سلَّطَ حادث جنوح سفينة شحنٍ عملاقة، الضوء على تاريخ قناة السويس المعقد الذي يبلغ عمره 150 عاماً، وهي القناة التي لا تزال أحد أهم الشرايين التجارية في العالم بعد كل هذه السنوات، وسبباً رئيسياً لمكانة مصر الدولية.
ويُظهر تاريخ قناة السويس أنها رمزٌ للفخر المصري وبؤرةٌ تاريخيةٌ للتوتُّرات بين القوى الأجنبية، ومصدر نعمة وشقاء كبيرين لمصر.
تربط قناة السويس البحر الأبيض في الشمال بالبحر الأحمر في الجنوب، ولا تزال القناة تمثِّل أسرع طريق للشحن بين أوروبا وآسيا، مِمَّا يسمح للسفن بإيصال الإلكترونيات والملابس والنفط والسلع الأخرى إلى المستهلكين العالميين.
ومرت 19 ألف سفينة عبر القناة العام الماضي، تحمل 1.2 مليار طن من البضائع. وتمثِّل القناة ما يصل إلى 13% من حجم التجارة البحرية في العالم، وضمن ذلك كثير من النفط العالمي.
وأظهر حادث جنوح سفينة الحاويات "إيفرغيفن"، التي يبلغ طولها 400 متر، الثلاثاء 23 مارس/آذار، الأهمية البالغة لقناة السويس للعالم كله، وهو أمر يعيد للأذهان أن هذه القناة كانت محركاً لأحداث تاريخية مهمة منذ افتتاحها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
أهم المحطات في تاريخ قناة السويس
محمد علي رفض الفكرة، وابنه حفرها بالسُّخرة
اكتملت القناة الأصلية عام 1869 حينما كانت مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية شكلاً وشبه مستقلة فعلياً مع بدايات ظهور التأثيرات الأجنبية، وكان حفر القناة نفسه نتيجة هذه التأثيرات وسبباً لتفاقمها.
ولكن تاريخ قناة السويس بدأ قبل ذلك بعقود، حينما رفض محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة (والذي أحدث نهضة في الثلث الأول للقرن التاسع عشر يندر أن يوجد لها مثيل خارج أوروبا الغربية)، فكرة حفر قناة بين البحرين الأحمر والمتوسط؛ خوفاً من أن يجعل ذلك مصر مطمعاً للساعين إلى السيطرة على شريان المواصلات العالمية، وتبين أنه على حق.
ولكن ابنه سعيد باشا، الذي حكم مصر عام 1854، تخلى عن هذا الحذر، واستجاب المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس لفكرة إنشاء القناة واقتنع بأنها سوف تعود بالخير على مصر، ووقّع عقداً مع الحكومة المصرية تضمن ظلماً شديداً،خاصة فيما يتعلق باستخدام السخرة لجلب العمال المصريين لحفر القناة، إلى جانب امتيازات جعلت الشركة الفرنسية دولة داخل الدولة، ومثلت فترة مظلمة في تاريخ قناة السويس ومصر برمتها.
فالامتياز الذي مُنح للشركة الفرنسية التي أسسها ديليسبس يعطي الشركة المسافة بين بورسعيد والسويس، أي قرابة 190 كيلومتراً من الأراضى المصرية، ويفرض على مصر تقديم العمالة المجانية للشركة بنظام السخرة وحفر ترعة للمياه العذبة لمصلحة الشركة. ورغم كل هذا قدرت نسبة مصر في رأسمال الشركة بـ44% فقط دون أن تكون لها نسبة حاكمة تتجاوز 50%.
ولعل من أكثر الأمور استفزازاً في هذه الفترة من تاريخ قناة السويس، أنه رغم كل ما تكلفته مصر في المشروع، فإن مجلس إدارة الشركة لم يجلس فيه مصري واحد!.
وتسببت سقوط مصر في الديون مرتين
استغرق حفر القناة عقداً من الزمان لإكمالها، واعتمدت بشكلٍ كبيرٍ على العمل الجبري الذي راح ضحيته الآلاف. وبمجرد الانتهاء، قلَّصَت القناة رحلة الشحن الحديثة بين أوروبا وآسيا بمقدار أسبوعين، مقارنةً بالطريق البديل حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من إفريقيا.
