أحدثت التصريحات الأخيرة لرئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، -التي وصف فيها دور رئيس الجمهورية قيس سعيد بـ"الدور الرمزي"- نقلة نوعية في الصراع الدائر بين الرجلين، لينتقل من الصراع على الصلاحيات الدستورية ومناطق النفوذ الخاصة بالرئاستين لصراع وجود، يبحث من خلاله رئيس البرلمان عن عزل الرئيس قيس سعيد سياسياً، بما أنه لا يستطيع في الوقت الراهن تغيير فصول الدستور، بالرغم من وجود أغلبية برلمانية تقف في صفه.
موقف رئيس البرلمان من ساكن قرطاج أنتج انقساماً في المواقف بين السياسيين والنواب وأنصار الرجلين، والذي احتدّ أكثر عن ذي قبل، لدرجة وصف تصريحات الغنوشي بالانقلاب العميق" على الشرعية (تدوينة محسن مرزوق)، واعتبارها "أمراً خطيراً" (تصريحات رئيس الكتلة الديمقراطية محمد عمار)، ما يؤجج الخلافات بين الرئاسات الثلاث. في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى ترى فيما قام به الغنوشي تكتيكاً سياسياً من أجل تسليط المزيد من الضغط على قيس سعيد، للقبول بالتغيير الوزاري الذي صادق عليه البرلمان ورفضه سعيّد، بسبب وجود وزراء مقترحين تحوم حولهم شبهات فساد وتضارب مصالح.
يأتي ذلك في سياق أزمة سياسية خطيرة تعيشها البلاد بسبب التنازع القائم بين الرئاسات الثلاث (رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الدولة) حول الصلاحيات الدستورية والمهام الموكلة لكل طرف منهم، والذي زاد في تعميق الأزمة هو الخلاف حول التعديل الوزاري، الذي أخرج من خلاله رئيس الحكومة هشام المشيشي، وبإيعاز من حزامه السياسي (حركة النهضة، حزب قلب تونس، ائتلاف الكرامة)، كل وزراء الرئيس قيس سعيد من الحكومة.
خلفية تصريحات الغنوشي
"نحن المُفترض في نظام برلماني، دور رئيس الدولة فيه هو دور رمزي وليس دوراً إنشائياً، وموضوع الحكم وموضوع مجلس الوزراء لا يعود إليه، ويعود إلى الحزب الحاكم وإلى رئيس الحكومة"، كان هذا التصريح لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي جاء خلال ندوة افتراضية نظمها مجموعة من الشباب والشخصيات السياسية في كندا عبر تطبيق "زووم"، السبت الماضي 30 يناير/كانون الثاني 2021، بمثابة الفتيل الذي أشعل نار الخلافات المتأججة منذ أشهر بينه وبين رئيس الجمهورية قيس سعيد.
الغنوشي لم يكتفِ بهذا التصريح في الندوة المذكورة، بل اعتبر كذلك أنّ رفض قيس سعيد لوزراء المشيشي الجُدد هو بمثابة المكيدة للإطاحة بالحكومة، وقال: "كون حكومة المشيشي بها وزراء متّهمون بالفساد والبرلمان مرّرهم لأنّ تهمة الفساد أصبحت تُهمة بلا ضوابط كلّ شخص تُريد الإطاحة به تتهمُه بالفساد، الفساد حُكم يُصدره القضاء أو البرلمان والأشخاص الذين أتُّهِموا لم يثبُت شيء ضدّهم وإنّما هي مجرّد مكائد، وإذا أطلقنا العنان لكلّ شخص ليتّهم أيّ شخص لم يعد بإمكاننا إيجاد من يتحمّل المسؤولية".
كلام رئيس البرلمان منطقي في المطلق، خصوصاً أنه لم يصدر حتى الآن حكم قضائي ضد الوزراء الذين اقترحهم المشيشي في التعديل الأخير على حكومته والمتهمين بالفساد، لكن من تابع تفاصيل سقوط حكومة إلياس الفخفاخ يعرف جيداً أن السبب وراء ذلك هو التهم التي وُجهت له من قِبل حركة النهضة وقلب تونس بشبهات تضارب مصالح، وكان على شفا تقديم لائحة سحب الثقة منه في البرلمان، لولا قيام الفخفاخ بخطوة استباقية وتقديم استقالته لرئيس الدولة.
قضية تضارب المصالح وشبهات الفساد التي أطاحت بحكومة الفخفاخ هي النقطة التي ارتكز عليها الرئيس قيس سعيد، ليوجه سهامه لـ"كعب أخيل" الحكومة الجديدة، وهم الوزراء الثلاثة المتهمون بالفساد وتضارب المصالح (الهادي خيري، يوسف فنيرة، سفيان بن تونس)، ويرفض بالتالي قبولهم في قصر قرطاج لتأدية القسم. هذه الخطوة هي التي دفعت رئيس البرلمان لاعتبار أن دور رئيس الجمهورية هو "دور رمزي"، وخلقت كل هذا الجدل واللغط حوله.
