لوبيّات نشطة قبل ترامب وحتى بعد بايدن.. كيف أعادت السعودية عمل آلة نفوذها بواشنطن بعد أزمة خاشقجي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/29 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/29 الساعة 13:21 بتوقيت غرينتش
اللوبيات التي تعمل لصالح السعودية في واشنطن نشطة منذ أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، عربي بوست

في السنوات التي أعقبت مقتل الكاتب السعودي بصحيفة Washington Post الأمريكية، جمال خاشقجي، على يد مسؤولين سعوديين، قَطَعَ العديد من أعضاء جماعات الضغط أو "اللوبي" البارزين في واشنطن صلتهم بالرياض. كان مقتل الصحفي المعارض داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أواخر العام 2018 مُروِّعاً للغاية، ولم يعد ذوو النفوذ في واشنطن، الذين يمثِّلون في كثيرٍ من الأحيان "أنظمةً بغيضة"، يريدون أن يُلطَّخوا بعلاقتهم بالسعودية. لكن الآن، يبدو أن المملكة نجحت بإعادة هؤلاء إلى العمل معها وتلميع صورتها واشنطن مجدداً، فكيف ذلك؟

السعودية تعيد آلة نفوذها إلى واشنطن مع صعود بايدن

في غضون أكثر من عامين منذ جريمة قتل خاشقجي، تمكَّنَت الرياض من إعادة لوبياتها وآلة نفوذها إلى حدٍّ كبيرٍ إلى العمل في واشنطن وفي أجزاءٍ أخرى من البلاد، ووظَّفَت ما لا يقل عن 16 شركة ضغط للمساعدة في تعزيز العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والسعودية، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، علاوة على تنظيف صورة الرياض في قضايا مثل الحرب المُدمِّرة في اليمن ومعاملة النساء. وسيكون هذا الجهد حاسماً خلال ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قرَّرَت إدارته الأربعاء 27 يناير/كانون الثاني إيقاف مبيعات الأسلحة إلى الرياض في انتظار المراجعة، وفقاً لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية. 

وتُعَدُّ المملكة السعودية عميلاً جديداً لبعض هذه الشركات الأمريكية، وعميلاً عائداً للبعض الآخر، مثل شركة إيدلمان Edelman للعلاقات العامة والاستشارات التسويقية القوية. 

الرئيس الأمريكي جو بايدن تعهد بالتعامل بحزم مع السعودية ونبذها إذا استمرت في سياساتها الحاية/ رويترز

وساهَمَ وكلاء أجانب، وُظِّفوا للضغط نيابةً عن المصالح السعودية، بما يقرب من مليونيّ دولار في صورة تبرُّعات سياسية لمُرشَّحين فيدراليين، بمن فيهم الرئيس السابق دونالد ترامب وبايدن.

وفي الأشهر التي تلت الانتخابات الأمريكية 2020، ورد أن المملكة ركَّزَت على الشركات التي لها علاقات مع الحزب الديمقراطي، على أمل أن تساعد في التأثير على التوجُّهات السياسية في إدارة بايدن. وتعهَّدَ بايدن بأن يكون أكثر صرامةً مع السعودية من ترامب، الذي تفاخَرَ بحماية وليّ عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، من رقابة الكونغرس بعد مقتل خاشقجي. 

تبرعات سعودية للجمهوريين وحتى الديمقراطيين

في الواقع، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أسابيع فقط من الانتخابات، وقَّعَت شركة Edelman، وهي شركة تفضِّل المُرشَّحين الديمقراطيين في تبرُّعاتها السياسية، عقداً بقيمة 225 ألف دولار لتوفير خدمات الاتصالات لمدينة نيوم الضخمة التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار والمدعومة بالكامل بمصادر الطاقة المتجدِّدة. خطَّط محمد بن سلمان لتشييد المدينة كجزءٍ من جهوده لتنويع اقتصاد المملكة السعودية القائم على النفط. وبحسب ما ورد، كانت مدينة نيوم موقعاً للقاءٍ أخير بين وليّ العهد السعودي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. 

ووُظِّفَت شركة Edelman من قِبَلِ الشركة السعودية للصناعات الأساسية المملوكة للدولة في أوائل عام 2020، لتوفير اتصالاتٍ استراتيجية في عقدٍ بقيمة 5.6 مليون دولار. 

