هل بات ممكناً محاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ اكتسب هذا السؤال مصداقية غير مسبوقة، بعد القرار التاريخي الذي أصدره قضاة المحكمة الجنائية الدولية الجمعة الماضي، والذي يقضي بأن المحكمة لها ولاية قضائية على جرائم حرب أو فظائع ارتكبت في الأراضي الفلسطينية.
ويفتح القرار المجال أمام تحقيق محتمل في الجرائم الإسرائيلية، ولكن من الصعب القول إنه سوف يؤدي حتماً إلى محاكمة قادة إسرائيل عن هذه الجرائم.
ولقي القرار ردود فعل سريعة من إسرائيل التي رفضته مجدداً، ومن السلطة الفلسطينية التي رحبت به.
كما اعترضت الإدارة الأمريكية على هذا القرار، علماً بأن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية ولا الولايات المتحدة. ولكن انضم الفلسطينيون إلى المحكمة في عام 2015.
جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية بعد ثلاثة أسابيع فقط من نهاية رئاسة دونالد ترامب، والتي فرضت خلالها الولايات المتحدة عقوبات على اثنين من مسؤولي المحكمة، من بينهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا التي سبق أن أصدرت قراراً في ديسمبر/كانون الثاني عام 2019 خلصت فيه إلى أن هناك "أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت أو ترتكب في الأراضي الفلسطينية، وبعد تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن الشهر الماضي، قالت وزارة الخارجية إن واشنطن "ستراجع بدقة" عقوبات عهد ترامب.
وصدر القرار بناء على طلب المدعية العامة من القضاة البت فيما إذا كان الوضع يقع ضمن اختصاص المحكمة قبل فتح تحقيق رسمي، وبالفعل صدر عنهم القرار الأخير.
وأشارت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، في عام 2019 إلى أن التحقيق الجنائي، إذا تمت الموافقة عليه، سيركز على الصراع بين إسرائيل وحماس عام 2014 (عملية الجرف الصامد)، وعلى سياسة الاستيطان الإسرائيلية وعلى الرد الإسرائيلي على الاحتجاجات على حدود غزة.
ووصفت الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المسلحة مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كجناة محتملين.
وبعد صدور القرار، قالت المدعية العامة للمحكمة إن مكتبها يدرس القرار وسيحدد ما يجب فعله بعد ذلك "مسترشدة بدقة بتفويضها المستقل والمحايد" لمحاكمة جرائم الحرب والفظائع عندما تكون الدول غير قادرة أو غير مستعدة للقيام بذلك بنفسها.
معاداة للسامية
وندد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقرار وقال في بيان عبر الفيديو: "عندما تحقق المحكمة الجنائية الدولية مع إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب وهمية، فهذه معاداة للسامية تماماً".
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس على تويتر إن "الولايات المتحدة تعترض على قرار المحكمة الجنائية الدولية اليوم فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني".
وأضاف: "ستواصل إدارة الرئيس بايدن دعم الالتزام القوي بإسرائيل وأمنها بما في ذلك الاعتراض على الإجراءات التي تسعى إلى استهدافها بشكل غير عادل"، حسب تعبيره.
هل بات ممكناً محاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
المحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم البلدان، بل الأفراد. قال مسؤولون إسرائيليون يوم الجمعة إنهم لا يتوقعون في الوقت الحالي أي تهديدات فورية لشخصيات سياسية أو عسكرية إسرائيلية رفيعة المستوى.
لكن عندما يتعلق الأمر بالمستوطنات، يقول بعض الخبراء إن إسرائيل قد تواجه صعوبة في الطعن في القانون الدولي الذي يحظر نقل السكان المدنيين إلى الأراضي المحتلة.
وإذا تمت إدانة إسرائيل أو حماس في نهاية المطاف بارتكاب جرائم حرب، وإذا تمت تسمية مسؤولين كبار في مثل هذا الحكم القضائي، فقد يخضعون لمذكرات توقيف دولية عند السفر إلى الخارج، حسبما ورد في تقرير لموقع The Times of Israel.
إسرائيل تقول إن جيشها يضمن العدالة للفلسطينيين!
وتقول إسرائيل في ردودها الرافضة لتحقيق المحكمة في جرائمها إن أحد شروط المحكمة أن يكون الجهاز القضائي المحلي غير قادر على تنفيذ مهمته، بينما ترى تل أبيب أن الذراع القضائية للجيش الإسرائيلي لديها المصداقية الكافية للقيام بذلك؟
في خان يونس بغزة قال الفلسطيني توفيق أبو جامع إن 24 من أفراد عائلته الكبيرة قُتلوا في غارة جوية إسرائيلية خلال الصراع الذي استمر سبعة أسابيع في عام 2014 من بين أكثر من 2100 قتيل فلسطيني، العديد منهم من المدنيين مقابل 67 جندياً إسرائيلياً وستة مدنيين إسرائيليين.
قال أبوجامع إنه يعتبر قرار المحكمة الجنائية الدولية "عدالة محتملة جاءت متأخرة وأفضل من عدمها.. نحن لا نثق بالمحاكم الإسرائيلية".
وخلص تحقيق في غارة خان يونس، نفذته الذراع القضائية للجيش الإسرائيلي، إلى أن الغارة كانت قانونية واستهدفت ناشطاً.
ماذا ستفعل إسرائيل في هذا المأزق؟
بقرار المحكمة الجنائية الدولية، عادت القضية الآن إلى المدعية العامة فاتو بنسودة لتقرر ما إذا كانت ستمضي قدماً في التحقيق الجنائي.
وبناءً على حكمها الصادر عام 2019 يتوقع أنها قد تمضي قدماً في المحاكمة.