خبراء القانون الدستوري يرون أن تأدية القسم للوزراء المعينين عبر تعديل وزاري، وعلى خلاف الحكومة الجديدة التي تأتي بها الانتخابات، لا يخضعون لنفس الترتيب، وغير مجبرين على تأدية القسم أمام رئيس الجمهورية، لأن تغيير الوزراء من صلاحيات رئيس الحكومة، ويتشاور فيه مع رئيس الجمهورية عندما يتعلق الأمر فقط بوزير الخارجية ووزير الدفاع، وقد تطرق الفصل 92 من الدستور التونسي لهذه النقطة، ولم يُشر نص الفصل لا من قريب ولا من بعيد لوجوب تأدية الوزراء الذين جاؤوا في التنقيح الوزاري للقسم أمام رئيس الجمهورية.
وبالتالي، هنالك من يرى في تركيز راشد الغنوشي على هذه المسألة الشكلية محاولة منه لإحراج رئيس الجمهورية، خصوصاً أن الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي بقصر قرطاج لم يسر بشكل جيد بالنسبة له، بما أن سعيّد انتقد مضمون التعديل والجوانب الإجرائية فيه، دون أن يستطيع رئيس البرلمان الرد عليه خلال الاجتماع أو تقديم التبريرات وراء دعم كتلته النيابية لهذا التعديل.
في الحقيقة، قصّة الخلاف بين سعيّد والغنوشي لم تبدأ مع التعديل الوزاري الأخير أو حتى مع حكومة إلياس الفخفاخ، التي جاءت ضد إرادة حركة النهضة، بالرغم من حصولها على المركز الأول في الانتخابات، وإنما تعود لأشهر خلت عندما بدأ كلا الرجلين المنتخبين في ممارسة مهامه، كلّ في مؤسسته الدستورية التي ترشح من أجلها في الانتخابات. فالملاحظ ساعتها أن رئيس البرلمان كان يمارس نشاطاً دبلوماسياً مكثفاً، رأى فيه البعض خروجاً على العرف الدبلوماسي التونسي، وذلك من خلال استقبال الوزراء والسفراء والوفود الأجانب، وعقد اتفاقات، والقيام بزيارات خارجية، وهو ما أحرج قيس سعيد وخلق تململاً داخل قصر قرطاج، خصوصاً أن النشاط الدبلوماسي لقيس سعيد يعتبر محتشماً، مقارنةً بنشاط راشد الغنوشي. بالمقابل يرى الكاتب التونسي البحري العرفاوي أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لم ينزعج من ممارسة الغنوشي لـ"الدبلوماسية الشعبية" من خارج الأطر الرسمية، وأصبح "مزعجاً" للرئيس قيس سعيد، وكأنه يحجب عنه "المستقبل"، ويقلل من حضوره دولياً، ويُضعف حضوره في أعين التونسيين والأجانب.
هذا إضافة للموقف من بعض الملفات الخارجية، مثل الملف الليبي الذي أجج حرب التصريحات بين الغنوشي وسعيد، عندما كان الاقتتال بين الليبيين على أشده، بدأها رئيس البرلمان حينما هنّأ رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج باسترجاع قاعدة "الوطية" العسكرية الجوية من قوات المشير خليفة حفتر، والتي خلقت جدلاً كبيراً حولها حينئذ، لما فُهم منها من الخروج عن موقف الدبلوماسية التونسية من الصراع الليبي، والذي يقف على أرض محايدة من مختلف الأطراف المتحاربة.
هذا التصريح قابله تصريح آخر مثير من الرئيس قيس سعيد، عند زيارته لفرنسا في شهر يوينو/حزيران 2020، والذي قال فيه إن شرعية حكومة الوفاق مؤقته، وقد فهم منه ساعتها أن سعيد اقترب من الموقف الفرنسي الداعم لخليفة حفتر، وهو ما فتح عليه باباً واسعاً من الانتقادات من قبل خصومه الإسلاميين في تونس وليبيا على حد سواء، وعلى رأسهم راشد الغنوشي.
لاحقاً، تطوّرت الخلافات بين الطرفين، خصوصاً حول الصلاحيات الدستورية، وإشكالية تجاوز رئيس البرلمان لصلاحياته المنصوص عليها بالدستور، ما دفع رئيس الجمهورية ليقول مقولته الشهيرة "الدولة التونسية واحدة، ولها رئيس واحد في الداخل وفي الخارج على السواء".
محاولة انقلاب أم تكتيك سياسي
"ما قاله راشد الغنوشي عن دور رئيس الجمهورية، بغض النظر عن شخص رئيس الجمهورية، هو تعبير صادق عن فكره الانقلابي العميق"، هذا ما دوّنه محسن مرزوق رئيس حزب مشروع تونس وأحد أبرز معارضي الإسلام السياسي في تونس، في تعليقه على تصريحات الغنوشي بخصوص قيس سعيد، إلا أن المكتب التنفيذي لحركة النهضة نفى هذا الادعاء، وقال إن "ما جاء على لسان رئيس الحركة عن دور رئيس الجمهورية كان تفاعلاً مع أطروحات بعض المحاورين، في علاقة الأنظمة البرلمانية في العالم، والتي تكون فيها صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة في تشكيل الحكومة أو المصادقة على التعديل الوزاري".