لكن الرياض أبرمت صفقاتٍ مع شركاتٍ يُنظَر لها باعتبارها مُقرَّبةً من الحزب الجمهوري أيضاً. قبل الانتخابات، وظَّفَت السفارة السعودية شركة Off Hill Strategies، وهي شركة يديرها زوجان لهما باعٌ طويل في السياسة المُحافِظة، مقابل 75 ألف دولار من أجل الضغط لصالح السفارة حتى يناير/كانون الثاني 2021. وفي تعليقٍ لها أكَّدَت مستشارة الشركة، جينيفر بيرد الصفقة، لكنها رفضت مناقشة عملها لصالح السعودية. 

استفادت السعودية بشكل كبير من الغطاء الذي منحه ترامب لولي العهد خلال أزمة خاشقجي وما بعدها وذلك بفضل نشاط لوبياتها في واشنطن/ أرشيفية، رويترز

وقال بِن فريمان، من مبادرة شفافية النفوذ الأجنبي التابعة لمركز السياسة الدولية، التي تسعى لتعزيز الشفافية والمساءلة في العلاقات العالمية: "يحتاج السعوديون إلى الحفاظ على نفوذهم داخل الحزب الجمهوري ما بعد ترامب، على أمل أن يتمكَّن مجلس الشيوخ الجمهوري من المساعدة في منع أيِّ مشاريع قوانين قد تضر بهم، مثل حظر مبيعات الأسلحة أو سحب القوات من اليمن". 

شركات قاطعت السعودية بعد مقتل خاشقجي تعود للعمل معها الآن مجدداً

وبحسب فورين بوليسي، استأنف العديد من أعضاء جماعات الضغط، الذين أعلنوا نيَّتهم جهراً إسقاط الدولة السعودية كعميلٍ لهم في أعقاب مقتل خاشقجي، علاقتهم مع النظام السعودي بهدوء. ومن بين هؤلاء ريتشارد هولت، المستشار الجمهوري وعضو جماعة الضغط في وول ستريت منذ فترةٍ طويلة والذي ساعد البنوك على تحسين صورتها خلال فترة الركود المالي 2008-2009 وأزمة المُدَّخرات والقروض في أواخر الثمانينيات. توقَّفَ هولت، الذي عيَّنه ترامب للعمل في لجنة الرئيس بشأن زمالات البيت الأبيض، وهي مجموعةٌ استشارية، عن تمثيل المملكة السعودية بعد أسابيع فقط من أزمة خاشقجي، وقال لمركز النزاهة العامة إنه يعيد تقييم دوره. 

لكن بعد ستة أشهر أبلغ وزارة العدل أنه يعمل مستشاراً لسفارة المملكة السعودية، حيث يقدِّم المشورة بشأن "الشؤون العامة والتفسير التشريعي". ورغم أنه لا يمارس الضغط، فإنه يقرُّ في الإيداعات الحكومية أن مساعدته في الاجتماعات "قد تفيد السفارة بشكلٍ غير مباشر". 

ونظراً لأن دور هولت في اللجنة الرئاسية كان بدوامٍ جزئي، فقد أُعفِيَ من الأمر التنفيذي لترامب بحظر المُعيَّنين في البيت الأبيض من العمل كجماعات ضغط. ويعمل هولت أيضاً بشكلٍ رئيسي في جمع التبرُّعات للحزب الجمهوري، حيث ساهم بما لا يقل عن 70 ألف دولار في اللجان السياسية للحزب، وما لا يقل عن 25 ألف دولار للمُرشَّحين الجمهوريين في عام 2020، وفقاً لملفات لجنة الانتخابات الفيدرالية. 

وتلقَّت إحدى شركات الضغط رفيعة المستوى، وهي شركة Squire Patton Boggs، مبلغاً قيمته 1.2 مليون دولار من مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي السعودي في عاميّ 2019 و2020، على ما يبدو مقابل القيام بعملٍ ضئيلٍ للغاية. وذكرت الشركة في الإيداعات أنه "لم تكن هناك أنشطةٌ يُبلَغ عنها نيابةً عن الموكِّل الأجنبي خلال الفترة المشمولة في التقرير". 

