يتفاقم تراجع الديمقراطية الهندية، وتفقد البلاد قوتها الناعمة وصورتها الخارجية الإيجابية باطراد، جراء سياسات رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، فهل حققت البلاد مكاسب تستحق هذا التدهور في مكانتها؟
ننظر إلى الهند دوماً على أنها أكبر ديمقراطية في العالم، وإحدى الديمقراطيات النادرة في بعض العهود في العالم الثالث، وبطلة الاستقلال السلمي، ورائدة حركة عدم الانحياز.
وبصرف النظر عن المبالغة في هذه الصورة، (هناك توجهات جديدة تعتبر الأب الروحي للهند الحديثة المهاتما غاندي رجلاً عنصرياً)، فإن الهند تخسر صورتها المسالمة الديمقراطية المتنوعة التي بُنيت عبر قرن من الزمان منذ عهد غاندي.
كما أن هذا الوضع يتناقض مع محاولة رئيس الوزراء الحالي الذي ينتمي لحزب هندوسي متطرف تعزيز مكانة الهند بواسطة إعلاء الإرث الهندوسي للبلاد، وتقديمه باعتباره نموذجاًَ إنسانياً يصلح الاقتداء به.
فلماذا غير مودي دفة البلاد وقاد سياسات أدت إلى تراجع الديمقراطية الهندية؟
اليوم العالمي لليوغا
في عام 2015، حقق رئيس الوزراء الهندي المنتخب حديثاً في ذلك الوقت ناريندرا مودي إنجازاً كبيراً: نجح في إقناع الأمم المتحدة بإعلان 21 يونيو/حزيران يوماً عالمياً لليوغا.
وسلط الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الضوء على الفوائد الجسدية والفوائد الأخرى لممارسة اليوغا، احتفالاً بهذه المناسبة عام 2016. واعتبر كثيرون دعمه نصراً جديداً للقوة الناعمة الهندية.
ولكن من حينها، أخذت قوة الهند الناعمة تتهاوى، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فكيف خسرت الهند هذه المكانة التي حققتها بعدما كانت تتصدر عناوين الصحف العالمية، باستخدامها الذكي لقوتها الناعمة قبل بضع سنوات فقط؟
كيف أدت سياسات مودي إلى تراجع الديمقراطية الهندية؟
كان للقرارات الخاطئة التي اتخذها حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي دورٌ بالتأكيد، لكن المشكلة أعمق من ذلك، فمنذ عقود تتعامل الحكومات الهندية، بغض النظر عن توجهها السياسي، بحساسية شديدة مع الانتقادات الأجنبية لخيارات سياستها الداخلية المتعلقة بمجموعة من المشكلات الداخلية، مثل تعامل الشرطة الوحشي الروتيني، وإساءة التعامل مع الأقليات. وأصبحت هذه الحساسية بدورها عنصراً من عناصر الثقافة السياسية للبلاد.
وفي كثير من الأحيان يلجأ المسؤولون الحكوميون إلى حجة السيادة لرفض الانتقادات الأجنبية للمسائل الداخلية الهندية، ويبدو أن التصور هو أن الهند قد لا تكون مثالية، لكنها تبذل قصارى جهدها للتعامل مع مجموعة من المشكلات التي لا تستطيع القوى المتقدمة مثل الولايات المتحدة فهمها حتى.
واحتل هذا الميل للأسلوب الدفاعي صدارة المشهد بعد فوز مودي بولاية ثانية، في إبريل/نيسان عام 2019. وقد تُعزى هذه العدائية المتفاقمة إلى سعي مودي وراء أجندة سياسية مشحونة أيديولوجياً تثير تساؤلات جدية حول التزام الهند بمبادئ الديمقراطية الليبرالية.
على سبيل المثال، حين أعربت ماليزيا عن مخاوفها إزاء قانون تعديل الجنسية الهندية، قلّصت الحكومة واردات زيت النخيل منها.
والعديد من القرارات المماثلة أضرت بصورة الهند الديمقراطية الليبرالية الملتزمة بحرية التعبير وحرية الصحافة وسيادة القانون وحماية حقوق الأقليات.
وفي المقابل، تخسر الهند أعظم مظاهر قوتها الناعمة، أي زعمها أنها أكبر ديمقراطية ناجحة في العالم. وللأسف تتحول هذه العملية إلى دوامة، فكلما ازدادت صورة البلاد تشوهاً تصبح أكثر دفاعية، وبالتالي تزداد مكانتها تراجعاً.
الشرطة توجه ضربة لنفسها بما فعلته مع الممثل الكوميدي المسلم؟
لنأخذ على سبيل المثال كيف وجهت الحكومة الهندية مؤخراً ضربة لنفسها حين التزمت الصمت التام بعد اتهام الشرطة في ولاية مدهيا براديش، التي يحكمها أيضاً حزب بهاراتيا جاناتا، فنان الكوميديا الارتجالية، منور فاروقي، بمزحة عن إله هندوسي لم يطلقها. وجاء اعتقاله على أساس الافتراض بأنه كان يخطط لذلك واحتُجز لمدة 35 يوماً. ولم يطلق سراحه بكفالة إلى بعد تقدم محاميه بالاستئناف أمام المحكمة الهندية العليا. وتؤكد هذه الحادثة عدائية الحكومة الشديدة لحرية التعبير.
