يفتح اهتمام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بالأزمة اليمنية والترحيب الحوثي بدعوته لحل الأزمة تساؤلات حول سيناريو التسوية السياسية في اليمن وشروط الحوثيين لتحقيق هذه التسوية.
ورحبت السعودية وحكومة اليمن المعترف بها دولياً بما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما يتعلق بالأزمة اليمنية، كما رحب الحوثيون بدورهم بإعلان بايدن إنهاء دعم بلاده للعمليات العسكرية في اليمن واشترطوا وقف ما وصفوه بـ"العدوان" من قبل السعودية.
ويعترف العالم بحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي كحكومة شرعية في اليمن وفعلياً هي لا تسيطر إلا على أجزاء ضئيلة على شمال اليمن الذي يحكم أغلب مناطقه الحوثيون، بما في ذلك العاصمة صنعاء، كما تواجه حكومة هادي صعوبات في حكم الجنوب الذي ينافسه عليه الانفصاليون الجنوبيون.
في المقابل تعتبر إيران هي الدولة الوحيدة التي تعترف بحكومة الحوثيين، حيث تتبادل معهم التمثيل الدبلوماسي.
وسبق محاولات لإجراء مباحثات سلام في اليمن، وترتيبات لوقف إطلاق نار، لم تكلل أغلبها بالنجاح.
سيناريو التسوية في اليمن
لا يعرف سيناريو التسوية في اليمن، وهل يعني شراكة حكومية بين الحوثيين والحكومة الشرعية والانفصاليين الجنوبيين، ولمن تكون قيادة البلاد وخاصة الرئاسة؟
ولكن يمكن تصور الشكل المحتمل للتسوية بناء على مقارنات ببلدان ذات أحوال مشابهة تخضع فيها إيران بنفوذ كبير، مثل العراق ولبنان وسوريا، حيث يتصارع حلفاء إيران مع قوى أخرى بعضها مقرب للولايات المتحدة والغرب ودول الخليج.
ولكن يظل الحوثيون حالة مختلفة بالنظر إلى أنهم أقل خضوعاً لإيران من ناحية، وأقل مرونة في العمل السياسي وميلاً لعدم القبول بالشراكات، مع الخصوم حتى لو كان لهم اليد العليا في هذه الشراكات كما ظهر في قيامهم بالانقلاب على الحكم الحالي في اليمن الذي كان محصلة ثورة على الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح عدوهم اللدود، ثم قتلهم لصالح في أول خلاف بينهما بعدما أصبح حليفهم.
وفي الوقت ذاته فإن قبول القوى المعنية بالأزمة اليمنية بسيطرة الحوثيين على رأس الهرم التنفيذي للسلطة في اليمن، يبدو صعباً.
وفي الأغلب لو ترك الأمر للحوثيين لاستبعدوا كل القوى المختلفة مثلما فعلوا في كثير من المواقف على مدار تاريخ اليمن الحديث.
ولكن الحوثيين يواجهون معضلة أن سيطرتهم شبه الكاملة على شمال اليمن، مع تحقيق هدنة أو وقف كامل لإطلاق نار، تعني مسؤوليتهم عن إطعام بلد شديد الفقر مدمر وواقع في أزمة إنسانية، وهذه أهم ورقة في يد القوى المناوئة للحوثيين في أي تسوية قادمة.
حتى الآن يبدو أن الحوثيين لا يأبهون للمأساة الإنسانية الكبيرة في اليمن، نظراً لتركيبة جماعة الحوثي العقائدية وطبيعة مقاتليها الجبليين الخشنة، بالإضافة إلى أنهم في الأغلب ينقلون الجزء الأكبر من أعباء الأزمة على ما يبدو إلى الشعب اليمني خاصة القطاعات التي لا تؤيدهم خاصة السنة، على اعتبار أن هذه القطاعات في كل الأحوال تمثل حاضنة معادية للحوثيين، ولا ضرر إضافياً من كسب مزيد من عداوتهم مقابل تخفيف ضرر الأزمة على الحوثيين وأنصارهم.
ولكن وقف الحرب في اليمن بدون تخفيف الأزمة الإنسانية مع استمرار سيطرة الحوثيين على شؤون الجزء الشمالي يمثل تحدياً لهم لأنهم حالياً يبرئون أنفسهم من الأزمة الإنسانية عبر تحميل السعودية مسؤولياتها، وهي حجة لن تصمد كثيراً لو أخرجت الرياض نفسها من اليمن.
نموذج حزب الله الأنسب للحوثيين
وبالتالي فإنه رغم الطابع الاستحواذي للحوثيين، فإن الحل الأنسب بالنسبة لهم سيكون المشاركة في السلطة مع خصومهم من أنصار الحكومة الشرعية والحراك الجنوبي، شراكة يكون للحوثيين اليد العليا فيها، تجعلهم الحكام الفعليين على غرار نموذج حزب الله في لبنان، على أن تتضمن هذه التسوية تمويلاً دولياً وبالأخص خليجياً وسعودياً لتخفيف الأزمة الإنسانية.
