أكدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن معارضتها أي تحقيق للمحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية. وفي مكالمة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو- الذي لا يحظى بكثير من القبول لدى إدارة بايدن- أكدت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس "التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل"، وذلك بعد ساعات من إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية أنها ستبدأ التحقيق، مما أثار قلق مسؤولين إسرائيليين.
فما الذي تستطيع واشنطن فعله لمنع إدانة الجنائية الدولية لمسؤولين إسرائيليين متورطين في جرائم بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؟ وما الذي يثير قلق إسرائيل من المحكمة هذه المرة؟
"أمن إسرائيل أولاً".. بايدن على خطى ترامب
البيت الأبيض أكد في بيان نشر الخميس 4 مارس/آذار 2021، أن هاريس ونتنياهو أشارا إلى "معارضة حكومتيهما لمحاولات المحكمة الجنائية الدولية ممارسة الولاية القضائية على جنود إسرائيليين".
ويؤكد هذا الاتصال الذي ناقشت فيه هاريس مع نتنياهو قضايا أخرى وأكدت على التعاون الكبير بين تل أبيب وواشنطن في مختلف المجالات، أن إدارة بايدن تسير على خطى إدارة ترامب فيما يتعلق بـ"الحفاظ على أمن إسرائيل" ومنع إدانة قادتها. فقد فرضت إدارة ترامب عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بينهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا، حتى قبل إعلان المحكمة سريان ولايتها القضائية على حرب غزة، علماً أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية ولا الولايات المتحدة.
وبعد إعلان المدعية العامة تحديد موعد فتح التحقيق، كان لافتاً أن إدارة بايدن سارعت بإدانة هذا الأمر، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، الأربعاء 3 مارس/آذار 2021 إن "الولايات المتحدة ما زالت تعارض بشدة خطط المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في إساءة معاملة إسرائيل المزعومة للفلسطينيين، وتعتقد أنها تفتقر إلى الولاية القضائية على هذه المسألة"، حسب تعبيره.
الفلسطينيون: موقف واشنطن مخيب للآمال
وأصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا الأربعاء 3 مارس/آذار 2021 بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بناء على فتوى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة قبل شهر، بأن الاختصاص القضائي للمحكمة يشمل فلسطين كونها عضواً في المحكمة، رغم أنها ليست دولة مستقلة.
وقد أشارت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، التي سيحل محلها المدعي البريطاني كريم خان في 16 يونيو/حزيران، في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى أن جرائم حرب ارتكبت أو تُرتكب في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما حددت بنسودا استخدام إسرائيل للقوة الفتاكة وغير الفتاكة في مواجهة فلسطينيين يتظاهرون عند السياج الحدودي مع غزة بعد عام 2018 ضمن نقاط من المحتمل أن يركز عليها التحقيق.
من جهتهم، حث الفلسطينيون المحكمة على المضي قدماً في التحقيق. وأصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بياناً واصفاً التحقيق بأنه دفاع عن "الحقوق والحريات".
فيما عبرت السلطة الفلسطينية عن "أسفها" من موقف واشنطن من تحقيق الجنائية الدولية، وقال أحمد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إنه "في الوقت الذي كانت الإدارة الأمريكية تسعى فيه لتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة السابقة، تعيد إنتاج السياسة ذاتها".
وأضاف لوكالة الأناضول: "هذه المواقف توفر الحماية والدعم والإسناد للحكومة الإسرائيلية، وتوفر كل ما من شأنه أن يعطل أي مسار سياسي، واستئناف المفاوضات".
وتابع مجدلاني: "ما سمعناه سواء من نائبة الرئيس الأمريكي، أو من الناطق باسم الخارجية مخيب للآمال، تلك المواقف تدعونا إلى مراجعة دقيقة لتقدير الموقف من الإدارة الجديدة بشأن دورها في استعادة العملية السياسية"، على حد تعبيره.
كيف ستحمي أمريكا إسرائيل من أي إدانات محتملة من قبل "الجنائية الدولية"؟
يقول محمد عماد، مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة "سكاي لاين" الدولية لحقوق الإنسان، إن "محاولات الولايات المتحدة الأمريكية الرامية لتعطيل عمل المحكمة الجنائية الدولية والتأثير عليها، بدأ منذ انضمام فلسطين للمحكمة عبر مصادقتها على ميثاق روما. حيث صرحت واشنطن في أكثر من مناسبة بأنها تنظر بخطورة لنية المحكمة فتح تحقيق في الجرائم التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية".
