خفضت وكالة مودييز مؤخراً تصنيف تونس الائتماني من B2 إلى B3 مع الاحتفاظ برؤية سلبية للمستقبل، وهو تصنيف خطير جداً يأتي درجة واحدة قبل تصنيف المخاطر العالية C وإعلان إفلاس الدولة.
يأتي ذلك في ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة تعيشها البلاد بسبب التجاذبات السياسية العالية بين الفاعلين السياسيين. وبالرغم من الدعوات للحوار الوطني الذي دعت له بعض الأحزاب والمنظمات الوطنية، وأبرزها مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن مؤسسة الرئاسة رفض الإشراف أو المشاركة في أي حوار قبل استقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، هذا إضافة لاستثناء الأطراف التي تحوم حولها شبهات فساد من المشاركة فيه.
تعطيل الحوار الوطني
هذا الموقف الحاسم لرئاسة الجمهورية من الحوار الوطني، الذي من المفترض أن يجمع كل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي والحزبي والنيابي، رأى فيه متابعون للشأن السياسي في تونس هروباً إلى الأمام وقطعاً للطريق عن أي حل ممكن للأزمة التي تعيشها البلاد، بل ذهب آخرون لاعتبار موقف رئيس الدولة قيس سعيد من الحوار الوطني فيه الكثير من الشخصنة للخلاف بينه وبين رئيس الحكومة، لأن الدعوة لإقالة هذا الأخير كشرط مسبق لأي حوار هو بمثابة الشرط التعجيزي إذا ما علمنا مدى تمسّك حزامه السياسي المكون من حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة ببقائه في الحكم خلال المرحلة الحالية.
وقد كانت الخلفية السياسية للرئيس قيس سعيد قبل وصوله للحكم تنبئ بلعبه دور وطني متسامٍ على الخلافات وصراعات الأحزاب التي لم يكن يؤمن بها وبأدوارها في الحياة السياسية، ولا يزال إلى اليوم يحمل هذه القناعة بالرغم من قربه لحزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب المعارضين للحكومة الحالية، واستقباله في أكثر من مرة لقيادات من داخلها.
عندما زار الرئيس سعيّد الدوحة نوفمبر/تشرين الثاني 2020، نظمت السفارة التونسية لقاء له مع الجالية المقيمة في قطر، تقدم له عندها الإعلامي والكاتب محمد كريشان بملاحظة في شكل سؤال عن سبب تراجعه عن دوره المترفع عن الأحزاب والخلافات لصالح بعض الأحزاب التي استأسدت به في خلافها مع أحزاب أخرى، وتوجيه اللوم لأحزاب دون غيرها عن تأزم الوضع في البلاد، فكانت إجابته إنه حاول قدر جهده أن يكون مجمّعاً، لكن الأمور لم تسر كما شاء.
وبناءً على ما سبق، فإن مسألة إجراء حوار وطني لأجل إيجاد حلول لمختلف مشاكل البلاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لم يعد مطروحاً بجديّة في ظل الاشتراطات شبه التعجيزية لمؤسسة الرئاسة وانخراط قيس سعيد كطرف في الصراع الدائر بين الأحزاب، إلا في حالة تغير بعض المعطيات الميدانية وتخلي حركة النهضة وقلب تونس عن رئيس الحكومة هشام المشيشي وهو أمر صعب.
واعتبر رئيس كتلة حزب قلب تونس، أسامة الخليفي، أن اشتراط رئيس الجمهورية استقالة رئيس الحكومة من مهامه هو "خرق للدستور، فلا يحق لرئيس الدولة طرح هذا الشرط أو التدخل في صلاحيات المشيشي. كما أن صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة دستورياً وتقتصر فقط على الشؤون الخارجية والدفاع، ومواصلة الضغط في اتجاه فرض استقالة الحكومة في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد، يعد ضرباً من ضروب العبث والدفع نحو الفراغ والفوضى".
