لم يأتِ الرئيس الأمريكي جو بايدن على ذكر العراق ولو مرة واحدة منذ توليه المسؤولية، ولا حتى عندما تحدث عن "عودة أمريكا" للمسرح الدولي، لكن هذا التجاهل لأبرز حروب واشنطن اللانهائية لا يمكن أن يستمر وهذه هي الأسباب.
فقد ألقى بايدن بثقل إدارته وراء هدف معلن وهو إنهاء الحرب المستمرة في اليمن منذ نحو ست سنوات، واتخذ قرارات منها وقف الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية للتحالف بقيادة السعودية، وإلغاء تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، وهو ما قابلته جماعة الحوثي بالتصعيد العسكري داخل اليمن وخارجه وتحديداً في السعودية.
وتحدث بايدن مراراً عن الاتفاق النووي الإيراني وضرورة التزام طهران أولاً بالعودة لالتزاماتها بموجب الاتفاق الموقع عام 2015 قبل رفع العقوبات الأمريكية التي فرضها سلفه دونالد ترامب عندما انسحب من الاتفاق عام 2018، ولا تزال لعبة "عض الأصابع" قائمة بين إيران والولايات المتحدة، إذ يرغب كلاهما في إحياء الاتفاق النووي ولكن من يرضخ أولاً هو لبّ الصراع الآن.
وعلى الرغم من أن العراق يمثل أحد أبرز نقاط الصراع المفتوح بين طهران وواشنطن منذ الغزو الأمريكي عام 2003، كان لافتاً عدم ذكر الرئيس الأمريكي العراق مرة واحدة حتى الآن في خطاباته بشأن السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما أثار انتقادات داخلية وخارجية وأطلق العنان لتفسيرات وتحليلات متعددة بشأن أسباب ذلك التجاهل.
تفجير انتحاري ضخم في بغداد
ورغم أن العاصمة العراقية شهدت تفجيراً انتحارياً مزدوجاً أودى بحياة 32 شخصاً وأصاب أكثر من 100 آخرين في اليوم التالي لتنصيب بايدن مباشرة (21 يناير/كانون الثاني الماضي)، إلا أن ذلك لم يكن له أي رد فعل من جانبه وكأن ما يحدث في العراق لا يؤثر في سياسته الخارجية، فيما وصف وقتها بأنه خطأ قاتل من جانب الإدارة الجديدة.
ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية يومها تحليلاً بعنوان "اختفاء العراق من أجندة بايدن خطأ ضخم"، رصد أهمية بلاد الرافدين وما يجري فيها على أي تغيير استراتيجي قد يسعى بايدن لإحداثه في السياسة الخارجية لأمريكا في الشرق الأوسط ككل، إذ إن نجاح العراق أو فشله في التحول إلى دولة ديمقراطية حقيقية خالية من الفساد والحكم الطائفي هو مسألة لن تنعكس على العراق وأهله وحسب بل على الشرق الأوسط ككل من ناحية وصورة ومصالح واشنطن حول العالم من ناحية أخرى.
ويواجه العراق الآن لحظة فارقة في تاريخه بعد أن تسبب النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والفساد المستشري في تدني مستوى المعيشة لغالبية العراقيين وانهيار الخدمات الأساسية والبنية التحتية وهو ما أدى لاندلاع احتجاجات شعبية عارمة منذ أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019 للمطالبة بالتخلص من النظام الطائفي والقضاء على الفساد بغرض تحسين مستوى المعيشة في البلد الغني بالنفط والثروات المتنوعة.
ومنذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزارة وسعيه لتفكيك ميليشيات الحشد الشعبي التي يدين أغلبها بالولاء لإيران واستعداد البلاد لإجراء انتخابات تشريعية في أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري، أصبح الصراع بين طهران وواشنطن على أراضي العراق مفتوحاً على مصراعيه، وتجلى ذلك في اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني قرب مطار بغداد بضربة صاروخية أمريكية مطلع العام الماضي، وقيام طهران بإطلاق صواريخها على قاعدتين للقوات الأمريكية في العراق، واتخاذ البرلمان العراقي قراراً بطرد القوات الأمريكية من البلاد.
ومن المهم هنا التوقف عند حقيقة أن توغل النفوذ الإيراني في العراق لم يحدث إلا كنتيجة مباشرة للغزو الأمريكي عام 2003، بحسب ما يقوله كثير من المراقبين، وبالتالي تتحمل واشنطن المسؤولية عما يحدث على الأراضي العراقية من معاناة مستمرة يدفع ثمنها الشعب العراقي حتى اليوم، إضافة إلى أن طهران تستغل نفوذها في العراق لتحقيق مكاسب استراتيجية في صراعها مع واشنطن.