ومع ذلك من المقرر أن تنتهي فترة ولايتها كمدعية عامة في يونيو/حزيران ويعتقد بعض المسؤولين الإسرائيليين أن خليفتها الذي لم يتم انتخابه بعد يمكن أن يسلك مساراً مختلفاً.
وقال مسؤولون بوزارة الخارجية إن المسؤولين الإسرائيليين سيجتمعون في الأيام المقبلة لمناقشة استراتيجية المضي قدماً، بما في ذلك احتمال الابتعاد عن المسار الحالي لرفض التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.
وتتبع إسرائيل، منذ ست سنوات، نهجاً مزدوجاً في التصدي لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية بارتكابها جرائم حرب بحق الفلسطينيين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية.
إذ ينتقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وآخرون المحكمة الجنائية الدولية معتبرين إياها العدو الذي يجب نزع شرعيته وعزله بأي ثمن.
وشجعوا رغبة إدارة ترامب في معاقبة مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وتهديدهم من الناحية المالية وعرقلة منحهم التأشيرات لدخول أمريكا.
وحتى الآن يشجع تال بيكر من وزارة الخارجية الإسرائيلية وروي شوندورف من وزارة العدل الإسرائيلية، وكلاهما يتبنيان موقفاً وسطياً ويقودان المعارك القانونية، إلى جانب آخرين، على جهود موازية لإجراء حوار مع المحكمة الجنائية الدولية.
وقالوا إن الحوار له أن يزيد من فرص إسرائيل في تحقيق النجاح وكسب الوقت وأن يقلل من أهمية هذه المزاعم وإنه من المهم لإسرائيل أن يكون موقفها الأخلاقي قوياً، حسب تعبيرهم.
وكانت صحيفة Jerusalem Post أول وسيلة إعلامية إسرائيلية تجري لقاءً مع المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة في فبراير/شباط عام 2016 خلال زيارة إلى لاهاي، وأوضحت فاتو في اللقاء أنها تقدر تعاون إسرائيل وأن الحوار كان مهماً.
زيارة سابقة
وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، سمحت إسرائيل للمحكمة الجنائية الدولية بزيارتها، وهو ما لم تسمح به لأي من لجان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، سواء تلك التي يقودها ريتشارد غولدستون أو ماري ماكغوان ديفيس أو غيرهما.
ومن حينها، أصبحت الصحيفة مطلعة على مجموعة واسعة من المباحثات، بعضها رسمي وبعضها غير رسمي، بين المسؤولين الإسرائيليين ووكلائهم والمحكمة الجنائية الدولية.
وبرر المسؤولون القانونيون الإسرائيليون ذلك بأن المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة قانونية مهنية، وهو ما قد لا يكون متحققاً في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
أما من لم يرغبوا مطلقاً في التعاون فهاجموا قرار فاتو بنسودة التي خلصت في نهاية 2019 إلى أن هناك "أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت في الأراضي الفلسطينية، وقرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الأخير بأن يكون للمحكمة ولاية قضائية في الأراضي الفلسطينية، واعتبروهما دليلاً على أن الحوار مضيعة للوقت".
وقالوا إن كل هذا الوقت والمال والكميات الهائلة من الأوراق المستخدمة في المذكرات القانونية، لم تأتِ بنتيجة، وإن الاستراتيجية الدبلوماسية الحازمة للضغط على المحكمة الجنائية الدولية هي الحل الوحيد.
وقال مسؤولون قانونيون إسرائيليون مساء أمس السبت 6 فبراير/شباط إنهم حققوا بالفعل فوزاً كبيراً بتأجيل قرار المحكمة الجنائية الدولية حتى عام 2021 في الوقت الذي حكم فيه مجلس حقوق الإنسان بالفعل ضد إسرائيل في حرب غزة 2014 عام 2015.
ويقولون إن المعارضة الإسرائيلية للمحكمة أدت إلى تحرك فاتو للحصول على دعم من قضاة المحكمة الجنائية الدولية لإجراء تحقيق جنائي في إسرائيل (أي أنها لم تحرك التحقيق تلقائياً) وهو ما يعني أنهم يؤخذون على محمل الجد.
أما معسكر الحوار فيقول الآن إنه بإمكانه الضغط لتحقيق المزيد من النتائج، مثل إخراج سلوك الجيش الإسرائيلي بالكامل من التحقيق الجنائي بالقول إن الجيش الإسرائيلي حقق في مزاعم جرائم الحرب.
فرصتها ضعيفة في قضية المستوطنات
وهذا في حد ذاته سيكون فوزاً كبيراً.
ويرون أيضاً أن القضية المرفوعة على المستوطنات يمكن رفضها أو على الأقل تضييقها.
والسؤال هل القراران الصادران ضد إسرائيل سينهيان تجربة دراسة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، أم أن إسرائيل ستعزز توجه الحوار مع المحكمة؟
نقلت وكالة رويترز عن مسؤول إسرائيلي طلب عدم ذكر اسمه "ليس الأمر كما لو أنه سيتم إصدار أوامر اعتقال صباح الغد" ، مضيفًا أن إسرائيل ستنسق الخطوات مع واشنطن بشأن قرار المحكمة.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن ديانا بوتو، المحامية الدولية والمستشارة القانونية السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية، قالت إن الفلسطينيين ما زالوا يواجهون العديد من العقبات.
وقال بوتو: "الطريق إلى العدالة الفعلية طويل، لأن المحكمة الجنائية الدولية ستواجه بلا شك ضغوطاً سياسية لعدم المضي قدماً".
وقالت إنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها محكمة دولية أن الأعمال الإسرائيلية غير قانونية، وفي السابق "لم يفعل العالم شيئاً رداً على ذلك".