تواجه فرنسا تحديات جيواستراتيجية في غرب إفريقيا، هي الأصعب في تاريخها، أمام عجزها عن القضاء على التنظيمات المسلحة التي تهدد مصالحها، وتصاعد مشاعر عداء السكان المحليين ضدها، لكن أسوأ ما في الأمر، بالنسبة لباريس، دخول قوى دولية وإقليمية ساحة المنافسة، ما يهدد دورها كلاعب رئيسي في القارة السمراء.
فروسيا والصين وتركيا، ثلاث دول يصنفها الإعلام الفرنسي كأكبر تهديد لهيمنة بلادهم على "إفريقيا الفرانكفونية"، التي كانت خاضعة لاحتلالهم خلال القرن التاسع عشر ونال أغلبهم استقلاله مطلع الستينات من القرن العشرين.
وتجسدت الهيمنة الفرنسية على غرب إفريقيا عبر اللغة والاقتصاد وأيضاً من خلال القواعد العسكرية والتدخلات المسلحة، لكن كل ذلك لم يعد كافياً أمام اكتساح الصين للأسواق الإفريقية إجمالاً، وتوغل روسيا في المنطقة عبر صفقات الأسلحة والاتفاقيات العسكرية وأيضاً عبر شركة فاغنر الأمنية.
تركيا بدورها بدأت تفرض نفسها في غرب إفريقيا، عبر القوة الناعمة، من خلال توسيع الاستثمارات والمساعدات الإنسانية وتطوير العلاقات الدبلوماسية والثقافية واستقبال البعثات الطلابية.
هذا ما جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يخرج عن تحفظه الدبلوماسي ويصرح في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قائلاً "هناك استراتيجية يتم اتباعها، ينفذها أحياناً قادة أفارقة، لكن بشكل أساسي قوى أجنبية مثل روسيا وتركيا تلعب على وتر نقمة ما بعد حقبة الاستعمار".
فرنسا تترنح في غرب إفريقيا
أبرز عنوان لفشل التدخلات العسكرية الفرنسية في إفريقيا، إعلان وزير الدفاع الفرنسي (السابق) جون إيف لودريان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 انتهاء العملية العسكرية الفرنسية "سانغاريس" في جمهورية إفريقيا الوسطى، التي أُطلقت في ديسمبر/كانون الأول 2013، لإنهاء المواجهات الدامية بين الميليشيات المسيحية (آنتي بالاكا) والمسلمة (سيليكا).
فشلت القوات الفرنسية في إيقاف العنف، لكن باريس رفضت التخلي تماماً عن مصالحها بالبلاد، حيث قال وزير دفاعها حينها إن انتهاء العملية "لا يعني انتهاء العلاقات العسكرية بين فرنسا وجمهورية إفريقيا الوسطى".
السيناريو ذاته من المرجح أن يتكرر في منطقة الساحل الإفريقي، فعملية برخان العسكرية التي أطلقتها فرنسا في 2014، عقب انتهاء عملية سيرفال في شمال مالي، توشك أن تلاقي نفس مصير "سانغاريس" في إفريقيا الوسطى.
فرئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال فرانسوا لوكوانتر أعلن نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، خلال زيارته لمالي، أن بلاده تفكر بجدية في سحب قواتها من منطقة الساحل الإفريقي.
لكن فرنسا قبل سحب قواتها كلياً أو جزئياً من بلدان الساحل (مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد وموريتانيا) ستترك خلفها إرثاً ثقيلاً من الرفض الشعبي في المنطقة.
فلن تنسى باريس تلك الشعارات المهينة التي رفعها متظاهرون في العاصمة المالية باماكو، من قبيل: "تسقط فرنسا"، "برخان ارحلي"، "فرنسا أوقفي الإبادة الجماعية في مالي"، "فرنسا دولة إرهابية".
هذا آخر ما كان ينتظره المسؤولون الفرنسيون، بعدما استقبل الماليون الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، بباماكو في 2013، استقبال الفاتحين، عندما تمكنت عملية سيرفال من وقف زحف الجماعات الإرهابية والمتمردين الطوارق نحو العاصمة، قبل أن تطردهم من مدن الشمال.
وغضب الماليين له ما يبرره، فالجنود الفرنسيون ارتكبوا عدة أخطاء قاتلة يمكن وصفها بـ"الجرائم"، آخرها مقتل أكثر من 100 مواطن مالي كانوا في حفل زفاف، بقرية وسط البلاد، خلال غارة جوية يعتقد أنها فرنسية، مطلع 2021.
