليبية في جهد حثيث لفتح السفارات في طرابلس وتحفيز هذه الدول الأوروبية في منح التأشيرات التي منعت عن الليبيين طوال السنين السابقة، إلا بشق الأنفس والسفر لتونس أو أي دولة مجاورة. وفي هذا السياق وعد الرئيس رجب طيب أردوغان بالسماح لليبيين بالدخول إلى تركيا بدون تأشيرة، كما أن وزارة الخارجية تسعى لتسهيل إجراءات التأشيرة أو إلغائها مع جمهورية مصر.
كيف يمكننا أن نفهم هذا التحول في دعم الشرعية في ليبيا، وهل سينتهي هذا المسار إلى إنجاح حكومة الوفاق؟ وما الأوضاع على الأرض في ليبيا؟ وهل تنسجم هذه التصريحات الداعمة لحكومة الوفاق مع وجود المرتزقة في وسط وجنوب ليبيا؟ وهل يعني ذلك نهاية الحرب بالوكالة في ليبيا؟
الأزمة في ليبيا.. من التنازع إلى التنافس الدبلوماسي
في أي احتراب داخلي تنشأ تحولات إقليمية وتنازع بين الدول المحيطة بالدولة التي يحدث فيها هذا النزاع، هذا ما يسمى بتأثير الجيران في أدبيات التحول الديمقراطي، ونحن نشهد هذا السياق في الأزمة الليبية، فالتكلفة السياسية في هذه المرحلة لأي تأجيج للصراع ستصطدم بمصالح هذه الدول وهي تشهد فشل العمل العسكري والتعويل على طرف لقهر وهزيمة باقي الأطراف، لذا فإن طائر الحرب قد استقر على أرض السياسة، وامتدت ساحة المعارك إلى ساحات السياسة، وتحول ظروف المعركة إلى ما يمكن تسميته تصميم النظام في ليبيا.
هذا الأخير يعني أن التفكير الآن في كيفية الاستفادة من التحولات العسكرية التي انتهى إليها النزاع وتحويله إلى نفوذ سياسي في الدولة الليبية.
هذا التصور تؤكده عدة شواهد بأن البحث الآن ليس عن مرتزقة جدد، بل عن مرشحين يمكن أن يضمنوا مصالح هذه الدول، وأن يكتب دستور تضمن هذه الدول من خلاله مصالحها، ولا شك أن هذه المعركة ربما أشرس من الحرب، لأن الحرب يمكن أن تنتهي بتوازن قوى كما فعلت تركيا بجدارة.
لكن هذه المصالح السياسية قد تستخدم فيها هذه الدول أولاً التنافس الدبلوماسي بمحاولة التأثير على صانع القرار، الأمر الذي بدا ظاهراً في تصريحات فرنسا بعد زيارة محمد المنفي بأن على المجلس الرئاسي طرد القوات الأجنبية (والمقصود القوات التركية)، أو محاولات بعض القنوات التابعة لدولة الإمارات أو قناة فرانس 24، أن تنشر رواية مفادها أن الرئيس المنفي طلب من السيد أردوغان إخراج قواته من ليبيا، الأمر الذي نفاه مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، ياسين أقطاي، ولم تصرح به أي وسيلة إعلام ليبية تابعة للمجلس الرئاسي، وهو لم يحدث حسب مصادر خاصة.
هذا الجدل في تعريف مصطلحات مثل (المرتزقة) أو (القوات الأجنبية)، أو الحديث عن الاتفاقات الدولية والأسئلة المتكررة عن مصير الاتفاقية التي وقعت مع تركيا يؤكد أن هذا التنافس الدبلوماسي هدفه هو التأثير في السلطة الشرعية الجديدة، وأن هناك رسالة واضحة تؤكد أن المسار السياسي سيستمر عبر هذه الحكومة، وأن النقطة التي يسعى إليها الجميع هي التأثير في هذه الحكومة، واعتبار سلوكها يعبر عن الدولة الليبية. هذا لا يعني أن كل هذه الدول قد أزاحت سيناريو الحرب من استراتيجيتها في ليبيا وإفريقيا، لكن يعني أن الحرب ستكون وسيلة للضغط السياسي وليس لتحقيق أهداف عسكرية، هنا تصبح الحرب جزءاً من السياسة بكل تجليات هذا المعنى الاستراتيجي.
هل ستنتهي الحرب بالوكالة في ليبيا؟
هنا يرِد سؤال آخر مهم، وهو هل إذا توحدت الدولة سيعني ذلك نهاية الحرب بالوكالة؟ الإجابة: لا. لأن الحرب بالوكالة نوعان اثنان مباشر عن طريق قوات عسكرية أو أذرع عسكرية (اليمن نموذجاً)، أو قد تكون بشكل غبر مباشر من خلال محاولة تأجيج الصراع والعنف بالشكل الذي يؤثر في المسار السياسي ويجعله في صالح هذه الدول المتدخلة في ليبيا.