ويضيف عماد لـ"عربي بوست"، أن ذلك الأمر تطور ووصل "لمحاولات الضغط من واشنطن على بعض قضاة المحكمة الجنائية الدولية وتهديدهم بحرمانهم من دخول أراضيها، وهذا ما نتوقع تنفيذه في الأيام القادمة بعد قرار المدعية العامة فتح تحقيق في الحالة الفلسطينية".
ويقول عماد الذي يعمل في المنظمة الحقوقية التي تتخذ من من العاصمة السويدية ستوكهولم مقراً لها، إنه يتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية "بتشكيل لوبي ضاغط" على المحكمة من قبل الدول الأعضاء وحتى من الدول غير الأعضاء لثنيها عن مساعيها التحقيق أو على الأقل تعطيله بشكل مؤقت.
مشيراً إلى احتمالية توجه واشنطن عبر مجلس الأمن لاستصدار قرار يوقف التحقيق، وهذا الخيار نتوقعه بشدة لا سيما أن ميثاق روما ينص على أن لمجلس الأمن الصلاحية في إرجاء التحقيق فترة زمنية قابلة للتجديد، وهذا ما نصت عليه المادة 16 من نظام روما الأساسي: "لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة 12 شهراً بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها".
ما الذي يقلق تل أبيب ومن خلفها واشنطن من تحركات "الجنائية الدولية"؟
يقول عماد لـ"عربي بوست" إنه مما لا شك فيه أن سير المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقها بحق الجرائم المشار لها في طلب الإحالة الذي تقدمت به فلسطين، يشكل هاجساً كبيراً لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، على اعتبار أن المحكمة الجنائية أعلى جهاز قضائي جنائي دولي، وقراراته ملزمة للدول. وهذا ما يفسر تصاعد الخطابات الإسرائيلية ضد المحكمة الجنائية وقضاتها والطلب المتكرر بوقف نظر المحكمة لطلب الإحالة الفلسطيني سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الولايات المتحدة الأمريكية.
مشيراً إلى أن المخاوف الإسرائيلية ستتصاعد بشكل أكبر فور بدء الفرق التابعة لمكتب المدعية العامة، استدعاء القادة والجنود الإسرائيليين للتحقيق معهم وسماع شهادات الضحايا، عندها سنشهد خطاباً هجومياً حاداً وربما تحالفات دولية ستقوم بها إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة، لوقف التحقيق الذي تقوده المحكمة الجنائية، خوفاً من تقديم قادتها العسكريين وجنودها للمحاكمة الجنائية.
في السياق نفسه تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إن المحكمة الجنائية الدولية ستنظر في الأنشطة التي وقعت منذ 13 يونيو/حزيران عام 2014. وسيقتصر نطاق التحقيق على تلك الحوادث فقط، التي وقعت على حدود ما قبل عام 1967 في القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة. وهذا يشمل مدينة القدس القديمة، والحائط الغربي، والحرم الشريف.
وسيتعامل التحقيق في جرائم إسرائيل على أن القادة الإسرائيليين مسؤولون عن تلك الأفعال، حتى وإن لم تكُن إسرائيل طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. لكن السلطة الفلسطينية- على النقيض- وقّعت على النظام عام 2015.
وفي السنوات الأخيرة حقَّقَ الفلسطينيون سلسلةً من الانتصارات القانونية، والتي بدأت بحكم المحكمة بأن الفلسطينيين لديهم سمات الدولة الكافية ليكونوا موقِّعين على ميثاق روما وأن يقدِّموا شكاوى إلى المحكمة، وبالتالي التحقيق في جرائم إسرائيل المتعددة، الأمر الذي قد يؤدِّي في النهاية إلى التحقيق مع العسكريين والساسة الإسرائيليين في تسلسلهم القيادي بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ولا تقوم المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الأشخاص غيابياً، لذا تنتظر تسليمها المطلوبين، وهو أمر قد يمثل مشكلة للمسؤولين الإسرائيليين إذا وُجِّه إليهم الاتهام في حال السفر للخارج، حيث يمكن أن يرفع محامون قضايا في بعض الدول المنضمة إلى المحكمة؛ للمطالبة بتسليمهم.