وقال فريمان بعد مقتل خاشقجي: "كان هناك تصوُّرٌ عام بأن اللوبي السعودي قد اختبأ آنذاك". وأضاف: "لكن ليس هذا صحيحاً على الإطلاق، إذ إن ما رأيناه في الواقع هو تضاعف جهود اللوبي السعودي، إذ قدَّموا أموالاً للمؤسَّسات الفكرية والجامعات الأمريكية للمساعدة في تحسين صورة المملكة". 

وأشار إلى أن المملكة وظَّفَت شركة Qorvis مُتعدِّدة الجنسيات بعقدٍ قيمته 10 ملايين دولار بعد ثلاثة أشهر فقط من مقتل خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول 2018 لتحسين صورة المملكة وسمعتها، وفقاً لملفات وزارة العدل. 

المملكة توزع أموالها في كل مكان في الولايات المتحدة

ومن السمات المُتجدِّدة لحملة استعادة النفوذ أن المملكة السعودية تركِّز فيها جهودها ليس فقط في ولاية واشنطن. تُعَدُّ شركة LS2 Group، ومقرها بلدة دي موين بولاية آيوا، واحدةً من أنشط شركات الضغط لصالح المملكة، وقد تواصلت مع ممثِّلي البلدة المُنتَخبين وقادة الأعمال والمنافذ الإخبارية الصغيرة، بالإضافة إلى أشخاصٍ ذوي تأثيرٍ ديني، وفقاً لسجلات الضغط المُقدَّمة إلى وزارة العدل. 

وركَّزَ جزءٌ كبيرٌ من الجهد على غسل السمعة، وجهل وسائل الإعلام ونشر مقالاتٍ افتتاحية كتبها المتحدث باسم السفارة السعودية، وديل روزفلت، حفيد الرئيس السابق فرانكلين روزفلت، الذي يدير مجلس الأعمال الأمريكي السعودي. 

وقال علي اليامي، الذي يدير مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية، ومقره الولايات المتحدة: "إنهم يعتقدون أن بإمكانهم الخروج إلى المناطق المُحافِظة في البلاد وتوزيع الأموال في كلِّ مكان، لكن النوايا الحسنة تنفد". 

وساعدت العديد من جماعات الضغط لصالح المملكة السعودية في لفت الأنظار إلى دور البلاد كمضيفٍ لقمة مجموعة العشرين الاقتصادية العالمية العام الماضي، إذ أرسلوا مواد إعلامية إلى وسائل الإعلام والمُشرِّعين الذي سلَّطوا الضوء على تمكين المرأة كوضوعٍ للقمة. 

لكن حتى قبل خاشقجي، آلة تأثير "اللوبي" السعودي في واشنطن تعمل بقوة

في تقرير مفصل لموقع "ساسة بوست" تحت مشروع حمل اسم "الحج إلى واشنطن"، استند على وثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون "تسجيل الوكلاء الأجانب" (فارا)، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكافة الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت، ذكرت المعلومات الواردة في التقرير تفاصيل عمل شركات التأثير في واشنطن التي عملت لصالح السعودية ولمعت سمعتها منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وحتى حادثة مقتل خاشقجي وما بعدها، أي على مدار 20 عاماً، التي تبدلت فيها أكثر من إدارة أمريكية على البيت الأبيض.

وبحسب التقرير فقد كانت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 كارثية على المملكة العربية السعودية؛ فقد صبَّت الولايات المتحدة غضبها على العالم الإسلامي، سواء الحكومة الأمريكية أو مؤسسات الإعلام والأبحاث، ووجَّهت أصابع الاتهام للسعودية.

نشطت جماعات الضغط السعودية في واشنطن بقوة بعد أحداث الـ11 من سبتمبر 2001/ أرشيفية (الأمير سلمان بن عبدالعزيز وجورع دبليو بوش في الرياض 2008) / رويترز

وجدت الرياض نفسها في مأزقٍ لا تُحسد عليه. فقد مولت تنظيم القاعدة في حرب أفغانستان، بموافقة وتنسيق من المخابرات الأمريكية، ليضرب التنظيم حليفها الأمريكي في عقر داره. ولم يكن أمام الرياض بعد هجمات سبتمبر/أيلول سوى ضخ ملايين الدولارات لحفظ ماء وجهها، ولكسب رضا واشنطن مرة أخرى في ظل أخطارٍ إقليمية عدَّة؛ إذ يحدها صدام حسين في العراق من الشمال الشرقي، والنظام الإيراني من الشرق.

