أثارت الزيارات الرفيعة المستوى بين القاهرة مصر والسودان مؤخراً، تساؤلات حول المدى الذي سيصل إليه هذا التقارب المصري السوداني، وهل هو مؤقت مرتبط بالصراع مع إثيوبيا أم دائم؟
كما يلقي التقارب المصري السوداني الضوء على ملفات شائكة بين البلدين مثل أزمة مثلث حلايب الحدودي، ونظرة المكون الثوري في السودان للقاهرة بأنها حليف للجناح العسكري للحكم، وأنها تتدخل في شؤون البلاد لصالحه مع السعودية والإمارات، فهل تؤدي هذه الزيارات إلى ترميم العلاقة المتوترة بين القاهرة والمكون الثوري في البلاد؟
وزار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الخرطوم، في 6 مارس/آذار الجاري، للمرة الأولى منذ تشكيل الحكومة الانتقالية بالسودان في أغسطس/آذار 2019، وعقب ذلك أجرى رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، محادثات في القاهرة يومي 11 و12 من الشهر ذاته، يصاحبه وفد سوداني رفيع المستوى.
وطغت على محادثات حمدوك ملفات اقتصادية وسياسية لم يغب عنها سد "النهضة" الإثيوبي، حيث أكد البلدان تطابق الرؤى بينهما بشأن هذا الملف.
والتوافق بين القاهرة والخرطوم بشأن ملف السد، وفق مراقبين، هو أمر طبيعي، في ظل ما يقولان إنه "تعنت" من أديس أبابا خلال مفاوضات متعثرة على مدار نحو 10 سنوات.
لكن الأبرز، وفق المراقبين، هو اتفاق الجارتين العربيتين على المضيّ في مشاريع اقتصادية وتنموية ظلت غائبة بينهما.
وعقب عودته من القاهرة، وصف وزير شؤون مجلس الوزراء السوداني خالد عمر يوسف، في تصريح صحفي، الزيارة بالتاريخية، وقال إن البلدين توصلا خلالها إلى اتفاق بشأن الربط الشبكي للكهرباء ومد خط سكك حديدية بين مدينتي أسوان جنوبي مصر، وحلفا شمالي السودان.
كما تم الاتفاق مع مصر على مد السودان بـ240 ميغاواط من الكهرباء، مع التخطيط للربط الكهربائي مستقبلاً، بحسب يوسف.
أزمات داخلية للطرفين تدفع إلى تعزيز التقارب المصري السوداني
التقارب المصري السوداني الراهن، وفق مراقبين، مع أزمات داخلية في البلدين، فالأولى تعاني انتقادات لملفها الخاص بحقوق الإنسان، والثانية تكابد أزمات اقتصادية مستمرة.
والجمعة، دعت 31 دولة، بينها الولايات المتحدة، مصر إلى إطلاق سراح سياسيين ومعارضين، أوقفتهم السلطات بموجب قوانين الإرهاب.
وعادة ما تنفي القاهرة وجود معتقلين سياسيين، وتقول إنهم معتقلون على خلفية تهم جنائية.
ويُعتقد أن مصر تسعى إلى تحقيق نمو اقتصادي عبر التجارة مع السودان، وتوفير سلع زراعية والاستفادة من الموارد الضخمة التي يتمتع بها الجار الجنوبي (السودان)، خاصة على مستوى الأراضي الزراعية الخصبة.
وقال عبد المنعم أبو إدريس، الخبير السوداني المختص بالشأن الإفريقي، لوكالة الأناضول، إن "التقارب المصري السوداني دائماً ما يكون تقارباً وقتياً وليس استراتيجياً، بالرغم من العلاقات التاريخية بين البلدين".
وتابع: "فالقاهرة تهدف من التقارب مع السودان إلى فتح أسواق لمنتجاتها في غرب إفريقيا عبر السودان، لا سيما في حال توصيل خط السكة الحديدية بين البلدين".
وأردف: "مصر ليس لديها مانع في التعاون مع السودان في استثمارات زراعية تعود على شعبها بالفائدة، والخرطوم أيضاً تهدف إلى زراعة أراضيها بما يحقق فائدة لها".
سد النهضة ليس الدافع الرئيسي للتقارب الأخير
واستبعد أبو إدريس أن يكون ملف سد "النهضة" هو الأساس في التقارب المصري السوداني الراهن.
وأوضح أن "سد النهضة لن يؤثر على مصر في الملء الثاني له، فهي معنية أكثر باتفاقيات الملء الممتد وخلال سنوات الجفاف، بينما السودان في مأزق لما يمثله الملء الثاني من تهديد سريع له، بالإضافة إلى قضية تبادل المعلومات مع إثيوبيا حول مياه النيل".
وتقول الخرطوم إن الملء الثاني للسد من دون التوصل إلى اتفاق يتيح تبادل المعلومات، يهدد 20 مليون سوداني يعيشون على ضفاف النيل الأزرق، أي نصف عدد سكان السودان.
