جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية فتح التحقيق في جرائم إسرائيل في حرب غزة عام 2014، ليمثل نقطة فارقة في التاريخ القانوني للصراع العربي الإسرائيلي.
وأصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا أمس الأربعاء 3 مارس/آذار 2021 بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بناء على فتوى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة قبل شهر، بأن الاختصاص القضائي للمحكمة يشمل فلسطين كونها عضواً في المحكمة، رغم أنها ليست دولة مستقلة.
وذكرت بنسودا أن "هناك أساساً معقولاً" لأن تكون الأراضي الفلسطينية قد شهدت جرائم حرب من الأطراف التي شاركت في حرب غزة عام 2014، أي الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها حركة حماس. وأدانت إسرائيل قرار المحكمة واعتبرته "سياسياً"، فيما رحبت به حركة حماس والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
التحقيق في جرائم إسرائيل في حرب غزة عام 2014 وما بعدها
لعلَّ تاريخ 13 يونيو/حزيران 2014، الذي أدرجته رئيسة الادِّعاء بالمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، سيصبح نقطة انطلاقٍ لتحقيقها في جرائم الحرب المُحتَمَلة التي ارتكبها الإسرائيليون والفلسطينيون، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
في اليوم السابق أي 12 يونيو/حزيران 2014، مع افتتاح بطولة كأس العالم في ذلك العام، اختُطِفَ ثلاثة مراهقين إسرائيليين وقُتِلوا في الضفة الغربية وألقت إسرائيل باللائمة على حماس، التي نفت مسؤوليتها عن ذلك.
وفي 7 يوليو/تموز، أعلنت حماس مسؤوليتها عن إطلاق صواريخ للمرة الأولى في غضون 20 شهراً، رداً على سلسلة من الغارات الجوية الإسرائيلية التي أدت لمقتل عدد من أعضاء جناحها العسكري.
وسرعان ما تصاعدت التوتُّرات، إذ شنَّت إسرائيل في غضون أسابيع قليلة حربها الثالثة ضد حماس في قطاع غزة بينما أطلق المُسلَّحون الفلسطينيون صواريخ على إسرائيل.
كان ذلك أحد أكثر الصراعات دمويةً بين الجانبين منذ عقود. على الجانب الفلسطيني، قُتِلَ أكثر من 2100 شخص -بمن فيهم مدنيون- خلال 50 يوماً من القتال. وعلى الجانب الإسرائيلي، قُتِلَ 67 جندياً وخمسة مدنيين، كما اعتبرت فاشلة من وجهة نظر أغلب المعنيين في إسرائيل من الناحية العسكرية لأنه كانت هناك استهانة تجاه حركات المقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك، إذا كان هذا الصراع مختلفاً عن الحروب السابقة، فقد كان ذلك في الاعتراف الفوري من قِبَلِ بعض المسؤولين الإسرائيليين بأن هناك خطراً داهماً من إجراء تحقيقٍ من جانب المحكمة الجنائية الدولية قد يؤدِّي في النهاية إلى التحقيق مع العسكريين والساسة الإسرائيليين في تسلسلهم القيادي بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حسب ما ورد في تقرير The Guardian .
وستنظر المحكمة الجنائية الدولية في الأنشطة التي وقعت منذ 13 يونيو/حزيران عام 2014. وسيقتصر نطاق التحقيق على تلك الحوادث فقط، التي وقعت على حدود ما قبل عام 1967 في القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة. وهذا يشمل مدينة القدس القديمة، والحائط الغربي، والحرم الشريف.
وسيتعامل التحقيق في جرائم إسرائيل على أن القادة الإسرائيليين مسؤولون عن تلك الأفعال، حتى وإن لم تكُن إسرائيل طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. لكن السلطة الفلسطينية -على النقيض- وقّعت على النظام عام 2015.
ما القضايا الثلاث الرئيسية التي ستُحقّق فيها المحكمة على الأرجح؟
من المرجح أن يشمل التحقيق في جرائم إسرائيل على ثلاث قضايا:
الأولى: حرب غزة عام 2014، ويشمل ذلك مسألة الهجمات غير المتناسبة بواسطة الجيش الإسرائيلي، وهجمات الصواريخ العشوائية بواسطة الجماعات الفلسطينية المسلحة، ومن بينها حماس.
