أعلنت شركة أمازون أن مؤسسها جيف بيزوس، أغنى رجل في العالم، سيتنحى عن منصب الرئيس التنفيذي للشركة خلال العام الجاري، فماذا يعني ذلك لبيزوس ولعملاق التجارة الإلكترونية؟
الإعلان عن خطوة "التنحي" جاء من خلال رسالة بريد إلكترونية أرسلها بيزوس لموظفي الشركة البالغ عددهم أكثر من 1.3 مليون شخص حول العالم، قال فيه إنه سيترك منصبه كرئيس تنفيذي لأمازون في النصف الثاني من العام الحالي، وإن أندي جاسي المدير الحالي لقطاع الويب أو الحوسبة السحابية في الشركة سيحل محل بيزوس.
بيزوس سيتولى منصباً آخر داخل أمازون -الشركة التي أسسها من مرأب منزله قبل 27 عاماً لتصبح الآن واحدة من عمالقة شركات التكنولوجيا الأضخم في العالم برأسمال يتخطى تريليون دولار- والمنصب الجديد (عضو تنفيذي في مجلس الإدارة) سيمنحه "الوقت والطاقة" للتركيز على المشاريع الأخرى التي هو "شغوف" بها، مثل صندوق اليوم الأول (خيري)، وصندوق بيزوس إيرث (البيئة)، وشركة استكشاف الفضاء (بلو أوريجين)، وصحيفة الواشنطن بوست.
ما السبب وراء قرار بيزوس؟
بمجرد الإعلان عن خبر تنحي بيزوس المرتقب، وهو الخبر الذي تصدَّر جميع وسائل الإعلام من قنوات ومحطات إذاعية وصحف ومواقع ومنصات سوشيال ميديا حول العالم، انطلقت التكهنات بشأن الدوافع الحقيقية وراء الخطوة المفاجئة التي أعلن عنها بيزوس ذو السبعة والخمسين ربيعاً.
لكن قبل التوقف عند بعض تلك التكهنات الخاصة بدوافع بيزوس، من المهم ذكر الحقائق أولاً، وعلى رأسها أن تنحي بيزوس عن منصبه كرئيس تنفيذي لأمازون ليس بدعة أو سابقة، فقد استقال بيل غيتس من منصبه كمدير تنفيذي لشركة مايكروسوفت عام 2000، وقضى العقدين الماضيين في بناء مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وهو الآن واحد من أكثر الشخصيات العامة تأثيراً في مجال الصحة العامة.
ونظرة أوسع للشركات العملاقة في مجال التكنولوجيا والشبيهة بأمازون تكشف أن أغلب مؤسسي تلك الشركات قد تنحوا عن قيادتها في وقت من الأوقات لأسباب متنوعة. ستيف جوبز مؤسس Apple ترك منصبه في الشركة كرئيس تنفيذي لتيم كوك، وإن كان السبب هو الحالة الصحية لجوبز الذي توفي بالفعل بعد أشهر من تنحيه. كما تنحى لاري بيدج عن منصبه كرئيس تنفيذي لشركة جوجل العام قبل الماضي، وإن كان قد أولى مهامه التشغيلية بالفعل قبل ذلك بخمس سنوات. والأمر نفسه أقدم عليه ريد هاستينجس الرئيس التنفيذي لشركة نتفلكس، وإن ظل في الواجهة بجانب تيد ساراندوس، بحسب تقرير لموقع Vox الإخباري الأمريكي.
إذن باستناء عملاق منصات التواصل الاجتماعي فيسبوك، تخلّى مؤسسو عمالقة التكنولوجيا ورؤساؤها التنفيذيون عن منصبهم وسيطرتهم المطلقة على تلك الشركات في وقت من الأوقات ولأسباب مختلفة، وبالتالي فإن الخطوة التي أعلن عنها بيزوس ليست سابقة من نوعها. وبالطبع فإن مارك زوكربيرغ يبلغ من العمر 36 عاماً فقط، ولا توجد أي مؤشرات على أنه قد يفعل الشيء نفسه قريباً، لكن تلك قصة أخرى ربما تكون مختلفة بشكل جذري.
وبالعودة إلى قرار بيزوس، نجد أنه في ظرف ساعات قليلة من الإعلان عن تنحيه انفجرت منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصاً تويتر، بسيل من التكهنات التي تفسر سبب الخطوة، وصل بعدها إلى ما يمكن وصفه بنظريات المؤامرة بامتياز، وأغرب تلك التفسيرات هو أن بيزوس سوف يتحول إلى نجم سينمائي في أفلام الأبطال الخارقين.
مزيد من الأضواء.. قليل من الانتقادات
لكن بعيداً عن الهزل ونظريات المؤامرة، قرار بيزوس أو بالأحرى الخطوة التي أعلن عنها يراها المحللون خطوة لا تقل ذكاء عن خطوة تأسيسه أمازون كمكتبة رقمية لبيع الكتب عام 1994، بمعنى أنه اختار توقيتاً مثالياً للابتعاد عن دائرة الضوء الحالية التي تحيط به، بعد أن أصبحت شعبيته كواحد من أكثر الشخصيات تأثيراً يشوبها الجدل والانتقادات العميقة، على أقل تقدير.
