عاد شباب الحراك الجزائري إلى الشوارع والميادين، في الذكرى الثانية لانطلاق الحراك 22 فبراير/شباط 2019، وذلك بعد انقطاع دام 11 شهراً بسبب جائحة كورونا، وذلك في ظل توجه البلاد نحو تنظيم انتخابات تشريعية مطلع يونيو/حزيران المقبل، حيث تدفق المتظاهرون يوم الجمعة إلى الشوارع في مسيرات متجددة أطلقوا عليها "الجمعة الـ108 للحراك"، مطالبين بـ"دولة مدنية"، رافضين في الوقت نفسه إجراء الانتخابات التشريعية.
وشهدت العاصمة ومدن عدة منها تيزي وزو وبومرداس والبويرة بوسط البلاد وبجاية وقسنطينة وسكيكدة وجيجل وعنابة بالشرق ووهران بالغرب، مسيرات حاشدة. ورفع المحتجون شعارات كتب عليها عبارات: "اتركونا نشيد بما تسببتم أنتم في تهديمه"، و"الأجندة الانتخابية لا تحل الأزمة السياسية".
واستثمر النظام جائحة كورونا التي أدت إلى وقف طوعي للتظاهر منعاً لانتشار الفيروس، لإسكات بعض الأصوات التي يعتقد أنها مؤثرة في أوساط الحراكيين بتقييد الحريات تدريجياً، واعتقال عدد من قادة الحراك وناشطيه، وفرض مزيد من القيود على المظاهرات وتكميم الأفواه وقمع الحريات، تارة بحجة كورونا، وتارة أخرى بذرائع أمنية.
وأمام وضع يشبه "حوار الطرشان" تبرز الأسئلة الأكثر وجاهة: هل سيستمر الحراك الشعبي أم أنه مجرد هبّة ستهدأ مع مرور الوقت؟ وما السيناريوهات المحتملة، وكيف ستتعامل السلطة مع المحتجين؟
"عودة متوقعة عزّزتها سلوكيات السلطة"
بعد مرور 11 شهراً على توقف الحراك الجزائري طوعاً بسبب تفشي فيروس كورونا، اهتزت شوارع المدن في الجزائر على وقع هتافات المتظاهرين بشعارات تدعو للديمقراطية ودولة الحق والقانون، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن إدارة الحياة السياسية.
وحاولت السلطة استباق عودة الحراك بالإعلان عن حزمة من القرارات، شملت حل المجلس الشعبي الوطني البرلمان وإطلاق سراح معتقلي الرأي وتعديل الحكومة، والتحضير لانتخابات تشريعية مسبقة، لكن ذلك لم يُثنِ المتظاهرين عن النزول إلى الشارع.
كما شملت الخطوات الاستباقية هذه دعوة عدد من الأحزاب للقصر الرئاسي، للتشاور بشأن الانتخابات التشريعية المقبلة والمناخ السياسي في البلاد.
وكانت عودة الحراك بهذا الزخم متوقعة في ظل الأخطاء السياسية التي أظهرتها السلطة، كالسماح لحزبي السلطة؛ جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، بعقد مؤتمرهما وغلق وسائل الإعلام وتكثيف الاعتقالات والمحاكمات ضد الناشطين.
في مقابل هذه الاعتقالات، جاء نبأ تبرئة السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس السابق، ومساعديه، الجنرال محمد مدين المعروف باسم "الجنرال توفيق"، الذي ترأس إدارة المخابرات والأمن لمدة 25 عاماً، والجنرال عثمان طرطاق من تهم "التآمر ضد الدولة"، في يناير/كانون الثاني الماضي، ليزكي حالة الغضب في الجزائر.
كما أظهرت حكومة عبدالعزيز جراد عجزاً واضحاً سياسياً واتصالياً، وقدرة محدودة على معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية معاً، ولم تستطع تنفيذ وعودها بحل بعض الأزمات التموينية كالحليب والسيولة النقدية وغيرها.
لقد حاول النظام تسويق الذكرى الثانية للحراك على أنها احتفال وليس كمواصلة للمطالب الشعبية، غير أن المتظاهرين يعتبرون أن "الجزائر الجديدة" التي يسوق لها النظام لا تختلف كثيراً عن نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد طيلة عقدين.
هل سيستمر الحراك الجزائري أم أن ما يجري "هبَّة ظرفية"؟
بعد عامين من الحراك الشعبي لم تتحقق جميع مطالب المحتجين بعد، بسبب فرض السلطة "أجندة سياسية" أحادية الجانب ارتكزت على معطى إجراء الانتخابات فحسب.