لم تأتِ تصريحات رئيس حزب مشروع تونس من فراغ، فقد دافعت حركة النهضة خلال النقاشات التي سبقت المصادقة على دستور 2014 على فكرة اعتماد النظام البرلماني كنظام للحكم، قبل أن تتراجع لصالح النظام السياسي المختلط، بعد مفاوضات عسيرة مع نظرائها من العلمانيين واليساريين، ومن بينهم الرئيسان السابقان المنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي، والرئيس السابق للبرلمان مصطفى بن جعفر، والسياسي المخضرم أحمد نجيب الشابي. وهو بالنسبة لرئيس حركة النهضة بوابة لبسط نفوذ الحركة الكلي والشامل على كل مفاصل السلطة، خصوصاً أنه حزب الأغلبية في الانتخابات، وهي فرصة للتخلص من التنافس المزعج على الصلاحيات الدستورية.
متابعون للشأن السياسي يرون أن جاذبية السلطة بالنسبة للشيخ راشد الغنوشي بدأت برئاسته للبرلمان، التي أتت بفضل تحالفه مع حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي، المتهم بجرائم تهرب ضريبي وتبييض أموال بحسب الاتهامات الموجهة له، والمرتكزة على تقرير الاختبار القضائي المكون من 800 صفحة، ثم برزت بوضوح في الصراع على الصلاحيات الدستورية مع رئيس الجمهورية، وتظهر الآن بوضوح أكبر في تصريحاته الأخيرة، التي اعتبر فيها أن دور رئيس الجمهورية "دور رمزي"، والتلويح بتحويل النظام السياسي الحالي لنظام برلماني كلي، وتنفيذ السياسات الحزبية والبرامج التي تعطلت لسنوات لعدم توافقها مع برامج رئاسة الجمهورية وتوجهاتها، سواء داخل البلاد أو خارجها.
وبحسب القيادي السابق في حركة النهضة، محمد الحبيب الأسود، فإن الغنوشي يريد نظاماً برلمانياً مطلقاً، حتى يتمكن من مفاصل أجهزة الحكم التنفيذية كلها، من برلمان وحكومة وأمن وجيش، وما إن يُحكم السيطرة على كل هذه المؤسسات والأجهزة السياسية والأمنية والعسكرية "حتى يذهب إلى نظام رئاسي مطلق على طريقة الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا".
هذا الموقف للقيادي السابق في حركة النهضة الحبيب الأسود يقابله موقف آخر مغاير لقادة حاليين في الحركة، من بينهم فتحي العيادي، الذي رفض توصيف تصريحات الغنوشي بـ"الانقلاب"، مشيراً إلى أن نظام وتجربة حركة النهضة تحتاج دائماً إلى قراءة وإلى تعديل وتصويب، وبأنهم ملتزمون بصلاحيات رئيس الجمهورية. بل ذهب أكثر من ذلك بالقول إن " أولوية المرحلة لا تتمثل في النقاش حول تغيير النظام السياسي، بقدر ما تتوجه نحو تركيز المحكمة الدستورية والنظر في إمكانية تنقيح النظام الانتخابي".
تصاعد المواقف السياسية وتعمّق الخلافات العبثيّة بين رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الدولة لم تأخذ بعين الاعتبار تدهور الوضع الاقتصادي وعمق الأزمة الاجتماعية وغليان الشارع والاحتجاجات التي تجوب البلاد منذ أكثر من أسبوعين، مهددة بنسف أي شكل من أشكال الاستقرار في البلاد.
ماذا بعد؟
ومن السيناريوهات المتوقعة في الفترة القادمة إذا ما تواصل تصاعد الخلافات بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، وتمسّك قيس سعيد بموقفه الرافض لقبول أداء الوزراء الجدد للقسم أمامه: قيام رئيس الحكومة هشام المشيشي بتنصيب الوزراء الجدد دون نيل الصفة الرسمية عبر أداء القسم أمام رئيس الجمهورية، وهو ما سيُعمّق الخلافات بين رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان من جهة ورئاسة الدولة من الجهة أخرى، ويخلق أزمة دستورية كبيرة في غياب محكمة دستورية تنظر في مثل هذه المسائل، ويزعزع الاستقرار الحكومي، بما أن جزءاً من وزراء المشيشي يعملون بغطاء دستوري منقوص.
تفعيل الحزام السياسي لرئيس الحكومة للفصل 88 من الدستور، وذلك من خلال تقديم لائحة معللة لعزل رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، إلا أن هذا السيناريو صعب التحقيق، أولاً لأنه من الصعب جداً جمع أصوات ثلثي البرلمان للتصويت لصالح هذا القرار، وثانياً لغياب تنصيب المحكمة الدستورية، لأن التصويت على العزل إن حصل يبقى مرهوناً بقرار المحكمة الدستورية، التي تبتّ فيه بأغلبية الثلثين من أعضائها، وهو أمر غير متاح حالياً.