فبيزوس أصبح يحظى بمكانة عامة متزايدة بعد أن أزاح بيل غيتس من رأس قائمة الأغنياء حول العالم قبل عامين تقريباً، والآن شركة أمازون توظّف 1.3 مليون شخص على مستوى العالم، وشهدت نمواً هائلاً بالفعل، العام الماضي، حيث أدى وباء كورونا إلى زيادة التسوق عبر الإنترنت. وبلغت مبيعات الشركة 386 مليار دولار عام 2020، بزيادة قدرها 38% عن عام 2019. وتضاعفت الأرباح تقريباً، حيث ارتفعت إلى 21.3 مليار دولار.
لكن على الجانب الآخر أصبحت حياة جيف بيزوس الشخصية تخضع لرقابة صارمة من جانب وسائل الإعلام، وجاءت قضية طلاقه من زوجته ماكينزي بيزوس، ومتابعة أدق تفاصيلها، لتضع أغنى رجل في العالم -والذي أصبحت طليقته ثالث أغنى امرأة في العالم بعد الطلاق- تحت الجانب السلبي من أضواء الشهرة.
ولم يتوقف الأمر عند الطلاق فقط بالطبع، بل أصبح بيزوس رمزاً للتفاوت الرهيب في الدخل، ووصل الأمر إلى حد قيام النشطاء المطالبين بفرض ضرائب على ثروات الأغنياء ببناء مقصلة رمزية خارج قصر بيزوس هذا الصيف، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي، تناول قراءة في الدوافع المحتملة وراء قرار بيزوس التنحي عن منصبه في أمازون.
وتبلغ ثروة بيزوس الآن نحو 200 مليار دولار، ورغم تنحيه عن منصبه رئيساً تنفيذياً لأمازون، فإنه يمتلك أكبر حصة أسهم يمتلكها فرد في الشركة، فكلما تواصلت أرباح الشركة تضخمت ثروة بيزوس على أية حال، وبالتالي فإن قراره على الأرجح لن يجعل تعرض ثروته للتدقيق التي تخضع له حالياً يصبح أقل أو يتراجع.
لكن على الأرجح ستصبح الأضواء التي تسلط على أغنى رجل في العالم فيما هو قادم أقل عدوانية مما هي عليه الآن، رغم أن تلك العدوانية التي يواجهها بيزوس لا تقارن بالطبع بالعدوانية التي يتعرض لها مارك زوكربيرغ على سبيل المثال، فأمازون بشكل عام أقل عرضة لأسهم النقد من فيسبوك.
لكن قرار بيزوس الآن سيعفيه من مواجهة الأضواء السلبية عندما يواصل الكونغرس الأمريكي تحقيقاته بشأن النفوذ المتنامي لعمالقة التكنولوجيا الأربعة فيسبوك وتويتر وجوجل وأمازون. الآن سيكون آندي جاسي الرئيس التنفيذي الذي سيخلف بيزوس هو من يتعرض للأسئلة الساخنة والمحرجة من جانب أعضاء الكونغرس، بشأن تمتع أمازون بقوة وسلطة أكبر من اللازم في ظل قوانين الاحتكار.
وهذا التفسير يستدعي بالضرورة جلسة الاستماع التي أقامها الكونغرس الأمريكي أواخر يوليو/تموز من العام الماضي للرؤساء التنفيذيين لشركات أبل، وأمازون، وجوجل، وفيسبوك.
تلك الجلسة كانت عبارة عن جلسة استماع خاصة أمام لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأمريكي، وحضرها تيم كوك المدير التنفيذي لآبلوساندر بيتشاي الرئيس التنفيذي لجوجل، ومارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لفيسبوك، وبيزوس بصفته الرئيس التنفيذي لأمازون، وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق التي يخضع فيها العمالقة الأربعة لهذه المحاكمة البرلمانية.
ووقتها قال النائب الديمقراطي ديفي سيسيلين في كلمته الختامية بالجلسة إن "الدليل قد قُدِّمَ في التحقيقات، وأظهرت الشهادة كيف ترسِّخ شركات التكنولوجيا نفسها في الاقتصاد الأمريكي والحياة اليومية".
والآن مع تولي إدارة جو بايدن الديمقراطية مقاليد الأمور في البيت الأبيض، لا تبدو العلاقة مع شركات التكنولوجيا العملاقة جيدة، وقد تم بالفعل تقديم دعوى احتكار بحق فيسبوك، تطالب الشركة بالتخلي عن واتساب وإنستغرام، وبالتالي لا أحد يدري ماذا ينتظر أمازون.
بالطبع ليس المقصود هنا هو أن بيزوس أقدم على خطوة التنحي عن منصبه كرئيس تنفيذي لأمازون لتجنب المواجهة المحتملة مع الكونغرس أو دعاوى الاحتكار، بل يرى البعض أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن هذا القرار لا يعني أن سلطات بيزوس أو قوته سوف تقل، فتلك السلطة سوف تصبح أقل وضوحاً فحسب.
فبيزوس، على خلاف أقرانه من رجال الأعمال الذين بنوا ثروتهم ونفوذهم من خلال شركات التكنولوجيا العملاقة، يتمتع ببروفايل متنوع للغاية كشخصية عامة، فهو يمتلك واحدة من أكبر الصحف الأمريكية وهي واشنطن بوست، كما يمتلك شركة استكشاف الفضاء (بلو أوريجين) وصندوق اليوم الأول الخيري وصندوق بيزوس إيرث المدافع عن البيئة، وبالتالي فإن عدم كونه الرئيس التنفيذي لأمازون على الأرجح سيجعل وضعه كواحد من أشهر قادة الأعمال في أمريكا يستمر ويقوى ليصبح أكثر تأثيراً في مجالات السياسة والإعلام والأعمال الخيرية.