التصعيد الروسي الذي كسر حالة من شبه الاستقرار في شمال غرب سوريا أثار تساؤلات بشأن أهداف موسكو من الهجمات الصاروخية والمدفعية التي أدت لمقتل وإصابة مدنيين، فهل الرسالة الدموية موجهة إلى أمريكا أم إلى تركيا؟
كانت طائرات روسية قد قصفت، الأحد 21 مارس/آذار الجاري منشأة غاز ومصنعاً للأسمنت وعدة قرى ومدن في شمال غرب سوريا بالقرب من الحدود التركية، بعد ساعات قليلة من قصف مدفعي نفذته قوات نظام بشار الأسد أصاب مستشفى، مما أدى لمقتل 7 مدنيين وإصابة 14 مسعفاً، بحسب رويترز، نقلاً عن شهود ومصادر من المعارضة السورية.
وقالت المصادر نفسها إن صاروخاً روسياً أرض-أرض أصاب أيضاً قرية قاح بينما اقتربت الضربات الجوية الروسية من مخيمات اللاجئين المكتظة على امتداد الحدود مع تركيا، وأُصيبت منشأة غاز قرب مدينة سرمدا بمحافظة إدلب واشتعلت النيران في عشرات المقطورات التي تحمل بضائع في موقف لانتظار المركبات بالقرب من معبر باب الهوى في أحدث هجوم على منشآت الوقود التي تخدم شريان الحياة الاقتصادي للمنطقة التي يعيش فيها ما يربو على أربعة ملايين نازح سوري.
المنطقة التي تتعرض للتصعيد الروسي كانت تشهد تراجعاً في حدة القتال بين قوات النظام السوري والمعارضة منذ التوصل لاتفاق قبل عام أنهى الهجوم الذي قادته روسيا وأدى لتشريد ما يزيد عن مليون شخص في المنطقة المتاخمة للحدود التركية بعد اشتباكات على مدار أشهر أودت بحياة عدة آلاف من المدنيين.
التصعيد الروسي وعلاقته بتركيا
كانت مصادر مخابرات غربية قد قالت إن روسيا كانت وراء هجوم صاروخي باليستي في وقت سابق من الشهر الجاري أدى إلى اشتعال النيران في العشرات من مصافي النفط المحلية بالقرب من مدينتي الباب وجرابلس إلى الشرق في منطقة تسيطر عليها المعارضة وتمارس فيها تركيا نفوذاً بفضل وجود عسكري كبير.
وقال المتحدث باسم الجيش الوطني، وهو تحالف من المعارضة مدعوم من تركيا في شمال غرب سوريا، لرويترز إن روسيا التي تدعم النظام في دمشق سعت لزعزعة استقرار آخر معقل للمعارضة في سوريا لكن الضربات لا تشير إلى هجوم كبير وشيك على إدلب، وقال الرائد يوسف حمود: "حتى الآن مستمرة الضربات الروسية. أيضاً صواريخ باليستية قرب مناطق تجمع المدنيين"، مضيفاً: "هي ضربات على منشآت اقتصادية بهدف خلق بلبلة".
وقالت وزارة الدفاع التركية إن صاروخاً أطلقته قوات الحكومة السورية ضرب قرية قاح وموقفاً لانتظار الشاحنات والمقطورات قرب سرمدا، مما أدى إلى إصابة سبعة مدنيين، وأضافت الوزارة أنه تم إرسال بيان إلى روسيا يطلب وقف الهجمات فوراً في حين وُضعت القوات التركية في حالة تأهب، بينما لم يصدر تعليق من موسكو حتى الآن.
ويرى كثير من المحللين أن التصعيد الروسي في مناطق المعارضة السورية في هذا التوقيت رسالة موجهة إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وليس إلى تركيا أو أطراف أخرى. ويرصد أصحاب هذا الرأي عدداً من المؤشرات لا ترتبط جميعها بالملف السوري فقط.
رسالة روسيا الدموية موجهة إلى إدارة بايدن
جاءت أول ضربة عسكرية أمريكية تحت إدارة بايدن أواخر فبراير/شباط الماضي على الأراضي السورية من خلال استهداف قواعد لميليشيات عراقية كانت قد وجهت هجمات صاروخية استهدفت قاعدة أمريكية في إربيل بالعراق وأدت لمقتل متعاقد وإصابة عدة جنود أمريكيين.
ورغم أن البيان الأمريكي بشأن الغارة الجوية في سوريا تجنب ذكر روسيا، الداعم الأساسي للنظام السوري والتي تتواجد قواتها في أغلب المناطق التي يسيطر عليها النظام، فإن رد فعل موسكو الغاضب على الضربات الأمريكية قد كشف الكثير مما يجري خلف الكواليس.
وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية للصحفيين إن موسكو "تؤكد مرة أخرى رفضها القاطع لتحويل الأراضي السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية"، في إشارة موجهة إلى إدارة بايدن مفادها أن روسيا هي القوة المسيطرة على الأحداث في سوريا ولن تقبل تجاهلها بهذا الشكل، بحسب تحليل لمعهد واشنطن للدراسات.