ولكن القناة أضرت مصر، في جوانب كثيرة، أولها اضطرار حاكم مصر التالي، الخديوي إسماعيل، إلى تقديم تعويضات للشركة الفرنسية بعد طلبه تعديل الشروط القاسية للعقد بين الطرفين.
فعندما استفحل النزاع بين الشركة والخديوي طلبت الشركة التحكيم ووافق الخديوي. وكان نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا، هو المحكم، علماً بأن شركة القناة شركة فرنسية، فضلاً عن صلة القرابة التي تربط ديليسبس بالإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث، كما أن ابن عمه الأمير جيروم، عضو في مجلس إدارة شركة القناة.
وكما هو متوقع كان حكم الإمبراطور الفرنسي منحازاً لصالح شركة القناة ومجحفاً لمصر، فحكم بأن تدفع مصر ثلاثة ملايين و800 ألف جنيه إسترليني تعويضاً للشركة؛ لإخلالها بشروط التعاقد.
كان هذا الحكم بمثابة المسمار الأخير في نعش حكم الخديوي إسماعيل والذي عجّل بتعسر مصر مالياً وفتح الباب أمام التدخل الأجنبي في الشأن المصري.
ثم أنفق الخديوي إسماعيل أموالاً طائلة على حفل افتتاح القناة، ليثير إعجاب نخب أوروبا، وانتهى الأمر بسقوط مصر في دوامة الديون، فاشترت إنجلترا التي كانت قلقة من السيطرة المصرية على القناة الأسهم المصرية في الشركة الفرنسية المُسيّرة للقناة.
واستمرت القناة تحت سيطرة القوتين الفرنسية والإنجليزية، بعد أن قامت الأخيرة بشراء أسهم مصر في مقابل سداد الديون المصرية.
جعلت القناة مصر في قلب الصراع الدولي، وكانت سبباً رئيسياً لاحتلال بريطانيا لها لمدة 70 عاماً، وحتى عندما أعطت لندن مصر استقلالاً جزئياً رفضت الانسحاب من القناة.
وظلت قناة السويس تحت السيطرة البريطانية وفي قلب الصراعات العالمية، بسبب موقعها الإستراتيجي وإمكاناتها كنقطةٍ خانقة للتجارة العالمية، وكان الحلفاء يعطون أهمية كبيرة لعدم سقوطها في يد العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولى والألمان خلال الحرب العالمية الثانية.
وعبدالناصر أعادها للمصريين
وفي عام 1956، أمَّمَ الرئيس المصري آنذاك، جمال عبدالناصر، القناة ونَقَلَها إلى سيطرة الدولة، في واحد من أهم أحداث تاريخ قناة السويس.
ورداً على ذلك، غزت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل منطقة القناة، لكن الدول الثلاث اضطرت إلى قبول سلطة مصر على القناة بعد تدخُّل الولايات المتحدة ودول أخرى رفضت العدوان.
وكانت هذه الأزمة بداية انهيار الإمبراطورية البريطانية القديمة، ووطَّدَت الاتجاه القومي العربي الثوري في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وخلقت زعامة عبدالناصر الذي أصبحت خطبته الشهيرة التي يعلن فيها تأميم القناة، حدثاً لايُنسى في التاريخ العربي الحديث.
ملحمة العبور.. حمت مصر في حرب 1967، وأعاقتها في 1973
أغلقت مصر القناة باستخدام الألغام والسفن الغارقة منذ حرب يونيو/حزيران 1967 مع إسرائيل حتى عام 1975، وهي لم أطول مرة في تاريخ قناة السويس تُغلق، وتضطر السفن للعودة إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
وبينما حمت القناة جزئياً مصر من توغل إسرائيلي محتمل تجاه وادي النيل بعد احتلالها سيناء في 1967، فإنها أظهرت عيوبها القاتلة، عندما تحولت لخط الدفاع الرئيسي للاحتلال الإسرائيلي لسيناء.
ووجهت مصر جزءاً ضخماً من جهدها الحربي في حرب 1973 لعبور القناة الذي أصبح يعد أبرز الإنجازات المصرية والعربية في هذه الحرب، وملحمة لا ينسها المصريون عندما يستذكرون تاريخ قناة السويس.
