بدأت حالات الإصابات بكورونا في الارتفاع بشكل مطرد في جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي، من 200 إصابة لكل مليون في منتصف فبراير/شباط الماضي، إلى 270 إصابة لكل مليون شخص في نهاية الأسبوع الماضي. ورغم أن هذا المستوى من الإصابات ما زال بعيداً عن الرقم القياسي للإصابات في الاتحاد الأوروبي البالغ 490 لكل مليون في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإنه يتخذ اتجاهاً مقلقاً بحسب أطباء ومراقبين، يعيد للأذهان ما حصل للقارة العجوز العام الماضي.
شبح كورونا يخيم مجدداً على أوروبا
يبدو أن شبح ذروة الإصابات والوفيات الذي خيّم على إيطاليا العام الماضي بدأ يعود إليها مجدداً الآن، إذ تم تصنيف معظم المناطق في إيطاليا، بما في ذلك روما وميلانو، الآن، على أنها "عالية المخاطر"، وسيكون هناك إغلاق وطني لمدة ثلاثة أيام في عيد الفصح، 4 أبريل/نيسان القادم.
يقول طبيب إيطالي رفض الكشف عن هويته لموقع AJEnglish: "لقد كنا في فترة استقرار نسبي في ديسمبر (كانون الأول)، ويناير (كانون الثاني)، ولكن الآن تتدهور الأرقام مرة أخرى بسرعة كبيرة، لقد سئمنا كل هذا".
وبحسب تقرير لشبكة CNN يحذر الأطباء الإيطاليون من مخاوف بشأن متوسط العمر والحالة الطبية لمرضى كورونا الجدد، إذ لاحظ الكثيرون حدوث تحول. لم يعد معظم المرضى من كبار السن المصابين بأمراض مزمنة في أجنحة المستشفيات، ولكن أيضاً الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم دون الخمسين، الذين كانوا في السابق يتمتعون بصحة جيدة.
وفي أنحاء كثيرة من أوروبا الشرقية أيضاً، في دول مثل المجر وسلوفاكيا وبولندا وجمهورية التشيك، باتت ترتفع أرقام الإصابة بكورونا بشكل غير مسبوق، فما الأسباب وراء ارتفاع الإصابات رغم جهود التطعيم بلقاحات كورونا المختلفة التي تقودها الحكومات الأوروبية؟
وفي العاصمة النرويجية أوسلو، قرّرت الحكومة إغلاقاً موسّعاً يشمل المدارس، حتى السادس من أبريل/نيسان المقبل، ونقلت وكالة الأنباء الرسمية صباح الثلاثاء، عن عضو مجلس المدينة، ريموند يوهانسن، أن الإغلاق "إجراء اضطراري لمواجهة الموجة الثالثة من العدوى"، معتبراً أن "الإجراءات الأخيرة هي الأعمق والأشمل" منذ ظهور الفيروس قبل نحو عام في اسكندنافيا.
المزيد من السلالات المعدية، ومعدلات التطعيم البطيئة
أصبحت إيطاليا في العام الماضي المركز الغربي للوباء، عندما انتشر الفيروس لأول مرة في جميع أنحاء القارة، ولا تزال صور الشاحنات العسكرية في بيرغامو تحمل الجثث حية في الذاكرة. بعد فترة وجيزة أصبحت العديد من الدول الأوروبية غارقةً في بحر الإصابات.
لكن بعض الأكاديميين حذّروا من النظر إلى الزيادة الأخيرة على أنها موجة ثالثة على مستوى أوروبا. ويقول غييرمو مارتينيز دي تيخادا، أستاذ علم الأحياء الدقيقة والطفيليات في جامعة نافارا في شمال إسبانيا، للجزيرة الإنجليزية: "من الواضح أن بعض البلدان الأوروبية في ورطة، لكن في دول أخرى، مثل البرتغال وإسبانيا، الأرقام ليست عالية جداً، وعلينا الآن أن ندرس حالة كل دولة على حدة".
