فيروس كورونا وباء عالمي لن ينتهي إلا بتوفير اللقاحات لكافة دول العالم غنيها وفقيرها، والسؤال المطروح في ظل تحرك أمريكا للحاق بدبلوماسية اللقاح هو: هل أمريكا قادرة على تلقيح العالم، ولماذا يجب عليها أن تفعل؟
رصد تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية الإجابة عن تلك التساؤلات، وخلص إلى أنه يجب على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تسعى إلى اتباع منهج "الجميع في نفس القارب" الذي أعلنه في الداخل فيما يخص الوباء، إذ يجب أن تركِّز إدارته بدرجةٍ أقل على الميزة الاستراتيجية في دبلوماسية اللقاحات أكثر من تركيزها على تطعيم أكبر عددٍ من الأشخاص في جميع أنحاء العالم في أقصر فترةٍ زمنية. وبذلك ستركِّز الولايات المتحدة على القاسم المشترك بين شعوب العالم -وهو القابلية للإصابة بهذا الفيروس وبالعديد من الفيروسات الأخرى- بغض النظر عن طبيعة حكوماتهم.
وقد عقدت قمة رباعية افتراضية يوم الجمعة 19 مارس/آذار، أعلن خلالها قادة الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا أنهم سيتعاونون لتقديم مليار جرعة لقاح في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، في مواجهةٍ مباشرة لريادة الصين في توزيع اللقاحات في المنطقة. وتجمع الاتفاقية بين التصنيع الهندي والتمويل واللوجيستيات والمساعدة الفنية الأمريكية واليابانية والأسترالية للمساهمة في تحصين مئات الملايين من البشر بحلول نهاية العام 2022.
وجاء في العناوين الرئيسية للصحف، مطلع هذا الأسبوع، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن كانت تستعد للحاق بركب دبلوماسية اللقاحات العالمية، كما اتَّخَذَت الإدارة خطوةً أخرى في هذا الاتجاه، حيث سُرِّبَ للمراسلين أنها ستقرض أربعة ملايين جرعة من لقاح شركة أسترازينيكا للمكسيك وكندا.
هل تأخرت أمريكا في دبلوماسية اللقاح؟
لم تأتِ هذه المبادرات متأخِّرةً. ففي معالجة أسوأ أزمة عالمية، كانت الولايات المتحدة حتى الآن في حالة تفوُّق، فيما قامت روسيا والصين بتسويق وتوزيع لقاحاتهما على الدول الأجنبية، إلى حدٍّ كبير لتعزيز أهداف السياسة الخارجية، وتستخدم روسيا اللقاح لتعزيز صورتها وآفاق الاستثمار أمامها ودقِّ إسفين بين دول الاتحاد الأوروبي. وتتبرَّع الصين بجرعاتٍ من اللقاح لكسب النفوذ في النزاعات الإقليمية وتوسيع نفوذها في إطار مبادرة الحزام والطريق، وتحرّكَت كلٌّ من موسكو وبكين لتقويض الولايات المتحدة في ساحتها الخلفية من خلال توفير اللقاحات لأمريكا اللاتينية.
إن إدارة بايدن مُحِقَّة في رغبتها في أخذ زمام المبادرة في تطعيم العالم، لمجموعةٍ من الأسباب تتعلَّق على حدٍّ سواء بالمصلحة الذاتية وبالإيثار كذلك. لكن لا ينبغي أن تقع الولايات المتحدة في فخِّ محاولة التغلُّب على روسيا والصين في لعبتهما الخاصة- توزيع اللقاحات على بلدانٍ معينة بناءً على أهميتها الجيوستراتيجية ومقدار الاهتمام الذي يتلقَّاه من القوى المتنافسة.
ونجحت الولايات في حشد مواردها الخاصة والدولية للاستجابة للأزمات الإقليمية في الماضي، ففي عام 2003، دشَّن الرئيس جورج دبليو بوش خطةً طارئة للإغاثة من مرض الإيدز، وكان ذلك أكبر برنامج صحي عالمي يركِّز على مرضٍ واحد في التاريخ. وجمع البرنامج، خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR)، بين الوكالات الأمريكية والشركات الخاصة وجماعات المجتمع المدني المحلية لمساعدة إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا في السيطرة على أزمة الإيدز، وإنقاذ ملايين الأرواح.
