لبنان مهدد بخسارة آخر كنوزه، إذ يشهد نظام التعليم اللبناني تسرباً لافتاً لم يعد ضحيته أطفال اللاجئين السوريين بل الأطفال اللبنانيون أيضاً.
اشتهر لبنان في السابق بأنه البلد ذو النظام التعليمي الأفضل عربياً، نظام مكن اللبنانيين من تحقيق نجاحات كبيرة في المهجر وتبوؤ مناصب عليا في شركات عملاقة، ولكن اليوم لبنان هناك مؤشرات على تداعي نظام التعليم اللبناني الذي كان مصدراً لنهضة البلاد لقرنين من الزمان.
في مخيمات اللاجئين، أثر وباء كوفيد-19 بشكل رئيسي على الفتيات بسبب إغلاق برامج التعليم (بالنسبة لهن).
ولا يزال الأمر هناك مشكلة كبيرة بالنسبة لجميع الأطفال اللاجئين لمواصلة تعليمهم؛ إذ إن 63% منهم (خارج) المدرسة، حسبما تقول نوال مدللي، مؤسِّسة جمعية سوا للتنمية غير الحكومية اللبنانية، التي تعمل مع اللاجئات السوريات، لموقع الفنار المتخصص في التعليم.
أعمل لكي أستمر في المدرسة
يبدأ نواف عمله في الخامسة صباحاً. يقضي الشاب البالغ من العمر 15 عاماً ثماني ساعات في حمل صواني الفاكهة، التي يبلغ وزن كلّ منها 10 كيلوغرامات، من الحقل، حيث تُجمَع وتُنقَل إلى مستودعٍ على بعد بضع مئاتٍ من الأمتار. ثم يتوجَّه إلى المنزل مُتعباً ومُتوجِّعاً، لتغيير ملابسه قبل أن يبدأ يومه الدراسي بعد الظهر.
قال: "إنه أمرٌ مُرهِق، لكنني أبذل قصارى جهدي لأنني أحبُّ المدرسة وأريد الاستمرار فيها حقاً. حلمي أن أتخرَّج في الجامعة وأن أصبح ممرضاً، لكنني قد لا أتمكَّن من العودة إلى المدرسة العام المقبل".
باعتباره لاجئاً سورياً في لبنان الذي مزَّقَته الأزمة، يبدو أن أحلام نواف لن تتحقق، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Telegraph البريطانية.
ذهب المراهق الذكي ذو الوجه المبتسم الذي يعتليه شارب مراهق إلى غرفةٍ أخرى حين بدأت والدته توضِّح أنها قد لا تتمكَّن من إعادته إلى المدرسة في العام المقبل. ستتوقَّف الأمم المتحدة عن تمويل تعليم نواف في العام الدراسي المقبل، وتكلفة المعيشة الباهظة في لبنان تعني أن والديه لن يكونا قادرين على دفع تكاليف ذلك.
على مدار العام الماضي، دفع الانهيار الاقتصادي في لبنان أكثر من نصف السكان إلى هوة الفقر، ووقع تسعة من كلِّ عشرة من اللاجئين السوريين، البالغ عددهم 1.5 مليون لاجئ، في الفقر المدقع. ونتيجةً لذلك، يضطر عددٌ متزايد من الأطفال إلى العمل لدرء الإخلاء والجوع.
الأطفال يعملون حتى في أوقات الإغلاقات
قالت ديما وهبي، من مكتب لجنة الإنقاذ الدولية في لبنان: "استمرَّ الأطفال في الغالب في العمل طوال فترة الجائحة". وأضافت: "نشكُّ في أن السبب وراء ذلك هو أنه كان من الأسهل عليهم التنقُّل وكان خطر تعرُّضهم لغرامةٍ أقل لكسرهم قيود الإغلاق. إنه سببٌ آخر لتعرُّض الأطفال لخطرٍ متزايد من العمل طوال فترة الجائحة، ولم تكن هناك أيُّ حمايةٍ لهم على الإطلاق".
في وردية عملٍ شاقة مدتها ثماني ساعات، يكسب نواف 10 آلاف ليرة لبنانية، وهو ما يعادل دولاراً واحداً في السوق السوداء الحالية. ومع عدم انعقاد فصول المدرسة بسبب الجائحة، أمضى شقيق نواف الأصغر (13 عاماً) موسمه الدراسي الأول في العمل في الحقول هذا العام لتوفير الطعام لأسرته.