ويذكر التقرير الموسع أن شركة "كورفيس – Qorvis"، إحدى أكبر شركات الضغط والعلاقات العامة، عملت لحساب السعودية منذ أحداث سبتمبر/أيلول وحتى اليوم، وقدَّمت الشركة خلال تلك الفترة خدمات مختلفة للسعودية من ضغط سياسي، لترويج وإدارة حملات إعلامية في ملفات مختلفة مثل: حرب اليمن، ومقتل خاشقجي، وقانون جاستا، وصفقات التسليح، وملف التطبيع مع إسرائيل.

وبحسب التقرير، فإن "كورفيس" التي مثلت السعودية في واحدةٍ من أصعب مراحل العلاقات بين البلدين لم تكُن لتتوانى هذه المرة عن تمثيل السعودية، وبالفعل نفَّذت حملة علاقات عامة جديدة بعد اغتيال خاشقجي لتحسين صورة السعودية. ولكن لهذه الخدمات ثمنها الخاص؛ إذ دفعت السعودية للشركة بين شهر اغتيال خاشقجي، أكتوبر/تشرين الأول 2018 وحتى يناير/كانون الثاني 2019، ما يصل إلى 18 مليوناً و814 ألف دولار، ثلاثة أضعاف ما كانت تتحصَّل عليه الشركة في السنوات السابقة، وفقاً لوثائق الشركة في وزارة العدل الأمريكية. 

وقد تواصلت الشركة بعد الاغتيال مع العديد من مراكز الأبحاث الأمريكية، مثل معهد بروكنجز ومؤسسة الشرق الأوسط، التي أعلنت رفضها أي تمويل سعودي بعد الحادثة.

ووفقاً لوثائق الشركة على موقع وزارة العدل الأمريكية، فمنذ عام 2011 إلى اليوم، بلغت المدفوعات السعودية للشركة 40 مليوناً و397 ألف دولار. ويذكر أن الشركة وقعت عقداً مع البعثة السعودية الدائمة للأمم المتحدة مقابل خدمات علاقات عامة وإدارية للمؤتمرات، وقع عليه عبدالله المعلمي، السفير السعودي لدى الأمم المتحدة.

جو بايدن وملك السعودية سلمان بن عبدالعزيز، أرشيفية 2011، رويترز

لا تغيير كبير متوقع على العلاقات بين واشنطن والرياض في عهد بايدن

في النهاية، ورغم أن العلاقات التاريخية بين السعودية والولايات المتحدة، التي تمتد منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم، قد تعرضت لنكسات وضربات عديدة، إلا أنها حافظت على قوتها الاستراتيجية بصورة كاملة ومميزة، وذلك على الرغم من الاختلافات الواسعة بين النظامين الحليفين، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وحتى اجتماعياً وفكرياً.

ومع صعود بايدن، وبرغم كل التشاؤم حول مستقبل العلاقة بين واشنطن والرياض في ظل إدارته التي توصف "بالحازمة" مع سياسات المملكة، إلا أنه من المستبعد أن تطرأ تغييرات كبيرة على العلاقة الموثقة بعشرات الاتفاقيات بين مختلف الإدارات الأمريكية مع الرياض، سواء أكانت جمهورية أم ديمقراطية. 

فمنذ أن بدأت العلاقات بين الطرفين قبل عدة عقود طويلة، كانت الولايات المتحدة على استعداد للتغاضي عن العديد من جوانب المملكة الأكثر إثارة للجدل من قضية خاشقجي، لطالما استمرت المملكة في مد أمريكا بالنفط، ودعم سياسات الأمن القومي الأمريكية وحفظ مصالحها في المنطقة، وبالتالي قد تشهد العلاقة خلال الفترة القادمة بعض الهدوء والتنازلات من قبل الرياض، دون تغييرات جسيمة.

تحميل المزيد