الناس في بلدان الساحل الإفريقي سئمت من الإخفاق الفرنسي في القضاء على الجماعات المسلحة طيلة 8 سنوات، رغم وعود الرئيس هولاند، ولودريان عندما كان وزيراً للدفاع، لكن هذه الجماعات المصنفة إرهابية انتشرت من شمال مالي إلى بوركينافاسو والنيجر وتمددت إلى بلدان حوض تشاد.
اليأس طال حتى الجنود الفرنسيين في برخان من جدوى هذه "الاستراتيجية غير الفعالة"، حيث تنقل صحيفة "جون آفريك" الفرنسية عن أحد ضباط الصف العائدين من مالي قوله متنهداً: "في يوم من الأيام، ربما في غضون 10 سنوات، سيقرر رئيس آخر وقف النفقات وإعادة قواتنا إلى الوطن. سنعود إلى الوطن، وسيستولي الإرهابيون على المنطقة، وكل ذلك سيكون بلا مقابل".
وإيقاف النفقات أحد الأسباب التي تضغط على باريس من أجل سحب جنودها من حرب الاستنزاف في الساحل، خصوصاً مع حالة الركود الاقتصادي التي تشهدها البلاد بسبب فيروس كورونا، وعدم حصولها على الدعم الكافي من حلفائها لتمويل عملية برخان ومجموعة الخمسة ساحل (موريتانيا، النيجر ومالي وبوركينافاسو وتشاد).
روسيا تستعد لملء الفراغ
تخوض باريس أشرس المعارك متعددة الأوجه مع موسكو، التي تبدو مصرة على استثمار الإخفاقات الفرنسية في مستعمراتها السابقة، لملء الفراغ في منطقة غرب إفريقيا جنوب الصحراء.
فبمجرد إنهاء فرنسا مهمتها العسكرية بجمهورية إفريقيا الوسطى في 2016، إثر فشلها في إنهاء المواجهات الدامية، تحركت روسيا وعقدت صفقة مع حكومة بانغي بعد زيارة رئيسها إلى موسكو في 2017.
فبحسب موقع "ذي أفريكا ريبورت"، فإنه مقابل عدم استعمال روسيا حق الفيتو ضد تسليم فرنسا أسلحة لحكومة بانغي بل ومطالبتها برفع مؤقت لحظر الأسلحة، سمحت الأخيرة بإنشاء شركة تعدين روسية في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتشغيل مطار روسي في منطقة أوادا (شرق)، بالإضافة إلى تدريب الروس لعناصر الحرس الجمهوري والجيش.
ومنذ 26 يناير/كانون الثاني 2018، بدأت الطائرات الروسية المحملة بالأسلحة تصل بانغي، وفي يونيو/حزيران ويوليو/تموز من ذات العام حصلت شركة "لوباي إنفست سارلو" الروسية، على التراخيص اللازمة للتنقيب عن الذهب والألماس.
ويقول "ذي أفريكا ريبورت" إن شركة فاغنر الروسية توفر أكثر من ألف مدرب لجمهورية إفريقيا الوسطى، وتكفل أمن المؤسسات المختلفة، وتلعب دوراً رائداً في تدريب الحرس الرئاسي والجيش.
وتحدثت وكالة الصحافة الفرنسية عن إرسال روسيا مئات الجنود وآليات ثقيلة إلى إفريقيا الوسطى لتأمين الانتخابات الرئاسية التي جرت في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
هذا الأمر أثار استياء باريس، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2018، قالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، لمجلة جون أفريك: "روسيا تعزز وجودها في جمهورية إفريقيا الوسطى في الأشهر القليلة الماضية. هذا حقيقي، لكني لست متأكدة من أن هذا الوجود والأفعال التي تقوم بها موسكو تساعد على تحقيق الاستقرار في هذا البلد".
وردت الخارجية الروسية على الاتهامات الموجهة ضد بلادها بأنها "نوع من الحقد" من جانب قوى خارجية أخرى على الدور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى.
لكن في الأخير رجحت كفة موسكو، بحسب الخبير الروسي "فياتشيسلاف تيتيكين" عضو لجنة الدفاع في مجلس الدوما (الغرفة الأولى للبرلمان) الذي نقلت إذاعة فرنسا الدولية قوله "استبعدت روسيا، في الواقع، فرنسا من لعبة إفريقيا الوسطى.. من الآن فصاعداً، تلعب روسيا والصين الأدوار الرئيسية".
