كان إنهاء حرب اليمن هو الهدف الأول لإدارة جو بايدن في ملفات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وركزت الولايات المتحدة على الدور السعودي في تلك الحرب، لكن تقارير أمريكية تقول إن الانسحاب الإماراتي المعلن لا يعني انتهاء دورها، ليس في اليمن فقط، وإنما في القرن الإفريقي أيضاً.
إذ بعد أقل من أسبوعين من تولّي جو بايدن منصبه، يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، جاء التحرك الأول لإدارته في الشرق الأوسط متعلقاً بالحرب في اليمن، وشهدت الأيام الأولى من فبراير/شباط الماضي قرارات متتالية، كان أولها إعلان الرئيس الأمريكي إنهاء دعم واشنطن للعمليات العسكرية التي يشنها تحالف دعم الشرعية بقيادة السعودية، بما في ذلك بيع الأسلحة والمعدات للسعودية والإمارات، ثم تعيين مبعوث خاص لليمن، وإلغاء تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لليمنيين تحت سيطرتهم في الشمال، وأيضاً تسهيل بدء المفاوضات للبحث عن حل دبلوماسي للحرب الكارثية التي دخلت عامها السابع.
تركيز بايدن على السعودية
لكن التركيز الواضح من الإدارة الأمريكية على دور السعودية في حرب اليمن، في مقابل تجاهل الدور الإماراتي، قد أثار انتقادات عديدة داخل أروقة السياسة الأمريكية، إذ قال جاستن راسل، رئيس مركز نيويورك للشؤون السياسية الخارجية (NYCFPA)، الذي رفع دعوى قضائية على وزارة الخارجية الأمريكية بشأن صفقة أسلحة متوقفة في الوقت الحالي مع الإمارات، لموقع Middle East Eye البريطاني، إن مركزه لديه ما يُثبت استمرار التدخل الإماراتي في اليمن. وقال راسل: "الإمارات، سواء في دائرة الضوء أو بعيداً عن الأنظار، لا تزال ماضية في دورها العدواني في المنطقة".
وأضاف راسل: "صرف إعلان انسحاب الإمارات أنظارَ المجتمع الدولي عما تفعله في المنطقة بالفعل… لكننا تقصّينا وتوصلنا إلى أن التمويل والدعم الميداني من الإمارات في اليمن لا يزالان مستمرين بصفة منتظمة".
هل انسحبت الإمارات فعلاً؟
وأعلنت الإمارات تفكيك قاعدتها العسكرية في عصب الإريترية، أو انسحابها منها، تزامناً مع إعادة إدارة الرئيس الأمريكي الجديدة تقييم التزامات واشنطن، وموقفها حيال الحرب في اليمن، ومع ذلك، وبقدر ما كان انسحاب الإمارات من اليمن في عام 2019 انسحاباً شكلياً في صورته الكلية، فإن تفكيك قاعدتها في عصب هو أيضاً انسحاب تكتيكي من مشاركة استراتيجية لا حياد عنها للإمارات في منطقة القرن الإفريقي. وهذا يعني أن انسحاب أبوظبي في أغلبه الأعم ليس إلا نوعاً من المبادرة بإرسال إشارات إلى واشنطن، وليس انسحاباً حقيقياً من المنطقة.
إذ بعد عملياتها الاستكشافية في ليبيا والقرن الإفريقي واليمن، وجدت الإمارات طرقاً للتدخل والعمل في تلك الدول، دون بلوغ عتبة التورط في حرب، وتفويض القتال والعمليات التخريبية لشبكة واسعة من الوكلاء، بحسب موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وبصفتها خبيرةً متمرسةً الآن في الخداع وسياساته، اختارت الإمارات المحافظة على موطئ قدم قوي ونفوذ متشعب لها في اليمن، من خلال المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات المرتزقة وميليشيات أخرى، لضمان أن يكون لأبوظبي وسائل منفصلة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية مع إمكانية معقولة لنفي صلتها وادعاء عدم تورطها.
ومن ثم، عمدت أبوظبي إلى استخدام السعودية ببراعة كدرع للاختباء وراءه، لاسيما مع تصاعُد الانتقادات العالمية بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وجرائم الحرب التي ارتكبها "التحالف الذي تقوده السعودية".