استهداف قاعدة أمريكية في أربيل
ومع مرور الأيام بدا أن عدم ذكر بايدن للعراق يشير بوضوح إلى أن بلاد الرافدين لا تحتل موقعاً متقدماً على أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة. ثم وقع هجوم صاروخي في محيط مطار أربيل الدولي استهدف قاعدة أمريكية نتج عنه مقتل متعاقد مدني و9 أمريكيين آخرين بينهم متعاقدين وعسكريين ليذكّر الرئيس الأمريكي وإدارته بأنهم لا يمكن أن يتجاهلوا الموقف في العراق للأبد، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي تحدث أيضاً عن أفغانستان.
الهجوم الصاروخي تبنته ميليشيات تسمي نفسها "أولياء الدم"، وهي ميليشيات شيعية محسوبة على إيران، وأصدرت الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض بيانات عبرت عن "الغضب" وتوعدت بالرد الانتقامي في الوقت وبالطريقة التي تراها مناسبة.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي إن "رئيس الولايات المتحدة وإدارته يحتفظون بحق الرد في الوقت وبالأسلوب الذي يختارونه"، بينما تواصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن هاتفياً مع رئيس وزراء حكومة كردستان العراق مسرور بارزاني وعرض عليه مساعدة واشنطن في التحقيقات، بحسب تقارير إعلامية أمريكية.
تأجيل ملف العراق خطأ بايدن
المدافعون عن إدارة بايدن في ملف العراق يقولون إن الرئيس وإدارته لم يتجاهلوا بغداد ولا أفغانستان، إذ إن وزراء الدفاع في حلف الناتو سيتقابلون خلال اليومين القادمين وسيكون ملف العراق وأفغانستان حاضراً بقوة في الاجتماعات، إضافة إلى أن الإدارة تراجع بالفعل السياسات الأمريكية في البلدين كي تتخذ قراراً بشأن السياسات هناك خلال إدارة دونالد ترامب، وما سوف تبقي عليه منها وما قد تغيره.
لكن الأحداث الأخيرة في أفغانستان والعراق، وبالتحديد تزايد هجمات طالبان والهجوم الصاروخي في العراق، جعلا الملف يقفز لمرتبة متقدمة في أولويات الإدارة، إذ إن كلا الملفين يحتاج لقرار استراتيجي عاجل ولا يمكن تأجيله؛ ففي أفغانستان لابد أن يقرر بايدن إذا ما كان سيكمل الانسحاب من هناك ويترك البلاد تواجه خطر التدمير الكامل أم يبقى ويبدأ فصلاً جديداً من المواجهة الدامية مع طالبان؟
وإذا كان الأمر في أفغانستان بهذه الصورة المباشرة، فإنه مختلف وأكثر تعقيداً في العراق، بحسب المحللين الأمريكيين، إذ إن القوات الأمريكية هناك تواجه تهديدات متصاعدة وأصبحت في وضع أشبه بالرهينة لدى إيران.
فميليشيات الحشد الشعبي في العراق تمثل ذراع طهران الطويلة وأداتها لبسط النفوذ هناك وتعمل كورقة ضغط رئيسية على واشنطن، وما الهجوم الصاروخي في أربيل إلا تذكرة بتلك الحقيقة. والتفسير الأرجح الذي قدمه المراقبون هو أن ذلك الهجوم عبارة عن رسالة شديدة اللهجة من طهران لبايدن بضرورة رفع العقوبات الأمريكية أولاً والعودة للاتفاق النووي، لكن بغض النظر عن التفسيرات وراء أسباب الهجوم في هذا التوقيت، فإن الأمر المؤكد هو أن العراق سيظل ساحة معركة مفتوحة بين طهران وواشنطن طالما ظلت القوات الأمريكية موجودة في البلاد واستمر التوتر مع طهران واستمر نفوذها في العراق.
وهذا ما عبرت عنه رانده سليم، الباحثة الأولى في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، بقولها لموقع Vox: "سيظل العراق حاضراً طوال الوقت وسوف يفرض نفسه على الأجندة (أجندة بايدن)".
ويأمل كثير من المحللين الأمريكيين ألا يراجع فريق بايدن سياسة الإدارة في العراق ارتكازاً فقط على الموقف من إيران دون الوضع في الاعتبار مشاكل بلاد الرافدين الخاصة بفساد الحكم الطائفي، إذ إن ذلك يهدد بانتشار الفوضى وجعل البلاد عرضة للسقوط في براثن التنظيمات الإرهابية مرة أخرى وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية داعش.