الجنوب الليبي الآن مثلاً هو ساحة صراع كبير، بل سيشهد عنفاً متزايداً، قد لا ينفجر لحرب تفسد المسار السياسي، لكن ستستمر هذه الدول، خاصة فرنسا وروسيا، وربما تلحقها لاحقاً تركيا في دعم تواجدها في الجنوب الليبي لأن ضعف المركز في ليبيا، وجلب المرتزقة من تشاد والسودان والنيجر ومالي وروسيا وبعض الشركات الأمريكية إلى الشرق الليبي أعطى لهذه الدول وهذه الشركات والقوات مجالات حيوية للحركة في الجنوب الليبي، قد يجعل إخراجها من الجنوب مسألة صعبة.
وربما ستكون هذه المنطقة مركزاً لعمليات كثيرة في إفريقيا، لذا فإن حكومة الوحدة الوطنية عليها أن تدرك أن هذا التنافس الدبلوماسي لن يكون بلا ثمن، وأن ملف الجنوب سيكون هو الحرب بالوكالة بعينها، وأن العمل الدبلوماسي والعمليات العسكرية المحدودة واستخدام أدوات المنظمات الدولية، خاصة في طرد قوات فاغنر الروسية، قد يكون هو الوسيلة الأنجع في التعامل مع هذه الملفات الساخنة ليس في المرحلة الحالية، بل في مستقبل ليبيا بخارطتها الحالية.
النظام الليبي الجديد
هذه الزيارات التي قام بها المجلس الرئاسي لفرنسا، التي أسفرت عن فتح سفارة الأخيرة في طرابلس، وزيارة مصر، التي اتفق فيها الطرفان على تسهيل إجراءات التأشيرات وعودة العمالة المصرية كملف يجب النقاش حوله، ودعم مصر للمسار السياسي في ليبيا، وزيارة تركيا التي أكدت استمرار حكومة الوحدة الوطنية في الاتفاقية البحرية والأمنية الموقعة مع تركيا حسب تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية المتكررة، كلها تأتي في سياق واحد، وهو تطبيع الأوضاع في الدولة الليبية، هذا يعني حسب أدبيات النزاع أن تعود الحياة لطبيعتها في ليبيا، وهذا يتطلب كذلك إخراج المرتزقة وفتح الطرق في بين شرق البلاد وغربها وجنوبها. وهذا ما تقوم به اللجنة العسكرية 5+5 والتي يساندها مجلس الأمن، لكن ما الذي يمنع هذه الدول من إخراج هذ القوات من ليبيا؟
السبب يكمن في قضيتين أساسيتين يبنى عليها سلوك أي دولة في هذه النزاعات: أولاً، البحث عن الاستقرار، ويعني أن هذه الدول تريد التأكد من إمكانية الاستقرار في ليبيا وقدرة هذه الحكومة على التنفيذ، لكنه مشروط كذلك بتحقيق الحد الأدنى من مصالح هذه الدول، وهنا تقع المعضلة الأكبر وهي إمكانية إيجاد معادلة وسط هذه التناقضات الدولية لإرضاء هؤلاء الشركاء المتشاكسين، ففرنسا التي تدعي أنها تدعم الاستقرار تعبث بشكل كبير في الجنوب الليبي، وتسعى لإيجاد معادلة ديمغرافية من خلال استغلال مكون كمكون "التبو"، والتي لها 3 وزارات من وزارات حكومة الوفاق، وهي لا تشكل أي نسبة أمام باقي المكونات الأخرى في ليبيا.
هذا التواجد العسكري والدعم لبعض الأذرع في الجنوب الليبي يؤكد أن دولة مثل فرنسا تريد دائماً أن تكون جاهزة في حالة لم ينجح المسار العسكري؛ تركيا من جانبها لا تطمئن كثيراً لفرنسا، وأن خروجها من ليبيا سيعني خللاً كبيراً في ميزان القوى الذي بفضله نجح المسار السياسي.
ثانياً، القدرة على التنبؤ، لا يكفي هذه الدول فقط أن تستقر الأوضاع، بل أن تستمر في صالح هذه الدول، وهذا يعني أن النظام الذي تسفر عنه العملية السياسية لن ينقلب على مصالح هذه الدول، لذا فإن التواجد العسكري، ودعم بعض الأطراف، وإن كان لم يصل لدرجة اندلاع عنف مسلح بعد سيعتمد في الأساس على العملية الانتخابية المزمعة نهاية هذه السنة. لذا فمن المرجح تماماً أن تستمر الأوضاع في ليبيا على ما هي عليه، وربما تناقص عدد المرتزقة، وضعفت قوات حفتر، لكن ليس لدرجة أن تجرد من سلاحها أو أن تفقد القدرة على المبادرة العسكرية، هذا يؤكد أن التنافس الدبلوماسي الذي أظهرته هذه الدول من خلال زيارات رئيس المجلس الرئاسي إنما هو تنافس من أجل كسب الثقة في النظام الجديد في ليبيا، والبحث عن الأدوات التي من خلالها يمكن أن توجه سلوكه ليضمن مصالحها في المستقبل.