جاءت طريقة تعامل بايدن مع السعودية بعد الإعلان عن التقرير الخاص باغتيال خاشقجي ليمثل نوعاً من التشجيع لإيران على التجرؤ في سياساتها، وأنها قد تأمن من العقاب حتى لو هددت المصالح الأمريكية، حسبما ترى صحيفة Financial Times البريطانية.
وأصدرت إدارة جو بايدن، الأسبوع الماضي، تقريراً يقول إن محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية وحاكمها الفعلي، سمح لفرقة اغتيال تضم مقربين منه بالمضي قدماً في عملية لـ"خطف أو قتل" الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، لينتهي الأمر باغتيال الأخير في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018. ومع ذلك، فإن الظاهر أن واشنطن لا تفعل شيئاً يُذكر حيال الأمر، حتى الآن على الأقل.
طريقة تعامل بايدن مع السعودية
التقرير الذي صدر كان نسخة رُفعت عنها السرية وسمح بتداولها لتقرير أعدته الاستخبارات الأمريكية في عام 2018 وخلُصت فيه إلى أن ولي العهد السعودي كان مسؤولاً عن عملية الاغتيال، فيما اعتمد التقرير في جزء كبير من معلوماته على ما اكتشفه عملاء أتراك قاموا بالتنصت على القنصلية واخترقوا تسجيلات الهواتف الذكية الخاصة بفرقة الاغتيال السعودية المكونة من 15 شخصاً.
كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي شكَّك أيضاً في إعلان الأمير عن براءته من الجريمة، قد اختار ألا يفعل شيئاً. لكن بايدن تعهّد خلال حملته الانتخابية بمعاملة السعودية على أنها دولة منبوذة ومعاقبتها على الجريمة. لكن الآن، وبعد إحماء طويل للأمر، يبدو كما لو أن فريقه يقول: حسناً، [كنا نريد ذلك]، لكن الأمر معقد.
ترى الصحيفة البريطانية أنه في المقابل، لن يؤدي ذلك إلا إلى مزيد من تغذية الشكوك، التي يتداولها بالفعل أصدقاء الولايات المتحدة وخصومها، حول مصداقية الولايات المتحدة وجدارتها بالثقة، أو (بمعنى آخر استعادة الهيبة الأمريكية)، وهي السمة التي كان بايدن قد أبدى عزمه على إحيائها عند إعلانه أن أمريكا قد عادت قائدة للعالم.
كان ترامب قد فرض عقوبات على 17 سعودياً. والآن، ستعاقب إدارة بايدن 76 شخصاً بحظر تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة بموجب سياسة "حظر خاشقجي" الجديدة التي أقرّتها لردع الأنظمة التي تضطهد المعارضين والصحفيين. وتستهدف هذه العقوبات أيضاً قوة التدخل السريع، وهي فرقة اغتيال عابرة للحدود تعمل بمثابة حرس أميري خاص لولي العهد. وهكذا، فإن أحمد العسيري، نائب رئيس الاستخبارات السعودية السابق، سيُفرض عليه عقوبات كاملة، أما الأمير محمد بن سلمان فلن يتلقى أي عقوبات على الإطلاق.
وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن إن الولايات المتحدة "لا تريد قطع العلاقات مع السعودية، وإنما تريد إعادة ضبطها لتكون أكثر انسجاماً مع مصالح أمريكا وقيمها"، على حد تعبيره.
على الجانب الآخر، فإن جرائم القتل، خاصة تلك التي تنطوي على أشياء مثل الطريقة التي ذُبح بها خاشقجي، ليست أمراً يتعلق بخطاب يتعين ضبطه. ويكفي لاستيعاب ذلك استحضار التسجيل الذي يقول فيه ماهر المطرب، وهو عميد كان يعمل في حراسة الأمير الشخصية ورئيس فرقة الاغتيال، متسائلاً قبل دقيقة واحدة من دخول خاشقجي القنصلية: "هل وصلت الأضحية بعد؟".
وحاولت إدارة بايدن تخفيف مأزقها بالإعلان أن الولايات المتحدة تحتفظ بحقها في فرض عقوبات على ولي العهد في المستقبل، وهو ما قرأه بعض المحللين بأن غرضه امتصاص حدة الانتقادات الموجهة للإدارة من جانب المشرعين الديمقراطيين.
وترى صحيفة The New York Times الأمريكية أن طريقة تعامل بايدن مع السعودية بعد تقرير خاشقجي مؤشر واضح على كيفية تغلب طبيعة بايدن الحذرة في العمل السياسي، رغم خطابه القوي أثناء الحملة الانتخابية.
جعلت إدارة بايدن تقرير خاشقجي نهاية الطريق وليس بدايته.
كيف يمثل نهج بايدن نوعاً من التشجيع لإيران على التجرؤ في سياساتها؟
يبدو من المفارقات التي ستطرأ لنا الآن أن امتناع الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات لمعاقبة السعودية سيفضي إلى منح مزيد من الجرأة لإيران، الخصم اللدود للرياض على الهيمنة الإقليمية، والتي لها من الأصل أسبابها الخاصة لعدم تصديق الولايات المتحدة ولا الثقة بوعودها.
وتبعاً لذلك، ترفض طهران الآن دعوة لإجراء محادثات مع الولايات المتحدة بشأن العودة إلى التفاوض بشأن الاتفاق النووي لعام 2015 الذي انسحب منه ترامب من جانب واحد في عام 2018.