والثانية: استخدام الجيش الإسرائيلي للقوة الغاشمة ضد "مسيرات العودة الكبرى" التي قادتها حماس بطول حدود غزة، والتي انطلقت في مارس/آذار عام 2018، وانتهت في ديسمبر/كانون الأول عام 2019.
فتح قرار المحكمة الجنائية الدولية الباب أمام إمكانية رفع دعاوى جرائم حرب ضد القادة الإسرائيليين/رويترز
والثالثة: النظر في قضية ما إذا كانت الأنشطة الاستيطانية بالضفة الغربية والبناء اليهودي في القدس الشرقية منذ 2014، يمكن اعتبارهما جرائم حرب. كما من الممكن النظر في تجريف إسرائيل المباني الفلسطينية بشكلٍ عرضي، ولكنّها لن تكون قضيةً رئيسية.
دفع التحقيق في جرائم إسرائيل الذي قررت الجنائية الدولية فتحه، الجيش الإسرائيلي إلى إجراء تحقيقات سريعة، من قِبَلِ قسم الدفاع العسكري، في بعض أكثر الحوادث إثارةً للجدل في النزاع، وهي خطوةٌ قال بعض المنتقدين إنها تهدف إلى إظهار أن إسرائيل قد حقَّقَت في مزاعم رغم أنها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية.
لكن الحقيقة هي أن القضية لم تختف قط، لأسبابٍ تتعلَّق بالسياسة الدولية والفقه القانوني، فلقد كان هناك عدة تطورات أعطت الزخم إلى التحقيق في جرائم إسرائيل.
فمع احتضار عملية الشرق الأوسط، أصبح الرئيس الفلسطيني محمود عباس أحد الموقِّعين على اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية على ذلك بدعوى عدم وجود دولة فلسطينية ذات سيادة، وبالتالي تكون غير مؤهَّلة للانضمام.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة منحت فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو بعد تصويت تاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. وصوتت لصالح الطلب الفلسطيني 138، دولة فيما عارضته 9 دول، وامتنعت 41 دولة عن التصويت.
وبناء على نيلها صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة، انضمت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، لتصبح العضو الـ123 بالمحكمة التي تأسست عام 2002.
كان جزءٌ من الدافع للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو رغبة السلطة الفلسطينية في "تدويل" عملية السلام الفاشلة، التي لطالما هيمَنَت عليها واشنطن. لكن هذه الخطوة كانت بمثابة تصميمٍ على ملاحقة إسرائيل في المحكمة، وفتح التحقيق في جرائم إسرائيل ليس فقط بسبب حرب 2014، بل أيضاً لسياسة إسرائيل المستمرة في بناء المستوطنات والاحتلال.
في السنوات الأخيرة، حقَّقَ الفلسطينيون سلسلةً من الانتصارات القانونية، والتي بدأت بحكم المحكمة بأن الفلسطينيين لديهم سمات الدولة الكافية ليكونوا موقِّعين على ميثاق روما وأن يقدِّموا شكاوى إلى المحكمة، وبالتالي التحقيق في جرائم إسرائيل المتعددة.
إدارة بايدن تسير على خطى ترامب
وفي حين وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا القرار بأنه "معادٍ للسامية"، فإن ما هو واضح هو أن مكتب المدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يبدو مصمماً على فحص الجرائم المزعومة من كلا الجانبين، بما في ذلك حماس.
وبعد أن فرضت إدارة ترامب عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بينهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة، حتى قبل إعلان المحكمة سريان ولايتها القضائية على حرب غزة، فإنها سارعت في أيامها الأخيرة بالاعتراض على القرار.
علماً أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية ولا الولايات المتحدة.
وبعد إعلان المدعية العامة تحديد موعد فتح التحقيق، كان لافتاً أن إدارة بايدن سارت على نهج ترامب في حماية إسرائيل من القانون الدولي، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أمس الأربعاء 3 مارس/آذار 2021، إن الولايات المتحدة ما زالت تعارض بشدة خطط المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في إساءة معاملة إسرائيل "المزعومة" للفلسطينيين، وتعتقد أنها تفتقر إلى الولاية القضائية على هذه المسألة.