كيف تخفي الإمارات تدخلاتها في الصراعات؟
من ينظر إلى نقل أخبار الصراع وتفاصيله على مدار السنوات الست الماضية، يتبيّن له أن الإمارات توصف على نطاق واسع بأنها مجرد شريك صغير يدعم الشريك الأساسي، السعودية، في حربها ضد الحوثيين، لكن واقع الأمر أن الشراكة الصغيرة المزعومة كفلت للإمارات القدرة على صرف أي نقد لها بخصوص معسكرات التعذيب وحالات الاختفاء القسري وجرائم الحرب، وتحويلِ وجهته، بحيث أصبح الرأي العام العالمي منشغلاً بالدرجة الأولى بمسؤولية السعودية عن هذا الصراع، بحسب تقرير الموقع الأمريكي.
في غضون ذلك، تمكّنت الإمارات من تأمين أهدافها في اليمن في كثير من الأحيان على حساب الرياض. وكانت استراتيجية أبوظبي في المنطقة بمثابة "لعبة محصلتها صفر" مع السعودية، فأي هدف تؤمّنه الإمارات لنفسها يعني هدفاً خسرته السعودية في الوقت نفسه. وفي عام 2019، كانت هناك احتجاجات من الطرف السعودي على تخلي الإمارات الواضح عن السعودية في اليمن، لكن وبعد مرور عامين تقريباً، بدا واضحاً الآن أكثر من أي وقت مضى أن تحول الإمارات عن كونها طرفاً مباشراً في الحرب إلى خيار الحرب بالوكالة قد كلّف السعودية تكلفة باهظة.
لم تعد تكاليف التدخل على مستوى التكلفة البشرية والشين اللاحق به متناسبةً مع الفوائد التي تعود بها الحملة على الإمارات، فواقع الأمر أن أبوظبي حققت منذ فترة طويلة أهدافها الأساسية من التدخل في اليمن؛ تأمين الوصول إلى الممرات البحرية حول مضيق باب المندب. والحوثيون الذين كانوا في ذلك الوقت في شمال اليمن على طول الحدود مع السعودية لم يكن لهم حيثية تعوّق استراتيجية المركنتيلية الجديدة (neo-mercantilist) [النزعة التجارية المعنية بمراكمة الثروات بمختلف الوسائل من الخارج وانتهاج السياسات الحمائية في الداخل] الكبرى التي تنتهجها الإمارات، كما لم يشكّلوا أي خطر جدِّي على الأمن القومي الإماراتي.
وكلاء الإمارات في اليمن
وتماماً مثل البريطانيين حتى عام 1967، فإن الإمارات لم تكن مهتمة بالمناطق الداخلية النائية التي يتعذر الوصول إليها، وما يعنيها هو الساحل اليمني المهم استراتيجياً. وهكذا بات تأمين موطئ قدم في عدن، وحيازة السيطرة على المياه الساحلية لليمن في الجنوب، مكاسب متحققة للإمارات عزمت على تفويضها إلى شبكة من الوكلاء أصبح المجلس الانتقالي الجنوبي أهمها.
وهكذا بدا أن الإمارات، التي اتجهت إلى تدريب وتجهيز وتمويل شبكة واسعة النطاق من 90 ألف مقاتل في جنوب اليمن، قد تعلمت من دروسها في ليبيا أن الحرب بالوكالة قد توفر عمقاً استراتيجياً لها خارج الحدود، بتكاليف محدودة أو منعدمة، سواء على المستوى البشري أو السياسي، أو حتى فيما يتعلق بالسمعة والانتقادات. ويتجلى ذلك إذا نظرنا إلى السعودية التي لا تزال تتحمل وطأة الانتقادات الدولية بشأن الكارثة الإنسانية التي سبَّبتها في اليمن، فقد نجحت الإمارات في إلقاء تكاليف السمعة المشينة لتلك الحرب على الرياض.
