"بلاش تروح ميدان التحرير ووسط البلد اليومين دول"، بهذه الكلمات نصح شاب عشريني صديقه قبل حلول الذكرى العاشرة للثورة المصرية التي تحل في 25 يناير/كانون الثاني 2020.
فقد تحول ميدان التحرير بعد 10 سنوات على ثورة يناير/تشرين الثاني 2011، من ساحة اختلطت فيها بالحرية بالفوضى والرومانسية ولكنها وفرت فرصة فريدة كان يستطيع فيها فيها كل مصري أن يعبر عن رأيه إلى ما يشبه مدينة محرمة كالتي أسسها أباطرة الصين ولكن على الطراز المصري.
بات الشباب يتبادلون النصائح بعدم الذهاب كثيراً لمنطقة وسط البلد بقلب القاهرة، وخاصة ميدان التحرير خوفاً من الإجراءات الأمنية المشددة والتي أصبح أشهرها تفتيش الهواتف الذكية بحثاً عن انتقاد للنظام أو سخرية بريئة تستهدف قيادته.
أُخلي ميدان التحرير من الثوار أولاً، ثم من المصورين ورجال الإعلام والسياح الأجانب، والآن حتى الشباب من الجيل الجديد الذين كانوا أطفالاً أثناء ثورة يناير أصبح محرماًَ عليهم ميدان التحرير، بعد أن باتوا يخشون التفتيش العشوائي من رجال الشرطة السرية الذي لاينجو منه حتى الموظفين العاملين في مؤسسات الدولة التي توجد مقراتها في المدينة المحرمة المصرية التي كانت تسمى يوماً ميدان التحرير ووسط البلد.
الضيف الأخير
كان الضيف الأخير قد سجّل من أجل المغادرة، تاركاً أحمد طه يفكر في مستقبله وهو يجلس على سرير غير مرتب في غرفة منعزلة وسط ملاءات مجعدة وفناجين قهوة نصف ممتلئة.
كان الوباء هو الضربة الأخيرة لنُزله الواقع وسط القاهرة، وهو مكان صغير أنيق في ميدان التحرير يوفر غرفاً بقيمة 35 دولاراً وإطلالات بانورامية على المتحف المصري الفخم عبر الشارع، حسبما ورد في تقرير لصحيفتي The New York Times الأمريكية و The Wall Street Journal الأمريكيتين.
يقول طه إن الأجانب اختفوا أولاً، ثم تبعهم المصريون بين عشية وضحاها. الآن، يخيم صمت لا تقطعه سوى أصوات حركة المرور المتسربة عبر نافذة مفتوحة.
لكن التحول في أحوال ميدان التحرير، بحسب ما يقول صاحب النزل، بدأ قبل وقت طويل من ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا.
ثم أشار طه إلى المنطقة التي احتشد فيها مئات الآلاف من المصريين قبل عقد من الزمان في هذا الشهر نفسه، لإطاحة حاكمهم الديكتاتوري، حسني مبارك، في صرخة انتفاضة، مثّل انتصارها ذروة موجة الانتفاضات التي اندلعت في جميع أنحاء المنطقة وقتها، وباتت تُعرف باسم موجة "الربيع العربي".
في الذكرى العاشرة للثورة المصرية.. ميدان التحرير أصبح غير الذي نعرفه
الآن هو بالكاد يتعرف على المكان. الدائرة التي كان يملأها العشب في قلب الميدان، حيث كان الثوار يتشاركون ابتهاجهم في يوم من الأيام، بات حيزاً مخنوقاً بالخرسانة. وفي مكانها، تموضعَ نصب تذكاري متشامخ بهوسٍ مبالغ فيه إلى العظمة، وهو محور عملية تجديد بقيمة 6 ملايين دولار تهدف إلى بهرجة ميدان التحرير ليصبح على طراز الساحات الفخمة في أوروبا.
وفي قلب الميدان، بات هناك مسلة أثرية منصوبة على قاعدة يحرسها أربعة تماثيل برؤوس كباش، نُقلت مؤخراً من من معبد الكرنك الأثري، ولا تزال مخبأة في صناديقها الزجاجية.
كان التأثير الجاذب لكن المفتقر إلى أي ملامح معبرة عن شخصية ما لميدان التحرير، سواء أكانت عسكرية أو حتى فرعونية، هو بالضبط ما أراده الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أمر بالتغييرات، حسب التقرير.
وتسبب تجديد ميدان التحرير الذي وقف شاهداً على التحولات السياسية التي اجتاحت البلاد في العقد الماضي في إثارة غضب الثوار المناهضين لمبارك وقلق علماء الآثار على حد سواء، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وكان محور هذه التجديدات مسلة عمرها 3500 عام تعود لعصر الملك رمسيس الثاني جُلبت من دلتا النيل فضلاً عن أربعة تماثيل من معبد الكرنك في الأقصر.
