ربما يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد نجح في إخماد حركة احتجاجات المعارض أليكسي نافالني ولو مؤقتاً، لكن جيل المراهقين والشباب أو جيل تيك توك في روسيا ربما يمثل خطراً أكبر مما يظن النظام.
والمقصود بجيل تيك توك هم المراهقون الذين وُلدوا وبوتين في الحكم فعلاً، إذ إنه يحكم روسيا منذ أكثر من عقدين من الزمان كرئيس أو رئيس للوزراء، وبالتالي فإن هذا الجيل لم يكن حيّاً فترة الانهيار التي تولى فيها بوتين المسؤولية، ويرى المراقبون أن هذا الجيل أقل تقديراً للرئيس من آبائهم وأجدادهم.
أما نافالني فبصفته صحفياً استقصائياً في العقد الرابع، فيبدو أنه يدرك طبيعة هذا الجيل جيداً ويجيد التعامل معهم من خلال اللغة التي يفهمونها، حتى وإن كان لا يشاركهم جميع القيم والأفكار التي يميلون إليها. ويبدو هذا جلياً من توظيف المعارض الروسي الأبرز لبوتين أدوات التكنولوجيا، خصوصاً تطبيقات تيك توك وإنستغرام، لحشد مستخدميها من المراهقين والشباب للانضمام إلى الاحتجاجات التي وُصفت بأنها الأضخم منذ مجيء بوتين إلى السلطة.
نافالني في مواجهة بوتين
ومنذ عودة نافالني إلى روسيا، الشهر الماضي، بعد تعافيه في ألمانيا من محاولة اغتيال بالسُّم، اتهم الرئيسَ وأجهزته الأمنية بالوقوف وراءها، وردّ موسكو باعتقاله لدى وصوله مباشرة والحكم عليه بنحو ثلاث سنوات سجن، لإدانته بتهمة مخالفة شروط الإفراج عنه- شهدت روسيا احتجاجات ضخمة شارك فيها عشرات الآلاف، في أكثر من مدينة روسية.
وردَّت السلطات الروسية بموجة اعتقالات ضخمة وإجراءات أخرى تركزت على تقييد حرية منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام، إذ أصبحت تمثل السلاح الأبرز الذي توظفه حركة نافالني الاحتجاجية للحشد والتنظيم.
وكان أبرز مظاهر ما يحدث، اجتياح جيل كامل من المراهقين نشأوا تحت حكم بوتين، لمنصات إنستغرام وتيك توك بمحتوى جريء ومُبدِع وهادف، فصنعوا فيديوهات سياسية على الشبكات الاجتماعية، ويُعرَّف بعضهم بأنهم مناصرو حقوق المرأة، ونباتيون نشطون، وراقصون، وموسيقيون، وطامحون إلى العمل في المحاماة. ويبدو أنهم يسلكون مساراً مختلفاً خاصاً بهم، من خلال مشاركة مجموعة قيم عالمية تختلف عن تلك الخاصة بآبائهم وأجدادهم، كأنهم زوارٌ من كوكب آخر، بحسب تقرير لصحيفة The Daily Beast الأمريكية.
جيل المراهقين الروس يتحدى بوتين
وبعد الحكم على نافالني بالسجن تواصلت احتجاجات أنصاره في الشوارع، وأظهرت مقاطع فيديو مُتداوَلة على الشبكات الاجتماعية مراهقين يمزقون صور بوتين في المدارس ويستبدلون بها صور نافالني.
وفي 14 فبراير/شباط، يوم عيد الحب، نظم فريق نافالني حملة أطلقوا عليها "الحب أقوى من الخوف"، مستوحاة من إشارة نافالني بشكل قلب، لزوجته في المحكمة. وكتب فريق نافالني: "ندعو جميع سكان المدن الروسية الكبرى إلى فعل شيء بسيط في 14 فبراير/شباط، الساعة الـ8 مساءً. اذهبوا للخارج وأشعِلوا أضواء كشافات الهاتف، ارفعوها وقِفوا بضع دقائق".
وهذا هو نوع التعبئة الشعبية التي ميَّزت نافالني عن غيره من قادة المعارضة، وسمحت له بالتواصل مع هذا الجيل الجديد من خلال الشبكات الاجتماعية، مثل الفيديو الذي نشره على تيك توك والذي يعرض فيه نتائج استقصاء أجراه بشأن محاولة تسميمه. ويعمل فريق نافالني على تعليم هذا الجيل الجديد أسلوباً جديداً للاحتجاج والنشاط السياسي، بدايةً من تقديم نسخ من النشرات لتعليقها في أحيائهم عبر محرك Google drive، إلى الاستمرار في نشر مقاطع فيديو استقصائية حتى في أثناء وجود نافالني بالسجن.
ويقول نيكولاي، البالغ من العمر 23 عاماً، والذي تحدّث مع The Daily Beast تحت اسم مستعار: "يقدم نافالني الأدوات، الاحتجاجات على سبيل المثال، التي تُمكِّن أعضاء المعارضة الآخرين من الانضمام إليها والاتحاد لتحقيق أهداف مشتركة. بالنسبة لي، يرمز نافالني أيضاً إلى الأشخاص الذين يجمعهم حوله، وهم الأشخاص الذين يتصدون للنظام ويساعدون الآخرين".