ولم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة من نوعها. ففي فبراير/شباط، وبالاستعانة بقانون يعود إلى الحقبة الاستعمارية، اتهمت الحكومة عدداً من الصحفيين بالتحريض على الفتنة. وألقي القبض عليهم لمجرد أنهم تناولوا احتجاجات المزارعين في تقاريرهم.
وتتنامى عدوانية الحكومة تجاه نشطاء حقوق الإنسان أيضاً. ومن الحالات الأخرى التي تدل على ذلك حالة ستان سوامي، الكاهن اليسوعي البالغ من العمر 83 عاماً الذي أمضى عقوداً في العمل بين القبائل الهندية في ولاية جهارخاند. ودخل سوامي مرمى نيران الحكومة على خلفية دفاعه عن السكان القبليين في مواجهة مستثمرين جشعين يسعون لاستخراج الموارد المعدنية من أراضيهم.
ففي أوائل أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، اعتقلته وكالة التحقيقات الوطنية الهندية (NIA) بتهمة الإرهاب المرتبط بحادثة وقعت عام 2018 تنطوي على عنف طائفي وصلات مزعومة بالماويين. وهو يقبع في السجن منذ اعتقاله بانتظار المحاكمة. وأثناء ذلك، اضطر محاموه إلى تقديم التماس إلى عدة محاكم لتمكينه من الحصول على كوب بشفاط لإصابته بمرض باركنسون.
الأكاديميون يشعرون بالخطر
والحرية الأكاديمية في خطر أيضاً. فالأكاديميون الأجانب الذين يجرون أبحاثاً عن مواضيع تعتبرها الحكومة حساسة سياسياً يواجهون صعوبات للحصول على تأشيرات بحثية تمكّنهم من دخول البلاد.
وفي السنوات الأخيرة، كانت بعض الحكومات السابقة التي أقلقها الضرر الذي ألحقته هذه السياسات بصورة الهند في الأوساط الأكاديمية الأجنبية قد خففت من هذه القواعد الصارمة للحصول على التأشيرة. لكن التوجيه الذي أصدرته وزارة الداخلية الهندية، قبل ما يزيد قليلاً على أسبوع، قد يضع حداً لهذا التقدم. والآن تتطلب جميع الاجتماعات الافتراضية بين الأكاديميين الأجانب ونظرائهم الهنود الذين يتعاملون مع موضوعات تمس الأمن القومي الهندي و"مسائل داخلية" غير محددة موافقة مسبقة من الوزارة، الكيان المكلف بالحفاظ على القانون والنظام في البلاد.
المكاسب التي يريدها مودي في مقابل خسران مكانة الهند
ورغم تعرض الهند لانتقادات دولية واسعة النطاق على خياراتها السياسية، قررت الحكومة أن انهيار قوة الهند الناعمة ثمن زهيد من الضروري دفعه مقابل تنفيذ أجندتها السياسية الخاصة وتعزيز مكانة حزب بهاراتيا جاناتا.
ويبدو أن تقديراتها استندت إلى أنه بالنظر إلى حجم اقتصاد الهند، ومشاركتها المتنامية في المنتديات العالمية، وأهميتها في السياسة العالمية، فهذه الانتقادات، ستتراجع وتختفي في الوقت المناسب. وأثناء ذلك، ستكون الحكومة قد أعادت تشكيل المجتمع الهندي حول رؤيتها الأيديولوجية.
وهذا التقدير محفوف بالمخاطر. فحتى لو ظنت حكومة مودي أنه يمكنها الصمود أمام الانتقادات الدولية واسعة النطاق، فقد لا تتمكن من الصمود بالدرجة نفسها في مواجهة مواطنيها هي. إذ حاصرت نيودلهي نفسها حرفياً بالطريقة التي تعاملها بها مع احتجاجات المزارعين، الذين تراودهم مخاوف حقيقية إزاء مشاريع القوانين التي أقرها البرلمان مؤخراً. فكتل الأسمنت والأسلاك الشائكة وجحافل الشرطة المسلحة التي تمنع الوصول إلى عاصمة البلاد سببت جرحاً آخر للحكومة من فعل يدها.
كان من الممكن أن تعزز قوة الهند الناعمة، لو استفادت بذكاء من مكانتها العالمية بدرجة كبيرة.
لكن حكومة مودي باتخاذها مجموعة من الخيارات السياسية الخاطئة، أهدرت عدداً من الفرص لتعزيز وصقل جاذبية البلاد في المجتمع الدولي.
وقد شهد الاستثمار الأجنبي في الهند تراجعاً بالفعل في أعقاب الجائحة، ومجموعة من الخيارات السياسية المشكوك في حكمتها. ومع تراجع الحماس للفرص الاقتصادية في الهند، تجدر الإشارة إلى أنه لأول مرة منذ عقود، صنفت منظمة Freedom House، المعنية بمراقبة حقوق الإنسان العالمية، الهند على أنها تتمتع بـ "الحرية جزئياً". وفي ظل هذه الظروف، لن نجد أناساً كُثُراً، إن وجدوا، على مستوى العالم يستمدون إلهاماً من الهند، سواء كان روحياً أو غير ذلك، حين يأتي موعد يوم اليوغا العالمي هذا العام. وفي الأثناء، ترتفع أصوات العشرات من الهنود أنفسهم تطالب بالتغيير.