أصاب وباء كورونا الحياة على كوكب الأرض في مقتل منذ أكثر من عام، لكن تأثير الجائحة على بعض الدول كان أكثر سوءاً، وبالنسبة للولايات المتحدة قتل فيروس كورونا عدداً أكبر ممن قتلتهم حروب أمريكا جميعاً، والأخطر أنه كشف عن مدى هشاشة البلاد كقوة عظمى.
تخطّت إصابات فيروس كورونا حول العالم حاجز 120 مليوناً اليوم الأحد، 14 مارس/آذار 2021، وأودى بحياة أكثر من 2.6 مليون شخص، وتعافى منه أكثر من 96.6 مليون، بحسب موقع وورلدميترز كورونا. ولا تزال الولايات المتحدة تتصدر دول العالم من حيث عدد الإصابات بأكثر من 30 مليوناً، وعدد الوفيات في البلاد تخطى 546 ألفاً، وهو مؤشر على مدى الفشل في التعامل مع الوباء، مقارنة بباقي دول العالم، بحسب مراقبين أمريكيين.
وسلّط تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي بعنوان "ما الذي تعلمناه بعد عام من الوباء؟" الضوءَ على حقيقة كشف وباء كورونا بطريقة مميتة للغاية، عن مَواطن أخطر التهديدات على السلامة الجسدية للأمريكيين.
كورونا قتل أضعاف من قتلتهم حروب أمريكا مجتمعة
وقارن التقرير بين عدد الأمريكيين الذين توفوا بسبب جائحة كورونا وبين من فقدوا حياتهم في جميع الحروب التي خاضتها البلاد، موضحاً أن من قتلهم كورونا يتجاوزون بعشرات الأضعاف عدد الأمريكيين القتلى في جميع الحروب وبجميع الأسباب منذ بداية الحرب العالمية الثانية، إذ أثبت الفيروس أنه أشد فتكاً بهم من رصاص أعداء أمريكا.
وبالنظر إلى أنه يمكن القول إنَّ العديد من وفيات الحرب هذه كانت على الأقل نتاج عمل أمريكي بقدر ما كانت نتاج تهديد من خصم -وبالأخص الحرب الاختيارية مثل غزو العراق عام 2003- فإنَّ بعض الأسئلة الدقيقة حول التهديدات المُفترَضة مشروعة هنا: كم عدد الأمريكيين الذين ماتوا على أيدي الروس، أو على أيدي الإرهابيين، في ظل الانشغال بالإرهاب الدولي خلال العقدين الماضيين؟ إليكم إجابة واحدة عن السؤال الأخير: إذا حسبنا متوسط عدد القتلى الأمريكيين من "كوفيد-19" على مدار عام الوباء بأكمله، فسنجد أنه يعادل وقوع هجمات 9 سبتمبر/أيلول كل يومين.
إنَّ الطريقة الأمريكية التقليدية لإدراك التهديدات تجعل من غير المؤكد إلى أي مدى سيستوعبون الدروس الأساسية المستفادة من الوباء، ويصف رئيس معهد Quincy Institute أندرو باسيفيتش هذا التصور التقليدي بأنه يأتي من منظور عسكري، ويركز تركيزاً أساسياً على الدول القومية البعيدة. وتترسخ هذه الطريقة في إدراك العداوات في المواقف الأمريكية، ولها جذور في التاريخ مثل القتال ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية.
إضافة إلى ذلك، تُلون العدسة العسكرية بعض المناقشات حول التهديدات غير العسكرية المستفحلة بما يكفي لمزاحمة مرض معدٍ عالمياً؛ ألا وهو تغير المناخ، فإذا سألنا عن تداعيات تغير المناخ على الأمن القومي، من المرجح أنَّ الإجابة ستركز على شيء مثل مدى الخطر الذي يمثله ارتفاع مستوى سطح البحر على القاعدة البحرية الأمريكية في نورفولك، موطن الأسطول الأطلسي.
الأمن القومي لا يعني الأمور العسكرية فقط
لكن هذه نظرة مبتورة للغاية للأمن القومي، إذ يشمل أمن الأمة قدرة الأمريكيين على ممارسة مهنهم غير العسكرية، دون ذبول محاصيل المزارعين بسبب الجفاف المتزايد، على سبيل المثال.
وتتمثل إحدى السمات المستمرة الأخرى للأسلوب الأمريكي المعتاد في إدراك التهديدات في ضرورة وضع محصلة صفرية لكل شيء، فكل ما هو سيئ للخصم -إحدى تلك الدول القومية البعيدة- يُفترَض من دون مبرر أنه مفيد للولايات المتحدة.