وبحسب ملاحظين، فإن مصير الحكومة يجب أن يكون أحد نقاط الحوار سواء بتعديلها أو تغييرها بالكامل وليس إزاحتها قبل الحوار وترك فراغ سياسي كبير ثم بعد ذلك التحاور حول بديل للمشيشي وحكومته.
أين أخفق سعيد سياسياً؟
أجمع الملاحظون أن الرئيس قيس سعيد شخصية سياسية غير تقليدية، إذا خاض حملته الانتخابية دون سند من حزب سياسي أو مجموعة ضغط أو أي شكل آخر من التنظيم، ولم يكن له من برنامج سياسي سوى شعاره الشهير "الشعب يريد". ولكن كانت له أفكار سياسية في علاقة بالنظام السياسي ومواقف مناهضة للفساد والفاسدين في السياسة والأعمال. ولكن حصيلة عام ونصف من الحكم لم تعكس حتى الآن ماذا يعني بـ"الشعب يريد"، ولم يقدم أي اقتراح مشروع قانون في مجلس نواب الشعب لتغيير النظام السياسي أو تعديله حسب رؤيته التي تقوم على نظام رئاسي معدّل بصلاحيات أكبر.
كما أنه لم يُقدِم حتى الآن على اتخاذ خطوات ملموسة وواضحة لمحاربة الفساد خصوصاً أنه يرأس مجلس الأمن القومي وبقدرته دفع المجلس الأعلى للقضاء لإثارة ملفات الفساد التي جاءت في التقرير السنوي لمحكمة المحاسبات والتي تشمل سياسيين ورؤساء أحزاب ونواب ورجال أعمال.
وقد توالت الدعوات لقيس سعيد لتطبيق صلاحياته ومحاكمة الفاسدين الذين يقفون وراء إغراق البلاد بالديون إلا أنها لم تجد لها استجابة في الرئاسة حتى الآن أو على الأقل حسب ما رصد من نشاط رئاسي في السنة ونصف التي قضاها في الحكم.
وبحسب الباحث في معهد كارينغي، حمزة المؤدب، فإنه كان من المنتظر أن تلعب رئاسة الجمهورية بصفتها العقل الاستراتيجي للدولة، دورها المنتظر منها في الأزمة الحالية، ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد": "وفي الوقت الذي بدت فيه الطبقة السياسية منغمسة في إدارة الأزمات اليومية، لم نر سعيّد يلعب دور المفكر الاستراتيجي، وحتى هياكل رئاسة الجمهورية بدت وكأنها تتخبط بسبب نقص الخبرة وغياب وضوح الرؤيا".
وفي المحصلة، نجد أن الرئيس سعيّد غرق في الشأن الداخلي والتجاذبات السياسية والحزبية، خصوصاً مسألة خروج المشيشي عن طوعه واستبعاد وزراء الرئيس من الحكومة على حساب القضايا الكبرى للبلاد والسياسات الخارجية، فكيف هو الحال مع الدبلوماسية؟
مدى توفق الرئيس دبلوماسياً
أهم محطة دبلوماسية توقف عندها قيس سعيد، كانت الزيارة التي أداها لفرنسا في 22 يونيو/حزيران من العام الماضي، حيث أحدثت تصريحاته التي وصف فيها شرعية حكومة الوفاق الليبية بـ"المؤقتة" جدلاً واسعا لما فهم منها ساعتها من مغازلة للرئيس الفرنسي ماكرون في محاولة لكسب دعمه لمشروع خط السكك الحديدية الذي من المفترض أن يربط بين محافظة بنزرت في أقصى الشمال التونسي ومدينة بن قردان في أقصى الجنوب على الحدود الليبية. ولكن لم يتحقق لحد الآن شيء سوى الوعود بالتمويل والدعم المادي واللوجستي.