تجديد ميدان التحرير قوبل بالرفض والقلق، لا سيما من بعض علماء الآثار في البلاد ومحبي التاريخ، الذين أبدوا تحفظهم على نقل المسلة والتماثيل من أماكنها الأصلية.
ويقولون إن ميداناً ملوثاً ومزدحماً لا يمكن أن يكون المكان المثالي لآثار ثمينة مثل المسلة التي يبلغ ارتفاعها 19 متراً ووزنها 90 طناً والتي نُقلت إلى وسط العاصمة من محافظة الشرقية بدلتا النيل والتماثيل المنقولة من مدينة الأقصر الأثرية في جنوب مصر.
يقول أحمد إدريس، عضو لجنة السياحة والآثار بمجلس النواب، لموقع Middle East Eye: "نقل التماثيل من بيئتها الأصلية ليس سليماً بالمرة. والظروف الجوية والتلوث الذي يملأ الميدان سيكون له أثر مدمر عليها".
حتى قبل يناير كان حكام مصر يخشونه
ميدان التحرير الذي لطالما كان منطقة ازدحام مرورية، وقاعدة انطلاق للثورات، وفي السنوات الأخيرة ميدان لذكريات الأحلام المحطمة، لطالما احتل أيضاً مكانةً خاصة في ثقافة مصر وتاريخها.
فمنذ أن وضعت أساساته لتحل محل قطعة أرض مستنقعية بجوار نهر النيل منذ أكثر من 150 عاماً، برز الميدان مترامي الأطراف علامةً مهمة في البلاد ولكن أيضاَ نصب يرمز للتهديد الذي يتعرض له لحكام مصر من غضبة الشعب.
كان شوقي عقل طالباً يسارياً، لطالما تجول في مقاهي وسط البلد المحيطة بالتحرير في السبعينيات، كان الميدان موقع احتجاجه على أحزان مصر ونكساتها في مناسبات عديدة. احتجَّ فيه على عجز مصر عن استعادة سيناء من إسرائيل قبل عام 1973، وبعد أربع سنوات، كان على خط المواجهة في التظاهرات التي عُرفت بانتفاضة الخبز وهزت عرش السلطة تحت الرئيس أنور السادات.
يقول عقل: "التحرير يملك وجهي مصر؛ إنه وجه الدولة البيروقراطية، وهو البقعة التي يصنع فيها المصريون ثوراتهم. إنهم يكملون بعضهم، ربما".
الآن، يدير عقل، الذي بات في السبعينيات من عمره، شركةً، ويعيش في منزل جميل يقع في ضاحية فخمة، ومثل أي مصري يريد الحفاظ على نفسه، يميل إلى الابتعاد عن السياسة. ومع ذلك، لم يستطع إخفاء ازدرائه لمظهر التحرير الجديد.
وقال: "السيسي حوّل مصر إلى معسكرٍ للجيش، يتوسطه علم يُفترض بنا أن نقف لنحييه كل يوم… هذه ليست مصر".
قدرت هيومن رايتس ووتش مؤخراً عدد السجناء السياسيين بـ 60 ألف سجين سياسي في تزايد.
يدين السيسي بالكثير للتحرير، فقد استند إلى الاحتجاجات الضخمة التي اندلعت هنا في عام 2013 لتبرير إطاحته أول رئيس منتخب ديمقراطياً في تاريخ البلاد، الرئيس الراحل محمد مرسي، وهو ما مهّد الطريق للسيسي، الجنرال العسكري السابق، لتولي السلطة.
ومع ذلك، بمجرد وصوله إلى السلطة، تحرك بسرعة لمحو كل أثر للثورة التي أوصلته للسلطة. أُزيلت كل كتابة تمس الثورة من على الجدران، وطُليت الجداريات. واحتل أفراد الأمن والمخبرون أركان الميدان، وحُظرت الاحتجاجات.
وبحسب النشطاء، شنت الحكومة أيضاً حملة متواصلة تهدف إلى تأطير الثورة على أنها نذير مشاكل مصر التي لا تعد ولا تحصى وسبب "ركوعها على ركبتيها"، حسب وصف صحيفة The Independent البريطانية.
هذا النهج ليس استثنائياً في منطقة لطالما استخدم فيها المستبدون عنف الدولة لقمع أي حركة على غرار انتفاضات الربيع العربي. ففي سوريا، شنَّ بشار الأسد حرباً قتل فيها نصف مليون شخص لوقف الثورة ضده. وهكذا الحال في اليمن وليبيا، اللتين أصبحتا دولتين ممزقتين على أثر حروب ما بعد 2011، وفيهما أيضاً ذاكرةٌ الانتفاضات متنازع عليها، وذلك بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal.