ثم خرج ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتصريح آخر زعم فيه أن الكرملين لا يعرف إذا ما كان الجيش الأمريكي قد أخطر نظيره الروسي قبل الهجمات، لكن وزير الخارجية سيرغي لافروف ناقض هذا التصريح بقوله للصحفيين: "نعم، أخطرونا قبلها بدقائق". وفي المقابل قال المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي للصحفيين إن البنتاغون اتبع القواعد المتعارف عليها وأبلغ الروس بالهجمات من خلال القنوات المختصة.
وفي هذا السياق، يربط عدد من المسؤولين السابقين في الإدارات الأمريكية ومحللون بين الهجمات الروسية الأخيرة التي استهدفت قرى ومدناً خارج سيطرة نظام بشار الأسد وبين العلاقات المتدهورة حالياً بين موسكو وواشنطن، والتي وصلت إلى استدعاء موسكو سفيرها لدى الولايات المتحدة للتشاور في أعقاب وصف بايدن نظيره بوتين بـ"القاتل عديم الروح".
ورغم أن التدهور في العلاقات بين البلدين سببه محاولة تسميم المعارض أليكسي نافالني واعتقاله وسجنه وفرض الولايات المتحدة عقوبات على روسيا بسبب ذلك الملف الحقوقي، فإن الملفات المتعددة بين البلدين لا يمكن استبعادها من أسباب ذلك التدهور، وعلى رأسها الملف السوري بالتحديد.
إدارة بايدن والمعضلة السورية
ففي الوقت الذي تناقش فيه الإدارة الأمريكية الجديدة كيفية التعامل مع الأزمة السورية التي دخلت عقدها الثاني، بعد عقد كامل من الفشل الاستراتيجي الأمريكي هناك، لا يبدو أن هناك طريقاً آمناً لواشنطن كي تحقق أياً من أهدافها في سوريا، خصوصاً بعد أن أصبح واضحاً أن إسقاط بشار الأسد قد أصبح شبه مستحيل.
وقال فريدريك هوف المبعوث الأمريكي لسوريا في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لصحيفة الإندبندنت البريطانية إن رسالة روسيا لبايدن واضحة، وهي أن "الحرب في سوريا انتهت والأسد انتصر وسوف يظل في السلطة طالما بقي على قيد الحياة".
وأضاف هوف أن الجزء الآخر من الرسالة هو أن موسكو تخطط للاستفادة من عملية إعادة إعمار سوريا التي تعرضت لدمار شبه كامل نتيجة لتمسك الأسد بكرسي الرئاسة، وسوف تستفيد روسيا من أي موارد دولية لإعادة الإعمار، إذ تؤكد موسكو على وضعها كالقوة الوحيدة التي تتحكم في أي مخاطر أمنية قد يمثلها الوضع في سوريا على المنطقة والعالم.
وتتمثل معضلة إدارة بايدن في سوريا في معادلة حسابية بسيطة طرفها الأول هو أن تركيز واشنطن في سياستها الخارجية على آسيا بدلاً من التركيز على الشرق الأوسط، بينما طرفها الثاني يتمثل في أن تقليل الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط يعطي الفرصة لروسيا ومنافسي أمريكا الآخرين للدخول وملء الفراغ في المنطقة، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة لافروف للمنطقة ولقاءاته في السعودية والإمارات. وفي أبوظبي تحديداً وقف لافروف بجانب نظيره الإماراتي وزير الخارجية عبدالله بن زايد بينما يلقي الأخير رسالة متسقة مع الموقف الروسي، إذ قال بن زايد إن العقوبات الأمريكية على النظام السوري (المدعوم من روسيا) تمنع الجهود الدولية لإعادة إعمار سوريا، مضيفاً أنه حان الوقت لإعادة قبول نظام الأسد عربياً ودولياً.
وعلق جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي لسوريا في إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بقوله للإندبندنت إن واشنطن لابد أن تحافظ على وجود قوي لها في سوريا بسبب الطموح الروسي هناك وفي المنطقة: "لو أن هذا هو المستقبل الأمني في الشرق الأوسط، سنكون جميعاً في مشكلة"، محذراً من أن "هذا بالتحديد هو ما يدفع بوتين ولافروف في اتجاهه".
وحتى الآن وضعت إدارة بايدن ثقلها في الشرق الأوسط خلف ملفي حرب اليمن والاتفاق النووي الإيراني، دون أن تحقق سياستها نتائج إيجابية، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح، إذ استغل الحوثيون تحركات بايدن وصعدوا من هجماتهم داخل اليمن وخارجه بتكثيف هجماتهم الصاروخية ضد أهداف مدنية داخل السعودية، بينما لا تزال طهران متمسكة بموقفها الداعي لرفع إدارة بايدن للعقوبات أولاً قبل التزام طهران ببنود الاتفاق النووي الذي كان ترامب قد انسحب منه عام 2018.