وعلى غرار تجربة لبنان قبل وقف المساعدات الخليجية، حيث كان حزب الله وحلفاؤه شركاء في حكومات يقودها شكلياً في الأغلب تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري أو من ينوب عنه بشكل سمح بوصول المساعدات الدولية والعربية للبنان.
ودوماً تسعى إيران وحلفاؤها لاستنساخ تجربة حزب الله في الدول العربية الأخرى، وهو ما بدا واضحاً حيث تم تأسيس الحشد الشعبي، بل وصل الأمر إلى أبرز جماعة الحشد تحمل اسم حزب الله العراق.
نعم انتهى هذا السيناريو وتُرك لبنان ليتحمل مسؤولياته بعدما نفضت السعودية يديها منه مع استمرار هجوم حزب الله على المملكة، ودوره في مساندة المشروع الإيراني، الأمر الذي أشعر الرياض بأنها في حقيقة الأمر تمول لبنان لصالح حزب الله، وهو موقف مشابه لموقف إدارة ترامب السابقة.
قد تكون تجربة لبنان سبباً كافياً للسعودية ودول الخليج، وكذلك الغرب لعدم تكرار سيناريو حزب الله في اليمن.
ولكن الحوثيين لديهم ورقة ضغط ليست لدى حزب الله في لبنان.
كان حزب الله يتخذ من لبنان وسنته وبصورة أقل مسيحييه رهينة مستغلاً المكانة المعنوية (والاقتصادية بصورة أقل) التي يحظى فيها لبنان لدى الغرب ودول الخليج.
أما الحوثيون فيتخذون من الأراضي السعودية نفسها رهينة.
فمن الناحية العسكرية هم في موقف أقوى من حلفاء السعودية، وأثبتت تجربة السنوات الست في الحرب أن الجيش السعودي بأسلحته المتقدمة، ومنها طائراته الأمريكية الصنع التي تعد من الأفضل في العالم، لم يستطِع النيل من الحوثيين في معاقلهم في جبال اليمن الوعرة.
وفي المقابل فإن الحوثيين يقصفون السعودية بالطائرات المسيرة والصواريخ، وهي حتى لو لم تسبب دماراً كبيراً، إلا أنها تمثل إحراجاً كبيراً للرياض وتؤدي إلى تشويه صورتها كقوة إقليمية.
وما دام لم يتم التوصل إلى تسوية سلمية مرضية لهم فإن الحوثيين يستطيعون استغلال أي هدنة مؤقتة لقصف السعودية، وهم لهم تاريخ في النكث بتعهداتهم سواء مع الأطراف اليمنية الداخلية أو السعودية.
كما أن الحوثيين يميلون لتوسيع مفهوم العدوان السعودي بحيث يعطيهم ذلك حجة لمهاجمة المملكة.
وهذا ما يظهر في تصريح محمد عبدالسلام، الناطق الرسمي باسم الحوثيين، الذي قال إن البرهان الحقيقي لإحلال السلام في اليمن هو وقف "العدوان ورفع الحصار"، وإن "صواريخ اليمن للدفاع عن اليمن ولن تتوقف إلا بتوقف العدوان والحصار بشكل كامل".
ووقف العدوان والحصار بشكل كامل مسألة حمالة أوجه، وقد يعني مجرد دعم السعودية لحلفائها في اليمن أو وقفها عن تمويل الجهود الإنسانية في اليمن، عدواناً من المنظور الحوثي الفضفاض.
العامل الإيراني
بالطبع تدخل عوامل متعددة أخرى في معادلة أي تسوية محتملة باليمن، منها الصراع الإيراني السعودي، والملف النووي الإيراني، إذ يمثل الحوثيون واحدة من أهم أدوات إيران في الضغط على السعوديين، كما ظهر في الهجمات التي نفذت ضد شركة أرامكو السعودية في 2019 التي أوقفت جزءاً كبيراً من إنتاج النفط السعودي (ادعى الحوثيون المسؤولية عنها، فيما يعتقد أغلب المتخصصيين أنها من تنفيذ إيران أو حلفائها في العراق).
وصول إيران والولايات المتحدة لتسوية حول الملف النووي وإحياء خطة العمل المشتركة سيكون عاملاً مشجعاً لتحقيق التسوية في اليمن، وهي تسوية سيدخل فيها الحوثيون من موقف قوي بعدما رفعت إدارة بايدن اسمها من قائمة المجموعات الإرهابية.
بل إن الحوثيين أنفسهم قد يكونون سبباً لإنقاذ حزب الله في لبنان، لأنهم بما أنهم يمثلون ورقة الضغط الإيرانية الرئيسية في مواجهة السعودية، فقد تسعى طهران لضم لبنان للتسوية المفترضة في المنطقة والتي سيكون من بين أولوياتها استئناف الدعم العربي والغربي والدولي للبنان الذي بات على شفا مجاعة في وقت يقف حزب الله على رأس النظام.