ويؤكد دي تيخادا أن أحد أهم أسباب ارتفاع الإصابات بأوروبا اليوم هو السلالات الجديدة، وخاصة السلالة البريطانية، التي يقال إنها أكثر عدوى بنسبة 70% من النسخة الأولى للفيروس. مارتينيز دي تيخادا مقتنع بنفس القدر بأن معدلات التطعيم البطيئة في أوروبا هي أيضاً وراء الزيادة.
ووفقاً لتقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية فإنه اعتباراً من الأسبوع الماضي أعطى الاتحاد الأوروبي 8 جرعات أولى لكل 100 شخص، مقارنة بـ33 للمملكة المتحدة و25 للولايات المتحدة. ويُعزى بطء الطرح إلى التأخيرات المزمنة على ما يبدو في الإمدادات التي يعود تاريخها إلى شهر يناير/كانون الثاني، عندما أدى انخفاض شحنات لقاح فايزر إلى إثارة الخلافات مع إيطاليا.
وبحسب تقرير بلومبيرغ، فإنه منذ ذلك الحين كانت هناك مشاكل في فرنسا وإيطاليا مع لقاح Moderna، وكذلك المشاكل حول جرعات AstraZeneca الموعودة، البالغة 90 مليون جرعة بحلول نهاية شهر مارس/آذار، وفي الأسبوع الماضي كانت هناك تقارير تفيد بإمدادات لقاح Johnson & Johnson ذي الجرعة الواحدة، الذي تمت الموافقة عليه مؤخراً من قبل وكالة الأدوية الأوروبية، قد يتأخر أيضاً.
أزمة لقاح أسترازينيكا أسهمت في تعثّر حملة التطعيم بأوروبا
وبعد انضمام فرنسا وألمانيا إلى أيرلندا والنرويج والدنمارك وهولندا في تعليق استخدام لقاح أكسفورد-أسترازينيكا، رغم أن وكالة الأدوية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية تنصحان الناس بالاستمرار في تناوله، يبدو أن هذا الإحجام الشائع بين الحكومات الأوروبية بدافع "الحذر الشديد" شكل تباطؤاً في توزيع اللقاحات لكبح جماح الفيروس، كما يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وكانت هذه الدول قد علقت استخدام "أسترازينيكا" في أعقاب تقارير أفادت بأن عدداً قليلاً من الأشخاص أصيبوا بجلطات دموية بعد تلقي اللقاح، الأمر الذي أدى إلى تعثر حملة التطعيم في أوروبا، وبالتالي أثر ذلك على ارتفاع عدد الحالات.
وما زال تعليق الحكومات لهذا اللقاح يثير حيرة العلماء، إذ إن وكالة الأدوية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية تحققان في هذه الحوادث، ولكن لا يوجد دليل حتى الآن على أن اللقاح تسبب في أي منها.
ويقول خبراء إن أعداد حالات الجلطات الدموية وحالات نقص الصفائح الدموية بين الأشخاص الذين حقنوا باللقاح ليست أعلى منها بين السكان الذين لم يتلقوا اللقاح. وقالت الجمعية الدولية للإرقاء والتجلط، التي تمثل أطباء خبراء على مستوى العالم، يوم الجمعة، إن "العدد القليل من حوادث الجلطات المسجلة مقارنة بملايين التطعيمات بلقاح كوفيد-19 لا يشير إلى وجود صلة مباشرة".
وقالوا إن حالات تجلط الدم شائعة، لكنها ليست أكثر شيوعاً بين الأشخاص الذين حقنوا بلقاح كوفيد، وفقاً للأدلة المتوفرة حتى الآن. وأوصوا بأنه حتى الأشخاص الذين سبق وأصيبوا بجلطات الدم أو يتناولون أدوية مسيلة للدم يمكنهم تلقي اللقاح.
ووحدها بين الدول الأوروبية، تمتلك قبرص أعلى مستوى من الأشخاص الذين تم تلقيحهم في القارة في الوقت الحالي، وحتى الآن لا توجد دولة أوروبية قريبة بما يكفي لخلق مناعة للقطيع، والتي تتمثل بإصابة 60% من سكان الدولة في أدنى حد لها.