أصبح الغذاء في لبنان مُكلِّفاً بشكلٍ متزايد جراء انهيار العملة، إذ يبلغ التضخُّم في قطاع الغذاء أكثر من 400%. ومع ذلك، ظلَّت الأجور في الغالب كما هي.
شهد الأمن الغذائي للاجئين السوريين تدهوراً كبيراً في العام الماضي، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين. ويعاني ما يقرب من نصف أسر اللاجئين السوريين من انعدام الأمن الغذائي، بزيادةٍ قدرها 20% مقارنةً بعام 2019. ومن غير المُرجَّح أن يكون هذا العام أسهل حالاً.
الأجور تذهب إلى صاحب العمل مجدداً
في سهل البقاع، حيث يعيش نواف وأسرته، يعيش 96% من اللاجئين السوريين في فقرٍ مدقع، وفقاً للمفوضية. ويُحدَّد خط الفقر المدقع حالياً لكلِّ شخصٍ يعيش على أقل من 308728 ليرة لبنانية (30.4 دولار) شهرياً.
نواف محظوظ لأنه يعمل في نفس الأرض التي يعمل فيها والده ولا يتعرَّض للعنف والاستغلال من صاحب العمل. وكثيرون أقل حظاً منه في جميع أنحاء البلاد.
يجلب نواف وأخوه دولاراً أو اثنين من العمل إلى المنزل، وهذا المال هو ما تعتاش به الأسرة. وهذا الواقع هو نفسه الذي تعيشه أكثر من 30 أسرة في مخيَّمٍ في خربة قنفار في سهل البقاع، حسب تقرير Telegraph البريطانية.
يعمل جميع الرجال في الحقول أثناء الصيف، ويكسبون 20 ألف ليرة في اليوم، لكن أجورهم لا تذهب إلى جيوبهم، فهي تعود مباشرةً إلى صاحب الأرض لدفع إيجار خيامهم، بل إن ما يكسبونه لا يغطي الإيجار، ناهيكم عن شراء الطعام أو الملابس.
لذلك ليس لدى الآباء خيار مُتاح لإرسال أبنائهم المراهقين إلى المدارس.
"عبودية جديدة".. دوامة من القروض للبقاء على قيد الحياة
طوال فصل الشتاء، بينما لا يوجد عملٌ في الحقول، يتعيَّن على الأسر -التي يعيش أفرادها جميعاً في الخيام نفسها منذ ثماني سنوات بعد فرارهم من قريتهم في إدلب السورية- الاقتراض من مالك الأرض للبقاء على قيد الحياة.
إنهم جميعاً عالقون في حلقةٍ مُفرَغة من عبودية الدين، ومع ذلك لا يوجد ما يكفي من الطعام ولا ما يكفي للتدفئة، وفقا لصحيفة Telegraph.
توصَّلَ استطلاعٌ حديث للمفوضية إلى أن 92% من أسر اللاجئين السوريين مُثقَلة بالديون، إذ أفاد 93% منهم بأن السبب الرئيسي وراء اقتراضهم المال هو حاجتهم لشراء الطعام.
ظاهرة التسرب من نظام التعليم اللبناني لا تقتصر على أطفال اللاجئين
في السنوات الأخيرة، كان معظم الأطفال العاملين في لبنان من السوريين، ولكن الآن تضطر أعدادٌ متزايدة من الأسر اللبنانية إلى إرسال أبنائهم القُصَّر للعمل من أجل تغطية النفقات الأساسية مثل الإيجار والطعام.
كانت أحدث البيانات الرسمية حول عمالة الأطفال في لبنان، باستثناء تلك الواردة في وكالة اللاجئين، في عام 2016، قبل أربع سنواتٍ من أكبر أزمة اقتصادية في لبنان. وأظهرت البيانات أنه بين عامي 2009 و2016 تضاعَفَت عمالة الأطفال في البلاد -من جميع الجنسيات- ثلاث مرات، حيث يعمل حوالي 100 ألف طفل. وقالت اليونيسيف إن مسح البيانات من منزلٍ لآخر أُجِّلَ بسبب تفشي الجائحة.