الأمر لم يتوقف عند فرنسا فقط التي لم يظفر من زيارته لها بشيء يذكر، ولم تنشط الدبلوماسية الاقتصادية التونسية بالشكل اللازم لتحصد المشاريع والاستثمارات. بل وفي كل زياراته الخارجية، على ندرتها، لم يكن ليحظى سوى بالوعود لتمويل مشاريعه التي يحلم بتنفيذها، ولعل أهمها مدينة الأغالبة الطبية التي يبحث لها عن التمويل والقروض منذ فترة.
وفي الوقت الذي من المفروض أن ينشّط فيه رئيس الدولة الدبلوماسية الاقتصادية لإيجاد حلول معاضدة للوضع المتأزم الذي تعيشه البلاد منذ سنوات بالصلاحيات الواسعة التي يحوز عليها في هذا المجال، بدءاً من بوابة إعادة البناء الليبية والتوجه جنوباً نحو الاستثمار في إفريقيا التي تشهد انتعاشة اقتصادية، نجد أن تونس شبه غائبة عن القمة الــ34 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت في شهر فبراير/شباط المنقضي ومتابعة نشاطها من بعيد في الوقت الذي كان يستقبل فيه وفوداً برلمانية لتدارس الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، رغم أن الدبلوماسية إحدى صلاحياته القليلة والهامة في نفس الوقت لرئيس الجمهورية حسب دستور 2014، إلا أنه فضّل تركيز اهتمامه على صراعات داخلية عبثيّة فيما يشبه "حرب طواحين الهواء"، على حد تعبير رئيس الحكومة هشام المشيشي.
عكست حصيلة عام ونصف للرئيس قيس سعيّد، الكثير من النوايا الحسنة والمبدئية في إدارة الشأن العام والقليل من الإنجازات إن لم نقل منعدمة. فلم يقدر حتى الآن على تجسيد ما يطمح لتحقيقه من مشاريع بنية تحتية (المدينة الطبية بالقيروان، طريق السكك الحديدية التي تربط أقصى الشمال بأقصى الجنوب..) ولا قدر على إدارة خلافاته السياسية وإيجاد نوع من التوازن أو التوافق مع خصومه مثلما هو الحال مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ولا استطاع استيعاب لحد الآن التعامل بواقعية مع المنظومة التي تسيير البلاد منذ عقود، وبقي يراوح بين المتحرر من القواعد وبروتوكولات الحكم وبين الماسك بمنصب على رأس النظام.
وبالتالي أصبح سعيّد جزءاً من المشكل في البلاد ولم يعد متسامياً على الخلافات السياسية الدائرة حوله، وساهم بشكل أو بآخر في تعميق الأزمة السياسية الخانقة التي تعصف بالبلاد بصفر إنجازات وحلول، مثله مثل باقي الطبقة السياسية الحاكمة في تونس حالياً.
مستقبل العلاقات بين الرئاسة والحكومة
تؤشّر المعطيات والبيانات الميدانية على أن الصراع السياسي غير المسبوق، الذي تشهده تونس، بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة يمضي في اتجاه التصعيد في سياق معركة كسر العظام بين الطرفين، في الوقت الذي يحذر فيه مراقبون من تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطن التونسي، واتجاه البلاد نحو إعلان الإفلاس إذا لم يقع تدارك الأمر واتخاذ تدابير وإجراءات عاجلة لإنعاش الاقتصاد الوطني المتهالك.
للتذكير، فإن قرار إعفاء خمسة وزراء من الحكومة، من بين المحسوبين على الرئيس قيس سعيد، خلال التعديل الوزاري الأخير كان النقطة التي أفاضت الكأس في العلاقة المتوترة أصلاً بين الرجلين، إلا أن كثيرين اعتبروا مسألة إقالة وزراء الرئيس مجرد واجهة للصراع الدائر بين الطرفين حول الصلاحيات الدستورية والسلطة الترتيبية التي يتمتع بها كلا الطرفين في ظل نظام سياسي شبه برلماني، يسعى فيه الرئيس إلى تعزيز صلاحياته وتوسيع سلطاته.