فبايدن استفاد عند بداية توليه الرئاسة من الغموض الإيجابي لكونه رئيساً جديداً، ومن خطابه الحازم خلال الحملة الانتخابية، ووعيده خلال حملة انتخابات الرئاسة بإنهاء الفوضى التي تسبب بها ترامب وحلفاؤه في الشرق الأوسط والتعامل بتحفظ متعالٍ بعد توليه السلطة، أعادت كل هذه المواقف قدراً من الهيبة الغامضة التي جعلت الأطراف الرئيسية في الشرق الأوسط تعيد ترتيب أوراقها وتحاول تجنب إغضاب الإدارة الجديدة.
ولكن يمكن القول إن تخلي هذه الإدارة عن فرض إجراءات ذات مغزى بعد تقرير خاشقجي وسياسة الطمأنة أشعر الجميع بأن أمريكا أسد بأنياب، ولكنه لا يريد دفع الثمن لاستخدام هذه الأنياب.
على غرار أوباما
وهذا كان واحداً من أبرز أخطاء إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، التي كانت قد تراجعت الثقة بها على نطاق واسع.
أولى خطوات التراجع كانت مع استسلام أوباما في مواجهته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بشأن الاستمرار في بناء المستوطنات غير القانونية في أراضي الضفة الغربية. ثم عجز أوباما عن فرض "خطِّه الأحمر" بخصوص استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية ضد المعارضين في سوريا.
ويعتقد صقور واشنطن أن تخلي أوباما عن الخط الأحمر بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا كان له تأثير كبير على موازين القوى بين روسيا وأمريكا، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Atlantic الأمريكية.
فهذا القليل من الجبن، حسب تعبيرهم، مهَّد الطريق لروسيا فلاديمير. بوتين يستولي على القرم ويغزو شرق أوكرانيا بعد ستة أشهر.
كتب مارك ثيسن، كاتب خطابات جورج دبليو بوش السابق وزميل معهد أمريكان إنتربرايز، في عام 2014: "عندما أعلن الرئيس أوباما أنه" ستكون هناك "تكاليف" لأي تدخل روسي في أوكرانيا، كان بإمكانك سماع الضحك المنبعث من الكرملين – تلاه صوت المركبات العسكرية الروسية وهي تندفع في شبه جزيرة القرم وتستولي على شبه الجزيرة.
لا بد أن فلاديمير بوتين قد فكر.
تماماً مثل "التكاليف" التي فرضها أوباما على نظام الأسد في سوريا؟"
وترى صحيفة Financial Times البريطانية أنه من المفارقات الأخرى أن رد فريق بايدن الضعيف حتى الآن على ما وصفته الإدارة بأنه جرائم سعودية لا يمكن التكفير عنها، قد يدفع دول الخليج العربية، ومنها السعودية، إلى تحالف عسكري مع إسرائيل ضد إيران. وسيكون ذلك خطوة كبيرة إلى الأمام في خطوات التطبيع الدبلوماسي المتنامي بين إسرائيل والخليج، وهو توجه جاء نتاج سياسات إدارة ترامب، إلا أن بايدن يدعمه أيضاً.
في المقابل، فإن التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بقصف المنشآت النووية الإيرانية كما تزيد من خطر جرِّ الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران، فإنها تدفع أطرافاً عدة إلى العمل على إحياء الانفراجة التي حدثت في عهد أوباما مع طهران. وهذا بالتأكيد أمر معقد.
الرجل المجنون
في مقابل سمعة أوباما كرجل عقلاني، حاول ترامب أن يبني لنفسه سمعة في السياسة الدولية كرجل مجنون، عبر الترويج أمام خصوم أمريكا بأنه على استعداد لأن يفعل أي شيء، وهو أمر قد يدفعهم للخوف منه.
لم تثمر هذه السياسة كثيراً نتيجة تذكر في كوريا الشمالية النووية، وانتهت إلى صداقة الحاكمين المجنونين ترامب وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون (أو اللذين يدعيان الجنون).
ولكن في إيران أثمرت هذه السياسة على ما يبدو.
فعندما جاء رد فعل ترامب عقلانياً أكثر من المتوقع على إسقاط إيران لطائرة أمريكية بدون طيار في عام 2019، عندما أعلن بنفسه أن الجيش الأمريكي كان مستعداً "وبجهوزية كاملة" لضرب إيران، لكنه غيَّر رأيه قبل عشر دقائق من الضربات المخطط لها، لأن الضربة كانت ستؤدي إلى مقتل 150 إيرانياً، بدا أن الإيرانيين قد استغلوا هذه العقلانية المفاجئة لتوسيع أنشطتهم ومغامراتهم في المنطقة.
ولكن عندما عاد ترامب إلى نظرية الرجل المجنون وأمر باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، التابع للحرس الثوري، كان رد الإيرانيين ضعيفاً انتظاراً لسياسة الصبر الاستراتيجي، انتظاراً لهزيمته في الانتخابات رغم وعيدهم وتهديداتهم المتكررة برد مزلزل.
رغم محاولة بايدن تقديم صورة مختلفة لشخصية نائب أوباما التي هو سجينها (دوماً نائب الرئيس هو الرجل الحكيم في الإدارة، وأوباما كان ينظر له كرئيس حكيم أو مبالغ في التأني)، ولكن طابع الحذر يغلب على بايدن مثل كل السياسيين الديمقراطيين.
ومع أن هذه الصفات تبدو جيدة في الدوائر الثقافية التي ينحدر منها الديمقراطيون، ولكن في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبدو قواعد السياسة أقرب لقيم قتال أولاد الشوارع، فإن تراجعك عن أحد خطوطك الحمراء يدفع الجميع لانتهاك كل خطوطك الحمراء وغير الحمراء.