يمثل لبنان حالة معاكسة لليمن حالياً.
ففعلياً لم تكن هناك ورقة ضغط لإيران وحلفائها على السعودية في الساحة اللبنانية، باستثناء الالتزام المعنوي التاريخي للمملكة تجاه لبنان وسنته وبصورة أقل مسيحيوه، وكذلك تجاه حليفها تيار المستقبل.
ولكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تخلى عن هذا الالتزام المعنوي الذي رأى أنه لم تعد له فوائد استراتيجية، وبدلاً من أن يصبح لبنان ساحة لابتزاز إيران وحلفائها للسعودية، حوله الأمير محمد ساحة لمعاقبة أبرز حلفاء إيران حزب الله درة تاج الإمبراطورية الفارسية الجديدة المتوهمة.
كان حزب الله هو النموذج الذي تريد إيران تكراره في البلاد العربية التي تسيطر عليها (العراق، سوريا، اليمن إضافة إلى لبنان)، سواء من حيث كفاءته العسكرية، وقدرته على نسج تحالفات خارج المكون الشيعي، إضافة إلى شهرة مقاتليه بعدم ارتكاب انتهاكات (عكس الحشد الشعبي والحوثيين).
ولكن اليوم دفع حزب الله ثمن نجاحه العسكري والسياسي، إذ قرر خصوم إيران ترك لبنان بديونه وأزماته الاقتصادية ليحكمه، هو وحلفاؤه، بينما مصارفه باتت مغلقة الأبواب أمام المودعين.
والمفارقة أن الحوثيين الذين كانوا في بداية نشاطهم يروجون أنفسهم باعتبارهم تكراراً لنموذج حزب الله في اليمن أصبحوا أقوى أوراق إيران، والطرف الشيعي الوحيد الذي لديه أساليب ضغط حقيقية ضد السعودية.
تمثل ثنائية حزب الله يحكم وآل الحريري يأتون بالتمويل سيناريو مفضل لإيران في الدول العربية (لا حاجة لهذا النموذج في العراق لأنه دولة غنية وفي سوريا يقوم الروس بتمويل جزئي لنظام الأسد، إضافة للتمويل الإيراني المباشر).
وهذا النموذج يقوم دوماً على إضعاف مؤسسات الدول العربية بما فيها الجيش، وهذا ما فعله الإيرانيون في العراق، عبر تشكيل الحشد الشعبي.
قبلت السعودية يوماً هذه الثنائية عبر اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، بعد أن ضمن لها الاتفاق تقاسماً للنفوذ في لبنان، نفوذ حظي فيه حلفاء السعودية بالهيمنة على القطاعات المالية، فيما حظيت فيها سوريا بالهيمنة على السلاح والأمن.
واليوم اليمن في وضع مشابه لأنه من الصعب تخيل أن أي تسوية محتملة يمكن أن تتضمن قبول الحوثيين تسليم سلاحهم (أُبقي السلاح في يد حزب الله وحركة أمل بعد اتفاق الطائف بدعوى أنه سلاح مقاومة والحوثيون يصفون أنفسهم بالمقاومة).
وفعلياً الجيش اليمني انتهى والقوات الموالية للشرعية بالكاد تصمد أمام الحراك الجنوبي الأضعف من الحوثيين.
ولكن الجزء الثاني من السيناريو هو إيجاد بديل لشخصية رفيق الحريري الذي كان يحظى بمكانة كبيرة لدى الأسرة المالكة السعودية، ونجح في ترويج هذا النموذج في العالم كله، وهو أمر صعب.
وكان من أسباب تدهور هذا النموذج في لبنان، اختفاء كاريزما رفيق الحريري وقدرته الفريدة على التسوية مع الخليجيين والغرب وسوريا وحزب الله والفرقاء اللبنانيين على حد سواء.
وحتى بعد تولي نجله سعد الذي عاش معظم عمره في السعودية، بدا واضحاً أن هذا النموذج غير قابل للاستمرار، خاصة مع إصرار إيران وحزب الله على توسيع نفوذهم بشكل مستفز للسعودية والولايات المتحدة، بحيث تم محو المسافة الفاصلة التي كانت موجودة بين الدولة اللبنانية وحزب الله، حسب وصف وزير الداخلية اللبناني السابق نهاد المشنوق.
ولا يمكن تخيل أن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي يحظى بكاريزما رفيق الحريري الاستثنائية وعلاقته الشخصية مع الأسرة السعودية الحاكمة.
ولكن ما لدى الحوثيين أنهم يستطيعون إثارة القلاقل للسعودية على حدودها وداخل أراضيها.
فهل تقبل السعودية بأن يكون الطريق إلى التسوية في اليمن عبر تكرار نموذج حزب الله الذي نفضت يدها منه في لبنان.