لم يمر سوى أسبوع أو أكثر قليلاً على تولي جو بايدن منصب الرئيس الأمريكي، لكن وعده بسرعة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرم عام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) مع إيران قد وصل بالفعل إلى طريق مسدود.
ففي حين تُبدي الولايات المتحدة وإيران رغبتهما في العودة إلى الاتفاق النووي، تصر كلتاهما أيضاً على ضرورة اتخاذ الطرف الآخر الخطوة الأولى. ورغم حدة بعض التصريحات بين الجانبين، تطغى مشكلة "من يتقدم أولاً" على المباحثات الدبلوماسية المرتبطة ببرنامج إيران النووي، لكنْ ثمة أسباب وجيهة وراء الإحجام عن المبادرة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
معضلة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني
وافقت كل من واشنطن وطهران على آلية بسيطة للعودة لخطة العمل الشاملة المشتركة: الامتثال مقابل الامتثال. أي أن يمتثل كلا الجانبين ببساطة لجميع التزامات خطة العمل الشاملة المشتركة دون شروط مسبقة.
فيتخلى الإيرانيون عن إصرارهم على تعويض واشنطن لطهران عن انتهاكها للاتفاق في الأساس، ويمتنع الجانب الأمريكي عن استخدام عقوبات دونالد ترامب "أداة ضغط" لانتزاع تنازلات من إيران قبل العودة إلى الاتفاق. وحال امتثال كليهما للاتفاق، يصبح بالإمكان البدء في التفاوض حول نقاط الخلاف في الاتفاق والتعديلات عليه.
ورغم بساطة هذه الصيغة، فهي لا تنهي معضلة من يتعين عليه اتخاذ الخطوة الأولى.
وكان بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن قد صرح، دون تقديم مبرر محدد، أن الولايات المتحدة ستمتثل بالكامل للاتفاق فور أن يفعل الإيرانيون المثل. وبمعنى آخر، تكمن المشكلة في أن تتخذ طهران الخطوة الأولى.
على أن الإيرانيين يردون بالقول إن واشنطن هي من خرقت الاتفاق وتركته، وظلت إيران ملتزمة بهذا الاتفاق طوال هذه الفترة، وهو ما أقرت به الدول الخمس الأخرى الموقعة (المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين)، وعلى ذلك، يقتضي المنطق أن تأخذ الولايات المتحدة الخطوة الأولى.
مواقف باقي الدول
المفارقة أن هناك خلافاً حول خطوة من يبدأ أولاً حتى بين الأعضاء الآخرين في الاتفاق، ففرنسا تقول يجب أن تمتثل إيران للاتفاق النووي قبل عودة الولايات المتحدة إليه، بينما تجادل روسيا بأن على واشنطن العودة للاتفاق أولاً وأن ترفع العقوبات عن طهران.
ونقل موقع Times of israel عن مسؤول في الرئاسة الفرنسية، طلب عدم الكشف عن هويته عن الإيرانيين "إذا كانوا جادين بشأن المفاوضات ويريدون الحصول على التزام جديد من جميع المشاركين في خطة العمل الشاملة المشتركة، فعليهم أولاً الامتناع عن المزيد من الاستفزازات وثانياً يجب عليهم احترام التزاماتهم التي خرقوها".
لكن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قال، بعد محادثات مع نظيره الإيراني، إنه يأمل أن "تعود الولايات المتحدة إلى الامتثال الكامل لقرار مجلس الأمن ذي الصلة، مما يهيئ الظروف لإيران للوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي".
وسبق أن دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جميع الأطراف لاحترام الاتفاق النووي الإيراني مطلع الشهر عقب قرار إيران تكثيف تخصيب اليورانيوم وتحركات الولايات المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية.
فهل تبدو المباحثات الدبلوماسية عالقة قبل حتى أن تبدأ حول سؤال من يبادئ إلى العودة للاتفاق النووي الإيراني؟ أم أنها كذلك؟.
استعراض قوة
الجدل حول من يتعين عليه المبادرة بالخطوة الأولى قد لا يكون ذا مغزى حقيقي. ففريق بايدن لم يكتمل بعد؛ وقد لا يكون في وضع يسمح له باتخاذ الخطوة الأولى. لكن تقديم "التأخير" على أنه موقف صارم في المفاوضات قد يُظهر بايدن بمظهر القوي في نظر الجمهور المحلي.
وليس مستغرباً ألا يرغب أي من الطرفين في الظهور بمظهر من يحرص بشدة على العودة إلى الاتفاق، رغم إدراك كلا الطرفين لمدى حاجتهما إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. ولذا في إطار المفاوضات العلنية، قد يكون التظاهر وممارسة لعبة "صعب المنال" مفيداً لكليهما.
إذ إن إصرار طهران الشديد علناً على أن تأخذ الولايات المتحدة الخطوة الأولى يحمل إشارة إلى الجمهور المحلي في إيران بأن حكومة روحاني ليست ساذجة. وبعد خيانة ترامب للاتفاق، فالظهور بمظهر اللين مع واشنطن أو الواثق بها لن يساعد روحاني أو وزير خارجيته جواد ظريف.
وحتى إن كان هذا السجال العلني أكثر من مجرد موقف ظاهري دون مغزى قوي، فلا يزال للتفاؤل ما يبرره. إذ أحاطت بمفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة الكثير من دراما "من يتقدم أولاً" أيضاً.