لكن باريس لم ترم المنشفة بعد، حيث أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإرسال طائرات حربية في مهمة تحليق فوق أراضي إفريقيا الوسطى، في إطار دعم بلاده لإجراء الانتخابات الرئاسية، لكن الرسالة كانت موجهة إلى روسيا، بأنها مازالت موجودة.
وعلى الفضاء الافتراضي، كانت معركة من نوع آخر تجري بين روسيا وفرنسا، حيث أعلنت شركة "فيسبوك" في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حذف 223 حساباً وصفحة ومجموعة على منصتي "فيسبوك" و"إنستغرام"، ضمن شبكتين نشأتا في فرنسا وثالثة في روسيا.
وفي مالي التي تهيمن عليها فرنسا بشكل رئيسي عبر عملية برخان، تزعم وسائل إعلام غربية، وخاصة الفرنسية منها، أن روسيا قد يكون لها يد في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس إبراهيم أبوبكر كايتا من الحكم.
إذ إن اثنين من قادة الانقلاب العقيدين مالك دياو، وساديو كامارا، تلقا تدريبات في روسيا منذ يناير/كانون الثاني 2020، في إطار اتفاقية التعاون العسكري بين موسكو وباماكو الموقعة في 2019، وبعد فترة قصيرة من عودتهما إلى مالي أطاحا في 18 أغسطس/آب الماضي، برجل فرنسا في البلاد.
وليس من المستبعد أن يصل مرتزقة فاغنر إلى مالي، في حال إنهاء فرنسا مهمة برخان، في إطار الاتفاقية العسكرية الموقعة بين باماكو وموسكو، هذه الأخيرة التي تسعى لاسترجاع نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق في المنطقة.
كما أن الصراع الروسي الفرنسي بغرب إفريقيا يمتد إلى شمالها، حيث تعتبر باريس إقليم فزان في الجنوب الغربي الليبي جزءاً من مربع نفوذها التاريخي، ووصول مرتزقة فاغنر إلى آبار النفط في المنطقة (حقلي الشرارة والفيل) أثار حفيظة باريس.
ففزان يعتبر المدخل الشمالي لمنطقة الساحل الذي تستخدمه الجماعات المسلحة كقاعدة خلفية لاستهداف المصالح الغربية ودول المنطقة، ووصول روسيا إلى الإقليم يعني تهديداً للنفوذ الفرنسي.
وتكفي الإشارة إلى أنه ما بين 2014 و2019، وقعت روسيا 19 اتفاقية تعاون عسكري تقني مع الدول الإفريقية، بحسب إذاعة فرنسا الدولية نقلاً عن دراسة روسية، لتوضيح صورة حجم التعاون الروسي الإفريقي من البوابة العسكرية، وتناميه في الأعوام الأخيرة، في ظل تصاعد التهديدات الأمنية بالقارة (إرهاب، تمردات، انقلابات..).
الصين
بأقل ضجيج، تتوغل الصين في إفريقيا لفرض هيمنتها بفضل اقتصادها الهائل، الذي يعادل نحو 7 أضعاف الاقتصاد الفرنسي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2019، ما يثير قلق الفرنسيين.
فإذا كان التحدي الروسي لفرنسا في إفريقيا يرتكز على التعاون الأمني والعسكري مع الأفارقة، فإن التهديد الصيني لباريس يقوم على التعاون الاقتصادي، من خلال الاستثمار المباشر خاصة في قطاع النفط، والتبادل التجاري، والقروض والمساعدات المالية.
وأهم نقطة تتفوق فيها بكين على باريس، أنها لا تخلط بين السياسة والأعمال، ولا تحشر أنفها في السياسات الداخلية للدول الإفريقية، مما يجعلها خياراً محبباً لهذه الدول.
وهذا ما عبر عنه الرئيس السنغالي الأسبق عبدالله واد، عندما قال "إن فهم الصين لاحتياجاتنا أفضـل من الفهم البطيء والمتغطرس في بعض الأحيان للمستثمرين الأوروبيين، والمنظمات المانحة، والمنظمات غير الحكومية".