فالرئيس تبون يبدو ماضياً في تجسيد ورقة الطريق السياسية التي أعلن عنها في حملته الانتخابية. ويبدو اهتمام السلطة منصبّاً على ترميم شرعيتها وتدعيم بنائها، وهذا يجب أن يمر عبر إعادة الفضاء إلى ما كان عليه قبل 22 فبراير/شباط.
ويتجاذب تياران رئيسيان الحراك، الأول يطالب بإلغاء كل المؤسسات، والبدء ببرلمان تأسيسي يضع دستوراً جديداً، ثم إجراء انتخابات رئاسية ونيابية. أما الثاني فيطالب بتغيير جذري يتمثل فقط في حكومة توافقية ولجنة انتخابات توافقية، تشرفان على انتخابات جديدة تمهد لإصلاحات عميقة.
ويرفض النظام وأغلب الطبقة السياسية الخيار الأول، ويرونه خطراً على البلاد، ويقول النظام إنه يعمل على تنفيذ الخيار الثاني، لكن بانخراط الجميع في الإصلاح والحوار.
وفي أول تعليق له على عودة المسيرات، قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون "إنها لا تشكل مصدر قلق أو إزعاج بالنسبة له". وأضاف أن هناك من خرج للتذكير بالمطالب، وهناك من خرج لأغراض أخرى، مشيراً إلى أن أغلب "مطالب الحراك الأصلي تحققت بدءاً من إسقاط العهدة الخامسة إلى التمديد ومحاربة الفساد، وأن الشعب اختار التغيير المؤسساتي على حساب المرحلة الانتقالية".
لكن على الأرض عاد النظام لاستحضار "فزاعة الأمن"، في محاولة لكسر الحراك الشعبي على ما يبدو، وقال إنه "أحبط مخططاً إرهابياً كان يسعى لتنفيذ عمليات تستهدف الحراك"، وإنه "أوقف مجموعة من الأجانب كانوا ينوون تخريب الحراك بدفع الشباب نحو أنماط متطرفة من التعبير".
ويبدو أن استمرار النظام في الإصرار على المضي قدماً في تجديد نفسه بأساليبه القديمة سيؤجج مشاعر المحتجين، ويمنح الحراك زخماً إضافياً في الأشهر المقبلة.
ففي بحر هذا الأسبوع استقبل الرئيس تبون الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني وقبله أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي، ما اعتبر استفزازاً مضاعفاً لمشاعر الجماهير الساخطة، ودافعاً للنزول إلى الشارع.
كما أن تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أضرت بالقدرة الشرائية لشريحة كبيرة من الجزائريين كان دافعاً آخر لاستمرار الحراك، ودفع بمزيد من المحتجين للانضمام إلى الحراك ولو بمطالب غير سياسية. ففي السابق كان النظام يستغل عائدات النفط لشراء السلم الاجتماعي، لكنه اليوم لا يملك المال الكافي لذلك.
تجديد الحراك
هناك أيضاً كتلة هامة قد تنضم إلى المتظاهرين، تتمثل في الكتلة السياسية الشعبية، التي قبلت الانخراط في المسار الانتخابي، وأصبحت اليوم تشكك في صدق نوايا النظام السياسية والإصلاحية، بعد إقرار التعديلات الدستورية التي جلبت الكثير من الانتقادات للسلطة. ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أُجري استفتاء على تعديلات دستورية في الجزائر، وكانت نسبة الإقبال فيه ضعيفة للغاية.
يستمد الحراك طاقته وحجته من تناقضات خطاب السلطة ومن فشلها في الاستجابة لطموحات الجزائريين، وستكون الأشهر القادمة عسيرة على السلطة، في ظل أزمة اقتصادية تلوح في الأفق، بسبب تهاوي أسعار النفط، ما يجعلها عاجزةً عن الوفاء بالوعود التي قطعتها للجزائريين.
إن الحراك الشعبي ليس حركة احتجاجية ظرفية أو قطاعية أو نقابية يمكن التعامل معها بنفس الطرق التي تعودت السلطة على التعامل معها، كما أنه لا يعتمد على قيادات محددة ليتم إخماده عبر بعض الاعتقالات، فهو عابر للأيديولوجيات والتيارات السياسية والجهات، وهو تعبير عن تحولات اجتماعية عميقة لم يستطع النظام مواكبتها أو الاستجابة لها.
قد يخمد الحراك، ولكن مقوماته تسمح له بتجديد نفسه، في حال استمرت مظاهر الفشل ومسبباته الأولى. لا بد من نهاية للأزمة السياسية في الجزائر، إما بتوافق وطني أو بالانتخابات التي تبقى غير كافية ما لم يصاحبها مسار كامل يضمن حق إنشاء الأحزاب وحرية الإعلام وحق التظاهر، وعدم إقصاء المعارضة من الفضاءات الإعلامية.