ولم تقتصر أنشطة نافالني في مكافحة الفساد على تثقيف هذا الجيل الجديد حول الوضع في بلادهم، لكنها علَّمتهم أيضاً كيفية محاربة الفساد في النظام الحالي، وأظهرت لهم الوسائل الناجعة. تقول كاثرين شيبيلوفا، المراهقة البالغة من العمر 17 عاماً والتي تطمح إلى أن تصير محامية: "أثق بنافالني، لأنه يقدم حُججاً وحقائق. أنا أحب روسيا، لكنني ضد حكومتنا الحالية".
ثورة جيل منصات التواصل الاجتماعي
وأظهر استطلاع للرأي أجراه Levada Center، أنَّ ربع الروس شاهدوا الفيديو الاستقصائي الذي نشره نافالني حول قصر زعم أنه ملك لبوتين، وكان أكثر من تأثر بالفيديو، الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً. وبحسب الاستطلاع، شاهده 37% من الشباب، بنسبة أعلى من أية فئة سكانية أخرى.
كما أثار أول رد فعل علني لبوتين على التحقيق الشهير الذي أجراه نافالني حول قصره في جنوب روسيا، سخرية على نطاق واسع على الشبكات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، صوَّر أحد مقاطع فيديو تيك توك بوتين وهو يتحدث من غرفة "شيشة" أرجوانية اللون، وفي منتصفها عمود معدني؛ قائلاً إنه لا توجد وثائق تثبت صلته بالقصر.
وعقب الموجة الأولى من الاحتجاجات، ركزت وكالة الرقابة على وسائل الإعلام الروسية Roskomnadzor على أكثر وكالات الشبكات الاجتماعية شهرة، حتى إنها أمرتها بإزالة المواد المتعلقة بالاحتجاج. وفي 29 يناير/كانون الثاني، استدعت Roskomnadzor ممثلي مواقع تيك توك وفيسبوك وتليغرام وفكونتاكتي، بحجة أنَّ من مسؤوليتهم إزالة المنشورات التي تشجع على المشاركة في "الأحداث غير المُصرَّح بها"، وفقاً لبيان الوكالة. وأمرت الوكالة العديد من وسائل الإعلام بحذف التقارير عن احتجاج عيد الحب.
صحيح أن هؤلاء الشباب لا يمثلون سوى جزء صغير من المعارضة الروسية ونافالني نفسه لا يشاركهم جميع قيمهم، ولا يزال غالبية الروس يحصلون على أخبارهم من وسائل الإعلام التقليدية، الأكثر ولاءً للكرملين، لكن في هذه اللحظة -بعد محاولة تسميم نافالني الأخيرة وتعافيه وعودته من ألمانيا وإصدار أحكام قضائية متسرعة ضده في موسكو- نافالني هو الشخص الذي يُوحِّد المعارضة الروسية، وضمن ذلك هذا الجيل الشاب الذي لا يعرف روسيا إلا تحت حكم بوتين.
وقد نجح نافالني في أسر خيالهم، وجاء رد الحكومة سريعاً؛ حتى إنَّ وزارة الخارجية أسست حساباً رسمياً على تيك توك في أوائل فبراير/شباط الجاري، وخصصت أول منشورين به للحديث عن نافالني. ومن وجهة نظر بعض مؤيدي نافالني، فإن أكثر ما يميزه هو توفيره مظلة للمعارضة، وتزويدهم بالأدوات، وتثقيفهم حول كيفية إيصال أصواتهم: من خلال النشاط على الشبكات الاجتماعية، والفيديوهات، والاحتجاجات بالشوارع. وهم مستمرون في الاستماع إليه وتدوين الملاحظات، حتى مع وجوده خلف القضبان.
وفي هذا السياق أشار ميخائيل خودوركوفسكي، قطب النفط الروسي الذي سُجِن هو نفسه لعقدٍ من الزمان، إلى أنَّ رد بوتين على الاستقصاء الأخير الذي أجراه نافالني حول قصر الرئيس، أظهر الانفصال بين النظام الحاكم وهذا الجيل الجديد. وحظي هذا الاستقصاء، الذي يستمر لساعتين تقريباً، بشأن قصر على الطراز الإمبراطوري في جنوب روسيا، بأكثر من 112 مليون مشاهدة في غضون شهر. ووصف بوتين الفيديو بأنه مُمل ووصفه بأنه "مُمَنتَج". من جانبه، نفى المتحدث باسم بوتين، ديمتري بيسكوف، ملكية الرئيس للقصر.
ووصف خودوركوفسكي رد بوتين على الفيديو الشهير، بأنه صادمٌ أكثر من التحقيق الاستقصائي نفسه. وقال: "من الطبيعي أن يريد جيل الشباب شيئاً مختلفاً. بإمكان الحكومة الاستماع إليهم. لكن لكي تحقق هذا، تحتاج مؤسسات يمكن في ظلها فرض قواعد، ويمارس الشباب حياتهم ضمن إطار عمل. لكن حكومتنا لا تريد وضع أطر عمل، بل تريد التحكم في كل شيء من أجل البقاء بالسلطة".