كانت إيطاليا هي بؤرة تفشي وباء كورونا في أوروبا العام الماضي واحتلت أخبار الجائحة وضحاياها هناك عناوين الأخبار حول العالم، لكن مطلع العام الجاري يشهد نهوض روما باعتبارها القوة الاقتصادية الأسرع نمواً في منطقة البحر المتوسط، من خلال شبكة نقل بين تركيا وإيطاليا وتونس والجزائر، فما القصة؟
إذ عندما وصل فيروس كورونا إلى أوروبا العام الماضي، كانت إيطاليا هي بؤرة التفشي الأولى ولم تتمكن المنظومة الصحية هناك من مواجهته، واحتاجت روما إلى دعم عاجل من الاتحاد الأوروبي لم تحصل عليه في وقتها، وتسبب ذلك في كثير من الألم والغضب بين الإيطاليين.
لكن مطلع العام الحالي، ورغم استمرار الجائحة حول العالم وفي أوروبا أيضاً وبالتالي إيطاليا، فإن القصة الأبرز حالياً هي نهضة روما فوق البحر المتوسط، هذه المرة باعتبارها قوةً اقتصادية، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فمن تشييد البنية التحتية إلى مبيعات السلاح إلى الصادرات الاستهلاكية، أصبحت إيطاليا قوةً حيوية حول الأطراف الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط، وذلك من خلال ممر بحري يربط بين تركيا وإيطاليا وتونس والجزائر أيضاً، فيما يطلق عليه "مبادرة الحزام والطريق المتوسطية الإيطالية".
والقصة ليست وليدة العام الجاري، بل تعود إلى عقدين من الزمن شهدا تركيز إيطاليا على الربط التجاري عبر البحر المتوسط شيئاً أشبه بنسخةٍ متوسطية من مبادرة الحزام والطريق الصينية، مع وجود إيطاليا في مركز هذه المبادرة، وهو ما جعل روما تبرز في العام الجاري باعتبارها القوة الاقتصادية الأوروبية الأسرع صعوداً في منطقة البحر المتوسط؛ من شمال إفريقيا إلى البلقان وما وراءها.
خريطة أشبه بالإمبراطورية الرومانية
تبدو خريطة إيطاليا التجارية الصاعدة في القرن الحادي والعشرين، والتي يُطلَق عليها "البحر الأبيض المتوسط الأوسع"، شبيهةً إلى حدٍّ كبير بخريطة القرن الأول للإمبراطورية الرومانية. ومثلما اضطرت القوى الأخرى للرضوخ إلى تلك الإمبراطورية، لأن المحرِّك الاقتصادي للاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه يتكوَّن الآن من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فإن مدى استيعاب باريس وبرلين لأجندة روما المتوسطية الأوسع سيحدِّد قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل بشكلٍ متماسك، مع تداعيات ذلك على حلف الناتو أيضاً.
إذ تحافظ إيطاليا تقليدياً على ثلاث ركائز للسياسة الخارجية، وهم الركائز الأوروبية والأطلسية والمتوسطية. لكن روما وضعت في الآونة الأخيرة المزيد من عناصرها الاستراتيجية في سلة البحر المتوسط. اتُّخِذَ القرار صريحاً في يناير/كانون الثاني 2018، حين أعادت وزيرة الدفاع الإيطالية آنذاك، روبرتا بينوتي، تكليف القوات الإيطالية المنتشرة في العراق وأفغانستان بمهماتٍ في ليبيا والنيجر، مُوضِّحةً الأولويات الاستراتيجية لإيطاليا على النحو التالي: "جوهو تدخُّلاتنا هو "البحر الأبيض المتوسط الأوسع"، من البلقان إلى الساحل والقرن الإفريقي".
وقد أتى رهان روما على البحر المتوسط ثماره. فمع خروج الاتحاد الأوروبي من أزمة ديونه في 2012، تجاوزت إيطاليا فرنسا لتصبح ثاني أكبر منتجٍ في أوروبا، إذ تجاوزت قيمة الإنتاج المُباع إنتاج فرنسا بحوالي الثلث. ويذهب جزءٌ كبيرٌ من تدفُّق الصادرات إلى أسواق البحر المتوسط، إذ تفوق صادراتها إلى تلك المناطق صادراتها التي تُوجَّه إلى كلٍّ من الولايات المتحدة والصين.
اتفاق إيطالي – تركي – تونسي
وفي السنوات المقبلة، من المُقرَّر أن تكبر خريطة "البحر الأبيض المتوسط الأوسع". ففي عام 2019، اتفقت إيطاليا وتركيا على تشكيل شبكة نقل بين تركيا وإيطاليا وتونس عبر البحر المتوسط، ما يخلق قوساً من الربط التجاري من المغرب العربي إلى البحر الأسود الأوسع. والمحور المركزي للممر هو ميناء تارانتو الإيطالي، الواقع في الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الإيطالية في القلب الاستراتيجي للبحر المتوسط، وقد بدأت خدمة نقل الحاويات على ممر تركيا وإيطاليا وتونس في أوائل يوليو/تموز 2020.