فلقد بدأ العمل العسكري المصري بإغلاق أنابيب النابالم الإسرائيلية التي كانت معدة لإشعال القناة إذا عبرها المصريون، وأعقب ذلك عبور جنود المشاة المصريين للقناة على متن زوارق مطاطية بسيطة، وهم يحملون مضخات مياه تبين أنها سلاح مصر السري، لاختراق الساتر الرملي الذي بنته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس لمنع مرور الجنود المصريين لسيناء.
يجب حفر قناة السويس الجديدة خلال عام واحد.. لماذا؟
ولا تزال قناة السويس مصدراً رئيسياً لإيرادات الدولة المصرية، إذ تدرُّ مليارات الدولارات كلَّ عام، وتمثل واحداً من أهم مصادر النقد الأجنبي وأكثرها استقراراً.
وجعل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الجنرال السابق الذي وصل إلى السلطة بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013، القناة حجر الزاوية في إستراتيجيته الاقتصادية، التي تشمل استثمار مليارات الدولارات في مشاريع عملاقة يقودها الجيش، حسبما ورد في تقرير صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وفي عام 2014، أعلنت حكومته خطةً لتوسيع وتحديث القناة، بما في ذلك عن طريق حفر ممر ثانٍ على طول الجزء الشمالي منها؛ للسماح بحركة المرور في الاتجاهين على طول جزء من القناة.
وأكملت حكومة السيسي المشروع، الذي تبلغ قيمته 8.5 مليار دولار، عام 2015، معتبرةً إياه إنجازاً تاريخياً. وكانت الحكومة المصرية تهدف إلى بثِّ الشعور بالأمل والاعتزاز القومي بعد ثورة 2011 وانقلاب 2013 الذي أوصل السيسي إلى السلطة، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
اللافت أن السيسي أصر على حفر القناة الجديدة في عام واحد، وهو ما أدى إلى زيادة التكلفة، بسبب الاستعانة بمقاولين من الخارج تلقوا مستحقاتهم بالدولار، في الوقت الذي كانت تعاني فيه مصر أزمة في النقد الأجنبي، وكان يمكنها حفرها بإمكاناتها المحلية إذا تم الأمر دون مهلة العام التي أعلنها السيسي.
المفارقة أن السيسي اعترف بعد ذلك بأنه هدفه من حفر القناة الجديدة خلال عام فقط، لم يكن وراءه دافع اقتصادي بالأساس؛ بل رفع معنويات الشعب.
حفل افتتاحها يذكّر بحفل الخديوي إسماعيل الباذح
تكلفة قناة السويس الجديدة ، ساهم فيها المصريون من خلال حيازة شهادات استثمار، على أساس الاستفادة مستقبلاً من الأرباح.
وذكّر حفل افتتاح قناة السويس الجديدة الذي حضره الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، وحلّقت فيه طائرات الرافال التي اشترتها مصر من فرنسا، المثقفين بحفل افتتاح قناة السويس الباذخ الذي نظمه الخديوي إسماعيل عام 1869، وكانت زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الإمبراطورة أوجيني أبرز ضيوفه، وهو الحفل الذي كان أحد أسباب سقوط مصر في دوامة الديون التي انتهت بخضوعها لوصاية فرنسا وإنجلترا ثم سقوطها في براثن الاحتلال البريطاني المباشر.
هل حقق المشروع الكبير أهدافه؟
ولكن في حين أن التوسُّع أو ما يعرف بقناة السويس الجديدة، سهَّل العبور على طول القناة، لم تحقِّق القناة المكاسب الاقتصادية لمصر، حسب تقرير Wall Street Journal.
وقال رئيس هيئة قناة السويس في ذلك الوقت، إن إيرادات القناة ستزيد بأكثر من الضعف؛ من نحو 5 مليارات دولار في السنة إلى أكثر من 13 مليار دولار بحلول 2023.
على أرض الواقع، تقلَّبَت الإيرادات اعتماداً على عددٍ من العوامل المرتبطة بحجم التجارة الدولية.
إذ حقَّقَت مصر عائدات بقيمة 5.61 مليار دولار فقط العام الماضي، وانخفض ذلك من 5.8 مليار دولار عام 2019، مع تباطؤ التجارة الدولية أثناء جائحة فيروس كورونا المُستجَد.