ومع ذلك، فإن الإمارات، بتفويض المشاركة المباشرة إلى شبكة وكلائها في اليمن، لا يمكن القول إنها انسحبت من الصراع. فقد كان إخراج قواتها من البر الرئيسي لليمن ليس إلا انسحاباً تكتيكياً في أحسن الأحوال، وإشارة إلى المجتمع الدولي بأنها لا تريد أن يرتبط اسمها بعد الآن بالفظائع التي ارتكبتها بالفعل، والتي لا تزال شبكة وكلائها مستمرة في ارتكابها.
كان للمجلس الانتقالي الجنوبي، على وجه الخصوص، دورٌ فعال في عمليات "مكافحة الإرهاب" الإماراتية، فقد اعتمدت أبوظبي على 27 مقراً تابعة له لاحتجاز خصومها السياسيين من إسلاميين وغيرهم، حيث ارتكبت بحقهم جميع صنوف التعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء والحقوق. وفي الوقت نفسه، استخدمت أبوظبي مرتزقتها الإسرائيليين والأمريكيين لمطاردة وقتل خصومها السياسيين في اليمن، واستعانت الإمارات فعلياً بوكلاء عنها في ارتكاب جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان لأعدائها في اليمن.
وبذلك، تمكنت أبوظبي من التخلص من أي معارضة لمشروعها الاستغلالي في الأجزاء المهمة استراتيجياً من جنوب اليمن. وعيّنت المجلس الانتقالي الجنوبي وغيره من الوكلاء حكاماً مندوبين عنها في مناطق سيطرتهم، وهي إن كانت مسؤولة عن تمويلهم ودعمهم، فقد سمحت لهم بممارسة الحكم في تلك المناطق باستقلالية كبيرة، لدرجة أن المجلس الانتقالي أخذ في التحول إلى شبكة غير مركزية من الوكلاء الخارجين عن السيطرة، تعمل بنشاط على تقويض الأهداف السعودية في البلاد.
وعمل هؤلاء الوكلاء، بتقويضهم جهود الحكومة المركزية في مواجهة العدوان المستمر من الحوثيين، على إفساد العديد من الاتفاقيات التي أشرفت الرياض على توقيعها بين المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي المدعومة من السعودية. ومن ثم، لم يعد الأمر مجرد تخلٍّ من الإمارات عن السعودية، بل زادت عليه صناعة وحش بات يتحدى بفاعلية أهداف المملكة في اليمن.
وفي الوقت نفسه، بذلت أبوظبي جهوداً كبيرة في تزويد المجلس الانتقالي الجنوبي بشرعية الفاعل شبه الحكومي القائم بذاته. وروّجت لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، في أوساط المجتمع الدبلوماسي الدولي، كما لو أنه رئيس اليمن. وفي محاولة لرفع المكانة الدولية للمجلس الانتقالي الجنوبي، استخدمت الإمارات علاقاتها الدبلوماسية لتعريف الزبيدي بممثلي الأمم المتحدة وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وحتى إسرائيل. وبلغ الأمر حدَّ الزعم بأن المجلس الانتقالي الجنوبي قد وافق على إنشاء كيان استخباراتي إسرائيلي في جزيرة سقطرى بعد اتفاقات أبراهام.
الخلاصة من كل ذلك، أن النفوذ الكبير لدولة الإمارات في الصراع اليمني لن يستمر فحسب، بل سينمو، وإن كان على نحو غير مباشر؛ إذ تستطيع الإمارات عن طريقها وكلائها من القوات العسكرية وغيرها أن تُبقي على سيطرتها على النقاط المهمة فيما يتعلق بالمجال البحري.
كما أن الاستقلالية الكبيرة التي أتاحتها الإمارات لوكلائها في جميع المسائل الأخرى تعني أن الإمارات قد أطلقت بفاعلية قوةً سياسية وعسكرية ذات نفوذ واسع النطاق في الصراع المحتدم الذي قسّم البلاد بالفعل. وفي أعقاب سياسة "فرّق تسد"، استغلّ وكلاء الإمارات السرديات الانفصالية الجنوبية لتقويض وحدة اليمن. ومع استسلام حكومة هادي المتزايد لضغوط الحوثيين في الشمال، ووكلاء الإمارات في الجنوب، يبدو أن السعودية ستستمر في تلقي خسائر فادحة في الصراع، والأدهى أنها ستعاني ذلك، متحملةً وحدها عبء السمعة السيئة لحرب اليمن.