ويشكِّل قطاع تارانتو-تونس من الشبكة رابطاً رئيسياً بين أوروبا وإفريقيا، من خلال ربط ساحل إفريقيا بالأسواق الرئيسية ومراكز التصنيع في إيطاليا وألمانيا، وحتى الدول الاسكندنافية. ومن موانئ تونس، يمكن للممر أيضاً أن يربط إيطاليا بالجزائر وعلى الطريق السريع العابر للصحراء، ما يحتمل أن يمتد إلى ممر إيطاليا وتركيا وأوروبا إلى إفريقيا جنوباً إلى غرب إفريقيا حتى العاصمة النيجيرية لاغوس. ومع مواجهة إيطاليا لاحتمال أن تكون حارسة بوابة التجارة الأوروبية إلى إفريقيا، ربما تؤدِّي "كلُّ الطرق إلى روما" مرةً أخرى.
وإلى جانب التجارة مع إفريقيا في السلع المُصنَّعة، أنشأت إيطاليا أيضاً إمبراطوريةً للطاقة هناك، وقد قادت هذه الجهود شركة الطاقة الإيطالية العملاقة إيني، تحت السيطرة الفعلية للحكومة في روما، بحكم أن الحكومة الإيطالية هي أكبر مساهم منفرد. وتسيطر إيني على نحو 45% من إنتاج النفط والغاز الليبي، وهي واحدةٌ من الشركاء الأجانب الرئيسيين في الجزائر، أكبر منتج للغاز الطبيعي في إفريقيا. وبالاشتراك مع شركة النفط الحكومية الجزائرية سوناطراك، تمتلك إيني بشكلٍ مشترك خط الأنابيب الأول عبر المتوسط الذي ينقل الغاز الطبيعي الجزائري عبر تونس إلى إيطاليا.
ربط كهربائي بين الجزائر وإيطاليا وتونس
وستنتهي إيطاليا قريباً من عملية ربط شبكتها الكهربائية بالجزائر، الغنية بالطاقة، عبر تونس بإكمال الكابل البحري بطول 192 كيلومتراً، وبقدرة 600 ميغاوات بين تونس وصقلية. وبمجرد اكتمال ذلك، ستتمكَّن إيطاليا من التطلُّع إلى دول المغرب العربي لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، بدلاً من الاعتماد فقط على تبادل الكهرباء مع جيرانها الأوروبيين عبر الحدود الشمالية لإيطاليا.
ويمتد انتشار إيطاليا أيضاً إلى شرق البحر المتوسط، حيث تمتلك إيني 50% من حقول الغاز العملاقة المصرية في ظُهر، وهي المُشغِّلة للحقل، الذي هو الأكبر في شرق البحر المتوسط. وتمتلك إيني حصة 50% في إحدى محطتين للغاز الطبيعي المُسال في مصر، وهي المشغِّل الرائد في استكشاف الغاز الطبيعي البحري في قبرص. من تشييد البنية التحتية إلى مبيعات السلاح إلى الصادرات الاستهلاكية، أصبحت إيطاليا قوةً حيوية حول الأطراف الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط.
وعلى السواحل الشمالية للبحر المتوسط في جنوب شرق أوروبا، تُعَدُّ إيطاليا أيضاً من الأقوى في مجال الطاقة مع تأثيرها على خط أنابيب يمر عبر البحر الأدرياتيكي. وبالنسبة لدول غرب البلقان، وكذلك أعضاء الاتحاد الأوروبي بلغاريا وكرواتيا ورومانيا، تُعَدُّ إيطاليا شريكاً تجارياً رئيسياً.
ففي عام 2018، بلغ التبادل بين إيطاليا ودول غرب البلقان 11.4 مليار دولار. وتُعَدُّ إيطاليا، بعد ألمانيا، الشريك التجاري الرائد لرومانيا، التي تحتل المرتبة السادسة من حيث عدد السكَّان في الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2019، كانت إيطاليا أيضاً ثالث أكبر شريك اقتصادي لبلغاريا، إذ بلغ حجم التجارة الثنائية أكثر من 5 مليارات دولار، وهي ثاني أكبر شريك لكرواتيا، إذ بلغ حجم التجارة بينهما 6.3 مليار دولار، ما يقارب الـ6.6 مليار دولار بين ألمانيا وكرواتيا.
وكما هو الحال مع مناطق خريطة "البحر الأبيض المتوسط الأوسع" الأخرى، تتمتع إيطاليا ببصمةٍ استثمارية كبيرة في جنوب شرق أوروبا. استفاد المُصنِعون هناك من الوصول السلس إلى سوق الاتحاد الأوروبي، بفضل العضوية في الاتحاد، أو بفضل ترتيبات التجارة الحرة في حالة البلقان.
ومن المؤكد إذا كنت تعمل في مجال الملابس الإيطالية، على سبيل المثال، فمن الأرخص إنشاء متجرٍ في جنوب شرق آسيا مقارنةً برومانيا أو صربيا، حيث تكون تكاليف العمالة أعلى. ومع ذلك، فإن وجود مرافق الإنتاج الخاصة بك في الجوار يسمح لك بالاستيراد على دفعاتٍ أصغر بكثير، وتكون قادراً على الاستجابة لتقلُّبات الطلب واتجاهات صيحات الموضة بسهولةٍ أكبر. ويعمل قطاع السيارات بطريقةٍ مماثلة.
أما فيما يتعلَّق بالخدمات المصرفية، فقد سيطرت العديد من البنوك الإيطالية على بنوك أوروبا الشرقية، مثل بنك Banca Intesa Beograd الصربي وبنك Privredna Banka Zagreb الكرواتي.