غير أن فرنسا تملك ورقة ضغط اقتصادية تفرض بها هيمنتها على دول غرب ووسط إفريقيا، وتعيق توغل طريق الحرير الصيني في أدغال إفريقيا البعيدة.. إنها الفرنك الإفريقي المرتبط باليورو، وتحت إشراف فرنسا، والتي تضمن رسمياً قابليته للتحويل.
إذ إن الصين مضطرة للمرور عبر البنك المركزي الفرنسي قبل أن تدخل رؤوس أموال إلى البلدان الإفريقية التي تتعامل بعملة فرانك غرب إفريقيا أو فرانك وسط إفريقيا.
وتضغط عدة نخب إفريقية من أجل التحرر من هذا النظام النقدي الذي يعود لفترة ما بعد الاستعمار الفرنسي، الذي عمد إلى ربط اقتصاديات 14 دولة من مستعمراته السابقة بنظامه الاقتصادي، وانضمت الصين إلى هذه الدعوات.
واستجابت باريس لبعض هذه المطالب، عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لكوت ديفوار في ديسمبر/كانون الأول 2019، أنه لن يُطلب من الدول الثماني التي تتعامل بفرانك غرب إفريقيا (بنين وبوركينافاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو) وضع 50% من عملاتها في الخزانة الفرنسية.
ويخدم هذا التطور استراتيجية الصين في توسيع استثماراتها بغرب إفريقيا، رغم أن الإصلاحات النقدية لا تشمل الدول التي تتعامل بفرانك وسط إفريقيا (الكاميرون والكونغو، وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو الديمقراطية).
فتراجع نفوذ فرنسا الخارجي، وتكتل دول غرب إفريقيا ضمن المجموعة الإفريقية لغرب إفريقيا (إيكواس) التي تضم دولتين مهمتين ناطقتين بالإنجليزية هما نيجيريا وغانا، يتيح للصين إقامة شراكات أعمق مع دول القارة.
وفي جيبوتي، المستعمرة الفرنسية السابقة بأقصى شرق إفريقيا، لم تكتف الصين بتطوير علاقاتها الاقتصادية معها بل أنشأت بها أول قاعدة عسكرية لها في إفريقيا، على مدخل مضيق باب المندب، غير بعيد عن القواعد الفرنسية والأمريكية بنفس البلد.
القوة الناعمة لتركيا في مواجهة الثقل الاستعماري لفرنسا
تمثل تركيا القوة الثالثة التي تخشاها فرنسا على مصالحها بإفريقيا، ووجه ماكرون سهامه مباشرة إلى تركيا عندما اتهمها في حوار صحفي بـ"اللعب على حساسيات المرحلة ما بعد الاستعمارية".
حيث لطالما ذكّرت أنقرة باريس بماضيها الاستعماري في إفريقيا، والذي له حساسية لدى شعوب القارة.
الاهتمام التركي بإفريقيا انطلق بالتدرج، منذ 2005، عبر المساعدات الإنسانية التي تقدمها وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التي بلغ عدد مكاتبها في القارة 22 مكتباً، وعدة منظمات أخرى مثل الهلال الأحمر التركي وهيئة الإغاثة الإنسانية "IHH"، خاصة في بناء المستشفيات والمدارس والمساجد وحفر الآبار وتوفير الغذاء.
وتخرّج آلاف الطلبة الأفارقة في الجامعات التركية ضمن برنامج المنح التركية، فضلاً عن إدارة وقف المعارف التركي 144 مؤسسة تعليمية في جميع أنحاء إفريقيا.
المرحلة الثانية تركزت على تكثيف التعاون الدبلوماسي والاقتصادي، حيث زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معظم بلدان غرب إفريقيا ووسطها، وبلغ إجمالي الزيارات رفيعة المستوى إلى الدول الإفريقية ما بين 2015 و2019 فقط، أكثر من 500 زيارة.
وارتفع عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 في 2002 إلى 42 في 2020، فيما ارتفع عدد سفارات الدول الإفريقية لدى أنقرة إلى 36، بعدما كان 10 بداية 2008، بحسب مقال لوزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، نشرته وسائل إعلام إفريقية، ووكالة الأناضول التركية.
وتضاعفت التجارة البينية 6 مرات ما بين 2001 و2019، وارتفع عدد رحلات الخطوط الجوية التركية إلى المدن الإفريقية من 4 إلى 60 رحلة، في نفس الفترة، كما ضاعفت تركيا استثماراتها بالقارة الإفريقية.