ومثال حديث على ذلك في سياق "كوفيد-19" ينعكس في مناقشة نيكولاس جفوسديف وراي تاكييه بأنَّ الولايات المتحدة أدت أداءً جيداً خلال الجائحة، لأنَّ الخصوم مثل روسيا والصين وإيران مروا بسنة أسوأ، وذلك لعدة أسباب، منها العقوبات الأمريكية وليس بسبب "كوفيد-19" فقط. وعلى سبيل المثال، لا يقرون في أي جزء من المناقشة أنَّ المعاناة الإضافية التي سببتها الولايات المتحدة للإيرانيين لم تجلب أية فائدة لها في قضية مثل أنشطة إيران النووية، بل كانت لها نتائج عكسية.
ويتجلى نهج المحصل الصفري المتطرف في مقال نيكولاس جفوسديف وراي تاكييه بأوضح صورة في سياق "كوفيد-19″؛ نظراً لأنَّ الوباء الناتج عن فيروس لا يحترم الحدود الدولية هو أبرز دليل ممكن على المغالطات التي يعاني منها هذا النهج.
إذ يتخوف علماء الأوبئة، حتى المتفائلين منهم، بشأن قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على المرض داخل حدودها، من أنَّ العامل المُمرِض في مكان آخر سيمثل تهديداً دائماً بخروج الوضع عن نطاق السيطرة. واتضحت عدم فاعلية حظر السفر في منع انتشار الفيروس دولياً من خلال تصرفات إدارة ترامب في هذا الصدد، التي نبعت جزئياً من معاداة الأجانب والجزء الآخر من محاولة إصلاح وضع خرج مسبقاً عن السيطرة.
تزعزع الثقة في أمريكا عالمياً
وفي هذا السياق، يرى كثير من المحللين أن خسارة دونالد ترامب الانتخابات الأخيرة وحرمانه من الفوز بفترة ثانية يرجع على الأقل في جزء ليس بالقليل منه، إلى فشل إدارته في التعامل بشكل جدي وعلمي مع الوباء وإلى التصريحات غير العلمية للرئيس السابق نفسه.
وتلقت القوة الناعمة الأمريكية أكبر ضربة لها بعدما سجلت الولايات المتحدة أكبر عدد من الإصابات والوفيات الناجمة عن فيروس "كوفيد -19" في العالم إلى الآن، ما أظهر قواها الناعمة بمظهر عدم الكفاءة. وحتى عند النظر إلى الإحصائيات على أساس نصيب الفرد، فمثل هذا السجل في التعامل مع المرض لبلد كبير وثري وقوي ومتقدم علمياً كان أمراً محرجاً.
ويستند الكثير من التعاون الذي تتلقاه الولايات المتحدة، بشأن مجموعة واسعة من القضايا من الدول الأخرى، إلى تصور الدولة الأخرى للولايات المتحدة على أنها قوة ناجحة وفعالة يمكنها إنجاز المهام الصعبة. وسيكون لتشويه هذه الصورة تأثيرات خفية، لكن مهمة، على العلاقات الخارجية للولايات المتحدة في الأشهر المقبلة.
ولا ترجع حالة عدم اليقين بشأن مقدار ما سيستوعبه معظم الأمريكيين من دروس وباء "كوفيد-19" إلى الطريقة الأمريكية المعتادة المتأصلة في النظر إلى التهديدات فحسب، بل أيضاً إلى التسييس المتفشي لإدارة الوباء.
وبدأ ذلك باستهانة الرئيس السابق بمدى خطورة الوباء، والتقويض النشط للتدابير الوقائية التي يفرضها المسؤولون الحكوميون والمحليون، وجعل تحدٍّ مثل هذه الإجراءات شكلاً من التعبير السياسي أو الثقافي. ويستمر هذا مع دولة منقسمة انقساماً واضحاً أدت الحوافز السياسية في بعض أجزائها إلى التخلي عن تدابير الحماية حتى عندما يكون الوضع الوبائي بعيداً جداً عن السيطرة.
ويلاحظ الجمهور والحكومات الأجنبية كل هذا؛ ما يزيد سوءاً صورة ضعف الإدارة الأمريكية لأخطر أزمة صحية عامة منذ عقود، ولم يكن الأداء الأمريكي خلال الوباء جيداً، وستتجاوز التكاليف التي تتحملها الأمة الموت والمرض بين مواطنيها، وستمتد إلى علاقاتها مع بقية العالم.