عاصمة جديدة بعيدة عن الميدان
يصر السيسي على أن العاصمة الجديدة التي يبنيها بتكلفة تصل إلى 60 مليار دولار، على بعد 60 كيلومتراً من قلب القاهرة، ستخفف الضغط عن العاصمة القديمة، فيما يرى منتقدوه دافعاً أقل نبلاً: هو تجريد التحرير من أهميته عن طريق تحويل مركز السلطة إلى مكان بعيد، يصعب على المصريين، سوى قلةٍ قليلة، الوصولُ إليه، ناهيك بالتجمع وإسماع أصواتهم.
ما تبقى في التحرير، إذن، هو أشباح عام 2011، بالإضافة إلى مساحة لم يعد يأتي إليها سوى معارضين تملكتهم روح التحدي أو ساخطون استحوذت عليهم مثالية الوقوف في وجه النظام.
في عام 2019، دخل رجل يبلغ من العمر 35 عاماً، اسمه أحمد محيي، ميدان التحرير، حاملاً لافتة كُتب عليها "ارحل يا سيسي!" للتعبير عن غضبه حيال حادث قطار مدمر ألقى اللوم فيه على فساد النظام وانعدام كفاءة مسؤوليه. في غضون دقائق، كان محي قد أُلقي به في عربة شرطة.
اجتاحت موجة نادرة من الاحتجاجات المناهضة للنظام ميدانَ التحرير في سبتمبر/أيلول 2019، لكن سرعان ما سحقتهم قوات الأمن، واعتقلت ما يزيد على 4000 شخص في عموم البلاد، غير أنه من الواضح أن السلطة صُدمت من ذلك الانفجار المفاجئ للغضب.
الآن، لم تعد تترك مساحةً للمجازفة بتكرار غضبةٍ كهذه.
حتى لو غيرتموه فإنه باق في عقولنا
ويشير تقرير The Wall Street Journal إلى أنه رغم ما تبذله حكومة عبد الفتاح السيسي من جهودٍ لسحق إرث الربيع العربي، لا يزال ملايين المصريين متمسكين بشيء لا تستطيع الدولة مسَّه: ذكريات الانتفاضة التي أشعلت عقداً من الثورات والحروب ضد الأنظمة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. واليوم، تخوض الحكومة المصرية، التي ربما تكون أشد قمعاً من نظام مبارك، صداماً مع كثير من مواطنيها حول معنى ماضيها القريب، فيما مستقبل البلاد نفسها على المحك.
ولا يزال هناك عدد قليل من الجهود المنظمة للحفاظ على ذاكرة الثورة، على الإنترنت في المقام الأول. يبرز ضمن هؤلاء، مجموعة "مُصرّين"، وهي بحسب موقعها تعاونية إعلام شعبي نشات لتصوير وتوثيق وخلق صور من الثورة المصرية عام 2011.
عملت المجموعة على جمع مقاطع الفيديو من الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بالمحتجين ونشرتهم في أرشيف مجمَّع على الإنترنت تحت اسم "أرشيف 858"، نسبةً إلى عدد ساعات اللقطات المنشورة عند إطلاق الموقع.
موقع 858 عبارة عن بانوراما لمشاهد الثورة، مرتبة حسب التاريخ والموقع والفئات، مثل "الاشتباكات" و"جنازات الشهداء". يتيح الموقع مساحة للتنقل بين مقاطع الفيديو ويدمج في صفحاته مقاطع من الحشود المتصاعدة ومشاهد تدفق الغاز المسيل للدموع، كما يسمح للزوار بتحرير مقاطع فيديو في مجموعاتهم الخاصة.
يقول شريف جابر، أحد أعضاء مجموعة "مُصرّين"، إن الهدف من الأرشيف هو السماح بإعادة الدمج وإعادة التفسير، "إنه ليس ضريحاً نبكي فيه على ذكرياتنا القيّمة والأثيرة. يجب أن تستمد هذه الذكريات السياسية قيمتها من دورها في المستقبل، وليس من موقعها في الماضي".
هناك مشروع آخر، مشروع "وثائق التحرير"، وهو أرشيف على الإنترنت للمنشورات والخطابات العامة والبيانات والشعارات والأشعار الوقتية الأخرى، التي جمعها في الأصل من ميدان التحرير مجموعةٌ من الطلاب الأمريكيين الذين كانوا في القاهرة لدراسة اللغة العربية عندما اندلعت الصورة. ويستضيف محتواهم الآن مكتبة جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، ومجموعة الوثائق هي عبارة عن مقطع عرضي متباين للخطاب السياسي لانتفاضة 2011.
يقول مؤسسو الأرشيف إن الوثائق تحكي قصة ما كان يمكن أن يكون في مصر لو لم يفشل التحول الديمقراطي في البلاد. يقول إلياس سابا، أحد مؤسسي الأرشيف وهو الآن كبير محاضرين في كلية غرينيل بولاية أيوا الأمريكية، "إنه يكشف حقاً عن نوع المستقبل الذي كان يمكن أن تمتلكه مصر"، وذلك وفقاً لتقرير The Wall Street Journal.