صراع أوروبي ما بين المخاوف الاقتصادية وإجراءات الإغلاق والتراخي في التباعد الاجتماعي
إلى جانب العوامل هذه، يزعم أكاديميون آخرون أن الطريقة التي تعاملت بها بعض الحكومات الأوروبية مع الأزمة الصحية تعني أن الحالات سترتفع حتماً مرة أخرى.
وتقول أستاذة الصحة العامة والمهنية في جامعة بومبيو فابرا في برشلونة، جوان بيناتش: "بشكل عام، كانت هناك ثلاث طرق مختلفة للرد على الفيروس في جميع أنحاء العالم. كانت هناك استراتيجية "عدم التدخل" كما هو الحال في الولايات المتحدة والبرازيل. من ناحية أخرى، في بعض دول شرق آسيا، هناك سياسة صارمة "COVID-Zero" التي حاولت القضاء عليها تماماً بتدابير جماعية صارمة. المسار الثالث هو الذي يهيمن على أوروبا الآن، وهو أكثر تفاعلية بكثير من كونه استباقياً، في الوقت الذي يتأثر فيه قطاع الأعمال بشكل كبير".
وتضيف: "في أوروبا بدلاً من محاولة القضاء على الفيروس تماماً كان الأمر يتعلق أكثر بتشديد القيود عندما تكون أعداد العدوى عالية، وخفضها مرة أخرى كلما تحسنت، إنها لعبة دائمة لن تنتهي إلا بعد تلقيح جماعي، وسيستغرق حدوث ذلك شهوراً، وربما طوال العام".
وفي إيطاليا يحذر الأطباء من عدم الالتزام بإجراءات التباعد الجسدي، والاعتقاد بأن الأزمة قد انتهت بالتزامن مع طرح اللقاحات يمكن أن يقود إلى كارثة قريباً. ويقول أطباء إن الكثير من السكان ما زالوا يشعرون بأنهم غير معرضين للخطر، بل إن البعض "ينتهك بسعادة" قواعد التباعد الاجتماعي، الأمر الذي قد يذهب بتضحيات القطاع الطبي المستمرة منذ عام أدراج الرياح.
في السياق، ظهر الصراع الأساسي في أوروبا بين المصالح الاقتصادية والقيود الاجتماعية مرة أخرى مؤخراً، عندما أعلنت شركة Eurowings الألمانية عن 300 رحلة إضافية إلى مايوركا -جزيرة سياحية إسبانية- خلال عيد الفصح، بعد أن خففت ألمانيا تحذيرات السفر لبعض أجزاء من إسبانيا.
والفنادق في ألمانيا مغلقة حالياً، وتنصح وزارة الخارجية الألمانية بعدم السفر السياحي غير الضروري، ويُحظر على الإسبان السفر غير الضروري خارج منطقتهم، لكن السياح من ألمانيا إلى مايوركا سيحتاجون فقط إلى اختبار PCR سلبي لدخول البلاد، ولن تكون هناك حاجة إلى الحجر الصحي عند عودتهم.
أوروبا أمام صراع شاق مع كورونا مجدداً
في الوقت نفسه، وبسبب التراخي في التباعد الاجتماعي، ارتفع في ألمانيا متوسط عدد الحالات الإيجابية لكورونا لمدة 14 يوماً بنسبة 26%، إلى أكثر من 17000، هذا الأسبوع. وحذر لوثار ويلر، رئيس معهد "روبرت كوخ" الألماني الذي يتعامل مع بيانات الوباء في البلاد، من "بداية موجة ثالثة".
وقال: "لم تحدث موجة أخرى على مستوى أوروبا بعد، ولكن بالنظر إلى عدد الموجات التي شهدناها حتى الآن، فإن موجة أخرى لن تكون مفاجأة. السؤال الرئيسي هو كيف يمكننا منع ذلك".
نظراً لتباطؤ توزيع اللقاحات، والمخاوف الاقتصادية من تدابير الإغلاق، والتراخي الكبير في التباعد والالتزام به، وظهور سلالات فيروس كورونا الأحدث والأكثر عدوى، تبدو أوروبا وكأنها في صراع شاق مجدداً مع هذه الجائحة.