ولكن في كل مرة كان فتيل هذه الدراما يُنزع بفضل عاملين. الأول وجود إرادة سياسية كافية لدى كلا الجانبين. والثاني توفر الوقت الكافي لدى كليهما للتوصل إلى حلول إبداعية للمشكلات عند ظهورها.
أما هذه المرة فالإرادة السياسية حاضرة أيضاً. لكن الوقت محدود.
المشكلة في الزمن
فكلا البلدين لديهما الإرادة السياسية لأن العودة إلى الاتفاق في صلب مصالحهما الوطنية.
فأمّا لواشنطن، فخطة العمل الشاملة المشتركة لا تعيق طريق إيران لصنع قنبلة فحسب، بل إنها أيضاً خطوة ضرورية لتمكين الولايات المتحدة من الحد بشكل كبير من وجودها العسكري في الشرق الأوسط.
وفضلاً عن ذلك، لا يمكنها الشروع في الجهود الدبلوماسية لتهدئة النزاعات الإقليمية- من سوريا إلى اليمن- بشكل جدي حتى يعود اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة ويتوقف النزاع النووي عن أن يصبح نقطة توتر رئيسية بين الولايات المتحدة وإيران.
وأما لطهران فخطة العمل الشاملة المشتركة لن تؤدي إلى رفع العقوبات التي شلّت الاقتصاد الإيراني فحسب. بل ستوفر طريقاً لإعادة تأهيل إيران سياسياً واقتصادياً وإقليمياً وعالمياً، وستنهي حملة واشنطن المستمرة منذ 40 عاماً لاحتواء وعزل الجمهورية الإسلامية.
لذلك لا يوجد سبب وجيه للظن بأن أياً من الطرفين تنقصه الإرادة السياسية. لكن الوقت قصة مختلفة. إذ أقر خصوم روحاني من السياسيين المتشددين في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني قانوناً يلزم إيران ببدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% إذا أحجمت واشنطن عن رفع العقوبات عن إيران بحلول نهاية الشهر المقبل.
وفضلاً عن ذلك تقرر إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية في منتصف شهر يونيو/حزيران من هذا العام. وبالتالي فالموسم السياسي سيبدأ جدياً بحلول العام الفارسي الجديد (نوروز) في مارس/آذار، الذي من المرجح أن تتحول بعده المفاوضات لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة إلى مباراة سياسية تستحيل معها المفاوضات الجادة حتى يتولى رئيس جديد منصبه.
ولكن عامل الضغط الأكبر يأتي من تسارع تخصيب إيران للوقود النووي.
في إطار ردها على الضغوط المتزايدة من قبل إدارة ترامب أعلنت إيران مؤخراً أنها ستخصب اليورانيوم بأكثر من خمسة أضعاف المعدل المسموح به بموجب الاتفاق النووي. كما هددت بتقييد الوصول إلى المفتشين الدوليين إذا لم يتم تخفيف العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة ترامب.
وحذر رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 11 يناير/كانون الثاني من أنها مسألة أسابيع وليست شهوراً لإنقاذ الاتفاق النووي.
وهكذا فالوقت اللازم لإيجاد حلول إبداعية محدود، رغم حضور الإرادة السياسية.
على أن الشعور بالتفاؤل يغلب التشاؤم لسبب وحيد غاية في البساطة: وهو أن خسائر الطرفين ستكون فادحة إذا جازفا بإهدار ما قد يكون آخر فرصة لإحياء اتفاق يعزز مصالحهما وأمنهما بشكل مباشر.
الحل في يد أمريكا
يرى كل من إيلي جيرانمايه واسفنديار باتمانجليغ في مقال بموقع CNN الأمريكي أنه "يجب على بايدن التركيز على نهج من خطوتين تجاه الدبلوماسية مع إيران. أولاً يجب أن تتفق الولايات المتحدة وإيران على الخطوات التقنية المطلوبة للامتثال المتبادل للاتفاق النووي، وتهدئة التوترات الإقليمية وبناء الثقة. ستكون الخطوة الثانية بعد ذلك أن تقوم الولايات المتحدة- مع الحلفاء الأوروبيين- بالتحول نحو محادثات المتابعة التي يمكن أن تمنح إيران والغرب فوائد أكبر.
يمكن للولايات المتحدة أن تبقي إيران على طريق الدبلوماسية ليس من خلال الحفاظ على عقوبات ترامب ولكن من خلال إعادة الدخول في الصفقة واستعادة قدرتها على إعادة العقوبات إلى مكانها في المستقبل إذا انتهكت إيران التزاماتها أو أعاقت محادثات المتابعة.
من خلال توفير تخفيف العقوبات المطلوب من الولايات المتحدة بموجب الاتفاق النووي الذي وافقت عليه، يمكن لإدارة بايدن استعادة الثقة في أن أمريكا تتمسك بكلماتها بالإضافة إلى خلق تكلفة فرصة لإيران في المستقبل. حوافز اليوم هي نفوذ الغد. وإذا أعطى بايدن الدبلوماسية مع إيران فرصة حقيقية، فقد يجد أنه لن يحتاج إلى هذا النفوذ بعد كل شيء.