صراع سعيد مع الحكومة لا يقتصر فقط على المشيشي كما هو معلوم، بل هو صراع مفتوح مع رئيس الحكومة ومن يقف وراءه من أحزاب وائتلافات سياسية (حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة)، وخصوصاً رئيس البرلمان راشد الغنوشي. وقد تطور الصراع بين الطرفين إلى استعراض القوة والدعوات للنزول للشارع تأييدا لهذا الطرف أو ذلك مما يؤشر على إمكانية خروج الأمور عن السيطرة وتطورها إلى حرب أهلية.
من جانبه، اعتبر أحمد إدريس، مدير معهد تونس للسياسة، في حوار على القناة الوطنية الأولى، أن "أفق العلاقة بين رئيس الجمهورية والحكومة مسدود، والحل الوحيد هو استقالة الحكومة وإن أدى الأمر إلى إعادة الانتخابات"، وبيّن أنه لا يمكن للحكومة أن تستمر بهذه الطريقة وبهذا التقليص في العدد.
السيناريوهات المحتملة
لا يزال الوضع على ما هو عليه بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة منذ التعديل الوزاري، لم يتغير شيء ولم يتنازل أي طرف منهما لتسهيل الخروج بحل للأزمة، وفي ظل هذا التعطيل والضبابية، تطل بعض السيناريوهات لحل الأزمة.
السيناريو الأول: تغيير رئيس الحكومة هشام المشيشي لقائمة الوزراء المقترحين لأداء اليمين الدستورية عبر استبعاد الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد واستبدالهم بوزراء آخرين يتم التثبت مسبقاً من سيرتهم الذاتية وخلو ملفاتهم من أية شبهات، لكن هذا الخيار غير ممكن حالياً، بالرغم من أنه أكثر خيار واقعي ويرضي جميع الأطراف، وذلك لأن رئيس الدولة قيس سعيد لم يقدم لحد الآن قائمة بأسماء الوزراء الذين يعترض عليهم.
السيناريو الثاني: تقديم هشام المشيشي وحكومته استقالتهم، وبالتالي تعود المبادرة لرئيس الدولة لاختيار رئيس حكومة جديد، وهو حل صعب جداً في الوقت الحالي لما يحظى به المشيشي من دعم كبير من حزامه السياسي، وعدم اظهاره لأية مؤشرات تدل على أنه قادر على القيام بتضحية بهذا الحجم.
السيناريو الثالث: قبول رئيس الدولة بالتعديل الوزاري المقترح دون استبعاد أي من الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد، وهو أمر مستبعد بسبب شخصية قيس سعيد العنادية والمتصلبة، وميله نحو الخيارات الصدامية.
السيناريو الرابع: سحب البرلمان الثقة من حكومة المشيشي من أجل البدء في حوار وطني بين جميع الأطراف بمن فيهم رئيس الدولة ورئيس البرلمان واتحاد الشغل وغيرها من المنظمات الوطنية والأحزاب، وهو حل واقعي ويمكنه أن يجمع عدد كبير من الفاعلين السياسيين حوله، لكن هذا الحل يبقى مرتهنا بمدى تفاعل الحزام السياسي للمشيشي والذي يمثل الغالبية في البرلمان لهذا الحل، خصوصاً أن أغلبية الأحزاب الداعمة للمشيشي عبرت أكثر من مرة عن دعمها له وتمسكها به في المرحلة الراهنة.
نجاح هذا السيناريو يتطلب تفاهمات مسبقة بين سعيّد والحزام السياسي الداعم للمشيشي حول العديد من الملفات قبل الدخول في الحوار الوطني، وأهمها إرساء المحكمة الدستورية وتغيير القانون الانتخابي والنظام السياسي وإيجاد حلول للشركات العمومية والصناديق الاجتماعية. والأهم من ذلك كله هو إيجاد آليات توافقية يتم من خلالها حل الإشكاليات التي ستطرأ مستقبلاً بين القصبة وباردو وقرطاج من أجل تجنب تأزيم الأوضاع وتعطّل دواليب الدولة.