من المعلوم أن هذه الأرقام لم تعد دقيقة، إذ زادت بالتأكيد عمالة الأطفال بسبب أزمات لبنان المتعددة، من الاقتصاد إلى عدم الاستقرار إلى جائحة كوفيد-19 إلى انفجار بيروت. كلُّ هذه الأشياء جعلت عام 2020 صعباً للغاية. قالت راكيل فيرنانديز، من منظمة اليونيسيف: "لقد كانت سنةً تدهورت فيها أوضاع الفئات الأضعف من الناس".
ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تضاعَفَ عدد الأطفال العاملين من اللاجئين السوريين في عام 2020 ليصل إلى 4.4%.
وقالت فيرنانديز: "يمكننا القول إن عدد الأطفال اللبنانيين الذين يعملون بالفعل آخذٌ في الازدياد. ويمكننا أن نقول أيضاً إنه، لسوء الحظ، من المُتوقَّع أن تستمر الزيادة في هذه الأزمة التي طال أمدها… خاصةً عندما تبدأ قيود الإغلاق في التراخي".
لا يمكن الاعتماد على الإنترنت
ووفقاً لمسؤولي حماية الطفل في المجلس الدنماركي للاجئين، فإن أكثر من 80% من الأطفال اللبنانيين والسوريين الذين يعملون لا يحضرون أيَّ شكلٍ من أشكال التعليم، وذلك أساساً لأنهم يعملون. وبالنسبة لأولئك الذين يحاولون المشاركة في التعليم عبر الإنترنت، فإن من المعروف أن الإنترنت في لبنان بطيء وباهظ التكلفة، الأمر الذي يعوِّق مسارهم التعليمي أيضاً.
وقال خالد السعيد من مخيم قنفار: "أطفالي يحاولون، لكن الأمر يستغرق ثلاث ساعات لتحميل أحد الفيديوهات، وإذا انقطع التيار الكهربائي يجب أن يبدأ من جديد".
بالنسبة إلى وردة، البالغة 12 عاماً، والتي تتسوَّل في شوارع بيروت، كانت فكرة الذهاب إلى المدرسة دائماً حلماً بعيد المنال. وعلى حدِّ ما تتذكَّره، كان أشقاؤها الأربعة وأمها يتفرَّقون في الصباح لمحاولة جمع ما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة. وفي الغالب، يتسوَّل الأطفال في الشوارع بينما تتجوَّل والدتهم للبحث في صناديق القمامة عن ملابس للأسرة.
منذ انهيار قيمة الليرة اللبنانية وتضخُّم أسعار المواد الغذائية العام الماضي، لم تعد الأسرة قادرة على تحمُّل تكاليف الإيجار والطعام، واضطرت إلى اللجوء إلى القروض غير الرسمية والوجبات المحدودة. ومع عدم وضوح نهاية في الأفق لهذا الانهيار الاقتصادي، تزداد الحياة صعوبةً على الأسرة المُكوَّنة من خمسة أفراد.
زواج القاصرات
ولكن المشكلة الكبرى تكمُن في زواج القاصرين، المنتشر بين اللاجئين السوريين، أكثر بكثير مما يحدث مع اللبنانيين. حسبما تقول نوال مدللي مؤسِّسة جمعية سوا للتنمية غير الحكومية اللبنانية.
وقالت فيرنانديز: "كل يومٍ لدينا المزيد من الأسر التي لا تستطيع تحمُّل تكاليف حياتها، لذلك يتعرَّض الأطفال كل يوم لمخاطر آليات التكيُّف مع الظروف الصعبة، حيث عمالة الأطفال والاستغلال وزواج القاصرات… كل ذلك في ازديادٍ منذ العام الماضي".
وأضافت: "إذا لم يكن الأطفال منخرطين في المدرسة، فإن هذه الحلقة من إساءة معاملة الأطفال واستغلالهم تبدأ على الفور في التأثير عليهم بجميع الأشكال، سواء كانت في زيادة ظاهرة زواج القاصرات، أو زيادة إساءة معاملة الأطفال، أو زيادة العنف المنزلي، أو زيادة عمالة الأطفال. إنها دائرة تجرُّ بعضها".