وفي عام 2004، تسبَّبَ تسونامي في المحيط الهندي في مقتل أكثر من 220 ألف شخص، علاوة على أضرارٍ بمليارات الدولارات، ومن جانبها قادت الولايات المتحدة جهوداً إغاثية إنسانية عاجلة وشاملة بالمثل لإنقاذ الضحايا، وعجَّلَت من إعادة الإعمار، وبنت حسن نية دائماً في جنوب وجنوب شرق آسيا.
يمكن لبايدن أن يحسِّن من سابقة بوش بالانتقال إلى العالمية، وقد اتَّخَذَ بالفعل خطواتٍ نحو القيام بذلك. في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، رفضت الولايات المتحدة المشاركة في مبادرة كوفاكس، وهي شراكة دولية تهدف لتوفير لقاح كوفيد-19 عالمياً. وعكست إدارة بايدن هذا الموقف على الفور وساهمت بـ4 مليارات دولار، ما جَعَلَ الولايات المتحدة أكبر مانحٍ للمبادرة. ومع ذلك، حتى إذا حقَّقَت مبادرة كوفاكس الهدف الطموح المتمثِّل في تقديم ملياريّ جرعة لقاح إلى الدولة النامية بحلول نهاية عام 2021، فسوف تكون قادرة على تطعيم 20% فقط من سكَّان تلك البلدان.
وباء كورونا عدو عالمي
لنتخيَّل ما يمكن أن يحدث إذا تعاملت واشنطن مع كوفيد-19 على أنه مكافئٌ للعدو في حربٍ عالمية أو كنسخةٍ عالمية من أوبئةٍ إقليمية مثل الإيدز والإيبولا في السنوات الماضية. لنتخيَّل، بعبارةٍ أخرى، كيف ستبدو التعبئة الشاملة إذا تعاملت الولايات المتحدة مع جائحة كوفيد-19 باعتباره تهديداً عالمياً كما هو بالفعل.
ستقود واشنطن جهوداً متعدِّدة الأطراف تشمل المجتمع بأسره لمساعدة مبادرة كوفاكس في تطعيم العالم. ستقوم الحكومة الأمريكية بتنشيط الجيش ودعوة الحلفاء في مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي لتدشين مساعدةٍ كبيرة تسرِّع من تدفُّق إمدادات اللقاح وتعزِّز أنظمة توصيلها. وسوف تستخدم الحكومة كذلك وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها، والوكالات المدنية الأخرى وبرامج التنمية، لمساعدة البلدان مع برامج التطعيم الوطنية الخاصة بهم. وستُوظَّف الشركات والمنظمات غير الربحية ومنظمات المجتمع المدني للمساعدة في زيادة إنتاج اللقاح وزيادة التمويل وتقديم المساعدة الفنية للنظراء الأجانب.
ويتعيَّن على حكومة الولايات المتحدة أن تبذل مثل هذا الجهد على وجه التحديد في الوقت الحالي: استجابة شاملة لحملة تطعيم عالمية. ستعمل مثل هذه الحملة على تعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة وإعادة تنشيط القيادة الأمريكية العالمية بعد سنواتٍ من التراجع. وبدلاً من إدامة دبلوماسية التعاملات القائمة على لقاح الصداقة بين الصين وروسيا، يمكن لجهود اللقاح التي تقودها الولايات المتحدة أن تنشِّط تعدُّديةً جديدة أشمل وأكثر واقعية من النظام الدولي للقرن العشرين وأكثر تكيُّفاً للتعامل مع التهديدات العالمية في القرن الحادي والعشرين. من الجيِّد أن تتذكَّر واشنطن أنه إذا عاد كوفيد-19، فسوف تكون الحكومات الاستبدادية قادرةً على عزل شعوبها بشكلٍ أسرع وأكثر فاعلية، لذلك حتى من الناحية التنافسية، فإن أفضل رهان للولايات المتحدة هو حقاً القضاء على الفيروس عالمياً.