وتبدو مواقف السودان تجاه إثيوبيا مؤخراً أكثر قوة من مصر، رغم أنه قبل سنوات كان ينظر إلى أن الخرطوم لديها استعداد أكبر للتسوية مع أديس أبابا من القاهرة، خاصة أنه كان حديثاً عن إمكانية استفادتها من منافع السد فيما يتعلق بالطاقة الكهربائية تحديداً.
وكان لافتاً رغم أن البلدين أبديا قلقهما في بيان مشترك أصدره وزيرا خارجيتهما، من تعثر المفاوضات التي تمت برعاية الاتحاد الإفريقي. ولكن الغريب أن السودان هو الذي تقدم وحده إلى الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بطلب رسمي لوساطة رباعية في أزمة سد النهضة.
ولا يعرف سبب عدم انضمام مصر إلى الطلب السوداني بشكل رسمي، (حتى لو كان الرئيس المصري قد أعلن دعماً استباقياً شفهياً للخطوة السودانية) رغم التقارب المصري السوداني الأخير وتصاعد وتيرة التنسيق بين البلدين.
غزل مصري للمكون المدني في السودان
وخلال زيارته للقاهرة، أقدم حمدوك، بحسب مراقبين، على فتح ملفات إشكالية تحتاج إلى حل من قيادات البلدين، وهو ما أكسب الزيارة بعداً إضافياً.
ويرى هؤلاء أن مصر، التي ظلت على علاقة جيدة بالمكون العسكري في السلطة الانتقالية بالسودان، وجدت نفسها أمام ضرورة التعامل مع المكون المدني، الذي يمثله حمدوك.
ومن المعروف أنه منذ الإطاحة بالبشير كان يُعتقد أن القاهرة والرياض وأبوظبي يدعمون العسكريين في السودان، بينما كان يُنظر إلى إثيوبيا أنها أقرب للمكون المدني ولاسيما اليساري في البلاد، خاصة أن رئيس وزرائها آبي أحمد كان وسيطاً في الأزمة الداخلية السودانية.
كما كان حمدوك مقيماً في أديس أبابا بحكم منصبه كأمين عام للجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة.
ولكن اليوم يبدو آبي أحمد بمواقفه من النيل والنزاعات الحدودية ودعم التمرد في ولاية النيل الأزرق خصماً لكل السودانيين، وهو ما قد يعزز التقارب المصري السوداني.
حمدوك يفتح ملف أزمة حلايب
ومن القاهرة، دعا حمدوك، خلال لقائه باحثين وأكاديميين في مؤسسة "الأهرام" للصحافة (مملوكة للدولة)، إلى التحدث عن المسكوت عنه في العلاقات المصرية السودانية، وفتح ملف مثلث حلايب وشلاتين الحدودي المتنازع عليه بين الجارتين.
ومن حين إلى آخر، تتوتر العلاقات بين البلدين بسبب قضايا مختلفة، أبرزها النزاع على مثلث حلايب وشلاتين، الخاضع حالياً للسيطرة المصرية.
ويطل هذا المثلث على ساحل البحر الأحمر، على الحدود المصرية السودانية، بمساحة نحو 20.5 ألف كيلومتر مربع.
دعم غربي للجناح المدني في الحكومية السودانية
وربما ترى مصر، وفق مراقبين، أنه من المفيد التعاون مع حمدوك في ظل الدعم الأوروبي والأمريكي الكبير له من أجل قيادة التحول الديمقراطي، في السودان خلال مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، يتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش ومكونات مدنية وحركات مسلحة وقعت اتفاقاً للسلام في 3 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
إلا أن أمير بابكر، وهو كاتب وخبير سياسي سوداني، يرى أن "دلائل الزيارات بين المسؤولين في البلدين تشير إلى انزعاج مصر من التطورات الأخيرة في السودان وانفتاحه الكبير على العالم الخارجي، وكذلك "الاهتمام الغربي والأمريكي بتطوير علاقاته السياسية والاقتصادية مع الخرطوم، والزيارات المكوكية لمسؤولين غربيين رفيعي المستوى خلال فترات قصيرة للسودان". حسب قوله.
وأضاف بابكر للأناضول: "وكذلك الإشارات الإيجابية الأمريكية تجاه دعم السودان وتعزيز قدرات الحكم المدني فيه وصولا إلى الانتخابات التعددية المتوقعة".
وأردف: "يجب عدم إغفال العلاقات السودانية المصرية من وجهة نظر القاهرة، التي ترى أنها يجب أن تستمر وفقاً لرغباتها"، حسب قوله.
ورأى أن "الانفتاح الغربي على السودان وعدم مروره عبر مصر يقلق القاهرة التي تحاول أن تضع نفسها في موقف الوصيّ على سياسات السودان الخارجية، وهو ليس أمراً جديداً"، حسب تعبيره.