وبينما قد يستغرق التحقيق في جرائم إسرائيل، وأيُّ محاكماتٍ قد تليها سنوات من الزمن، فإن التأثير قد بدأ بالفعل من الآن.
في غضون ساعاتٍ من الإعلان عن فتح التحقيق في جرائم إسرائيل، كانت صحيفة Haaretz الإسرائيلية تتحدَّث عن خططٍ إسرائيلية لإطلاع مئاتٍ من كبار المسؤولين الأمنيين، في الماضي والحاضر، على مخاطر تعرُّضهم للملاحقة القضائية. وربما تحذِّرهم الدولة من السفر إلى الخارج بمجرد بدء التحقيق، إذ قد يعرِّضهم ذلك للاعتقال.
ووفقاً لصحيفة Haaretz، من بين أولئك الذين قد يكونون في خطر جراء التحقيق في جرائم إسرائيل، وزير الدفاع الإسرائيلي وزعيم حزب أبيض وأزرق، بيني غانتس، الذي كان رئيساً لأركان الجيش في 2014. وإذا كان هناك خطرٌ أوسع على إسرائيل، فهو إمكانية التحقيق في جرائم أخرى بما في ذلك بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
هل بات ممكناً محاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
المحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم البلدان، بل الأفراد. وقال مسؤولون إسرائيليون إنهم لا يتوقعون في الوقت الحالي أي تهديدات فورية لشخصيات سياسية أو عسكرية إسرائيلية رفيعة المستوى جراء قرار المحكمة فتح التحقيق في جرائم إسرائيل.
ولكن زعماء مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وغانتس، ووزير الدفاع السابق عام 2014 موشيه يعالون، ووزير الدفاع السابق في وقت مسيرات العودة أفيغادور ليبرمان، قد يجري استهدافهم في تلك المحاكمات، إلى جانب العديد من الجنود والقادة.
ولا تقوم المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الأشخاص غيابياً، لذا تنتظر تسليمها المطلوبين، وهو أمر قد يمثل مشكلة للمسؤولين الإسرائيليين إذا وُجِّه إليهم الاتهام في حال السفر للخارج، حيث يمكن أن يرفع محامون قضايا في بعض الدول المنضمة إلى المحكمة؛ للمطالبة بتسليمهم.
لكن عندما يتعلق الأمر بالمستوطنات، يقول بعض الخبراء إن إسرائيل قد تواجه صعوبة في الطعن في القانون الدولي الذي يحظر نقل السكان المدنيين إلى الأراضي المحتلة.
وإذا تمت إدانة إسرائيل أو حماس في نهاية المطاف بارتكاب جرائم حرب، وإذا تمت تسمية مسؤولين كبار في مثل هذا الحكم القضائي، فقد يخضعون لمذكرات توقيف دولية عند السفر إلى الخارج، حسبما ورد في تقرير لموقع The Times of Israel.
حكم تاريخي ولكن
الفلسطينيون ما زالوا يواجهون العديد من العقبات، حتى بعد قرار الجنائية الدولية التحقيق في جرائم إسرائيل، حسب ديانا بوتو، المحامية الدولية والمستشارة القانونية السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقالت بوتو: "الطريق إلى العدالة الفعلية طويل، لأن المحكمة الجنائية الدولية ستواجه بلا شك ضغوطاً سياسية لعدم المضي قدماً".
وأضافت: "إنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها محكمة دولية أن الأعمال الإسرائيلية غير قانونية، وفي السابق "لم يفعل العالم شيئاً رداً على ذلك".
ولكن كما قال ماثيو كانوك، رئيس مركز العدالة الدولية في منظمة العفو الدولية: "إن قرار التحقيق في جرائم إسرائيل إنجازٌ مهم للعدالة بعد عقودٍ من عدم المساءلة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية".
وأضاف: "يقدِّم قرار المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم إسرائيل، أول فرصة حقيقية لآلافٍ من ضحايا الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي للوصول إلى العدالة والحقيقة والتعويضات التي طال انتظارها".
وتابع: "إنها فرصةٌ تاريخية لوضع حدٍّ نهائي للإفلات من العقاب، ذلك الذي أدَّى إلى انتهاكاتٍ خطيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لأكثر من نصف قرن".