لدى الولايات المتحدة فرصةٌ بالغة الأهمية لإثبات أن الديمقراطية يمكن أن تحقِّق النجاح، وأن المُثُل الأمريكية عالمية حقاً. ومن خلال تقديم نموذجٍ للتعاون العالمي يعتمد على نطاقٍ أوسع بكثير من الموارد، أكثر مِمَّا تقدِّمه أيُّ حكومة، يمكن للولايات المتحدة أن تقود جهوداً للقاح تعتمد على نقاط القوة في المجتمع الأمريكي المنفتح والمُتعدِّد. سيثبت الرئيس بايدن بشكلٍ لا لبس فيه أن الولايات المتحدة لا تعود إلى مكانتها فحسب، بل تتطلَّع وتقود العالم إلى الأمام.
تُعَد جائحة كوفيد-19 أكبر كارثة إنسانية واقتصادية واسعة النطاق في العصر الحديث، وحصيلة خسائرها أكبر بكثير من الكوارث الطبيعية، بل وأوسع انتشاراً كذلك، وتُوفِّيَ أكثر من 2.8 مليون شخص بسبب الفيروس، رغم أن هذا بالتأكيد أقل من العدد الحقيقي. وفقاً للبنك الدولي، دفعت الجائحة ما يصل إلى 124 مليون شخص إلى الفقر المدقع في عام 2020، وهو العام الأول من زيادة أعداد من يعيشون في فقرٍ مدقع منذ عقدين. وتُقدِّر صحيفة The Economist أن عامين من الجائحة سيكلِّفان العالم 10.3 تريليون دولار- وهو ما يقول عنه البنك الدولي إنه ضعف عمق الكساد الكبير. في النهاية، الطريق الوحيد لإيقاف هذا الانهيار هو التلقيح العالمي.
هل تنقذ أمريكا نفسها فقط؟
تقوم خطة الإدارة الأمريكية على تحويل 1.9 تريليون دولار إلى قطاعاتٍ مختلفة من الاقتصاد، وسيكون للجهود الشاملة أكبر وأسرع تأثير على مكافحة الجائحة، وهذا التأثير سيكون في مصلحة الولايات المتحدة الذاتية.
لدى الولايات المتحدة الكثير لتكسبه من التعافي السريع للاقتصاد العالمي. قدَّرَت دراسةٌ من مجموعة أوراسيا أن تطعيم الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط سيولِّد ما لا يقل عن 153 مليار دولار للولايات المتحدة وتسعة اقتصادات متقدِّمة أخرى في عام 2021، وما يصل إلى 466 مليار دولار بحلول عام 2025. وحتى لو قامت الولايات المتحدة بتلقيح سكَّانها بالكامل، فإن انتعاشها الاقتصادي سيستمر ما دام شركاؤها التجاريون لا يملكون الوصول الكامل للقاح أثناء استمرار الجائحة.
وكما قال بايدن، "لن نكون آمنين في نهاية المطاف حتى يصبح العالم آمناً". وعلاوة على ذلك، فإن جائحة اليوم لن تكون الأخيرة. إن الشراكات والبنية التحتية للصحة العامة التي تبنيها الولايات المتحدة لتلقيح العالم من هذا الفيروس ستدافع أيضاً عنه ضد مسبِّبات الأمراض الفتَّاكة أو التهديدات الصحية التالية. لا يمكن فصل حماية الأمة من الأمراض عن حماية العالم أجمع.
في عام 2018، أصدرت الولايات المتحدة استراتيجيةً وطنية للدفاع البيولوجي، وبدا أن هذه الاستراتيجية تعترف بهذا الترابط. ودعت الاستراتيجية إلى تطوير اتفاقية وشراكات لمساعدة الدول الأجنبية في الاستعداد والاستجابة للحوادث البيولوجية. لا يمنع هذا التعاون التهديدات الناشئة فحسب، بل يساهم أيضاً في روح الانفتاح التي يمكن أن تؤتي ثمارها بطرقٍ عميقة. لم يكن هناك مثل هذا الانفتاح بين الصين والولايات المتحدة حين ظهر فيروس كورونا المُستجد في 2019.