المرحلة الثالثة، التي انطلقت منذ توقيعها اتفاقية أمنية مع حكومة الوفاق الليبية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وتميزت باستخدام تركيا قوتها الصلبة، وتمكنت من إنقاذ حلفائها في غرب ليبيا من الانهيار أمام ميليشيات الشرق الليبي المدعومة فرنسيا، أثبت السلاح التركي تفوقه على أسلحة منافسة، وكان لذلك صداه في عدة دول، خاصة الإفريقية منها.
فلم يكن يفصل ميليشيات الشرق عن قلب طرابلس في نهاية 2019 سوى نحو 6 كلم، ومع مطلع يناير/كانون الثاني 2020، تمكنت قوات حكومة الوفاق بدعم تركي واضح من طرد ميليشيات الشرق، بعيداً عن وسط العاصمة، وحررت معسكرات استراتيجية أهمها مقر قيادة الأركان.
وفي مرحلة تالية استطاعت أجهزة التشويش التركية ومنظومات الدفاع الجوي تحييد سلاح الطيران الحربي والطائرات بدون طيار فوق سماء العاصمة، قبل أن تدخل طائرات بيرقدار المسيرة المعركة بكثافة، وتقصف خطوط إمداد حفتر الطويلة الممتدة على طول ألف كيلومتر.
وبفضل طائرات بيرقدار تم تحرير مدن الشريط الساحلي غرب طرابلس بأكمله خلال ساعات فقط، وخاضت هذه الطائرة المسيرة معركة شرسة في منطقة أبوقرين (جنوب مدينة مصراتة/ 200 كلم شرق طرابلس) ضد طائرات وينغ لونغ الصينية التابعة لحفتر، وانتصرت عليها.
ثم استهدفت بيرقدار منظومات الدفاع الجوي الروسية متوسطة المدى من طراز بانتسير، ودمرت أغلبها، ولأول مرة تتمكن الحكومة الليبية من تسيد سماء المعركة بعدما كان سلاح الطيران نقطة التفوق الرئيسية لميليشيات الشرق.
وتدخلت السفن الحربية التركية، بحسب مصادر إعلامية، في قصف قاعدة الوطية الجوية (140 كلم غرب طرابلس)
إذ سمحت الحرب في ليبيا لتركيا بتحويل قاعدة الوطية الجوية، وكذلك ميناء وقاعدة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) إلى نقطة ارتكاز لقواتها في شمال إفريقيا.
الأمر الذي اعتبرته فرنسا تهديداً مباشراً لمناطق نفوذها في إقليم فزان جنوباً، يعتقد محللون أن قصف قاعدة الوطية، في يوليو/تموز 2020، تم عبر طائرات فرنسية.
وحاولت فرنسا الضغط على تركيا عبر حشد حلفائها الأوروبيين من خلال إطلاق عملية "إيريني" البحرية، لمراقبة حظر الأسلحة إلى ليبيا، لكن الهدف الرئيسي كان منع أنقرة من تزويد حكومة الوفاق الليبية بالسلاح.
وكاد الأمر أن يتحول إلى مواجهة بحرية بين تركيا وفرنسا، في البحر الأبيض المتوسط، بسبب محاولة السفن الفرنسية تفتيش سفن تركية متوجهة إلى ليبيا.
ففرنسا كانت تحاول باستماتة منع تركيا من أن يكون لها موطئ قدم في شمال إفريقيا، لأن وصولها إلى ليبيا يعني أنها أصبحت بمحاذاة مناطق نفوذها في الساحل، وعبثاً حاولت باريس حشد دول الجوار الليبي ضد تركيا، خاصة أن أهدافها كانت مكشوفة للجميع.
لكن فرنسا تعاني من حرب استنزاف في دول الساحل الإفريقي الخمس (النيجر، مالي، بوركينافاسو، تشاد، وموريتانيا) وتسعى للخروج من هذا المستنقع، وقد تكون تركيا أحد البدائل المطروحة أمام دول المنطقة لمواجهة التهديد الوجودي للجماعات المسلحة.
وفي هذا الصدد، وقَّعت تركيا والنيجر، في يوليو/تموز 2020، اتفاقية تعاون في مجال التدريب العسكري، ما يُمهد لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين، رغم أن النيجر تحتضن قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية.
وتشكل مالي إحدى مناطق النفوذ الفرنسية الرخوة في إفريقيا، والتي تواجه فيها رفضاً شعبياً وخسائر بشرية ومادية في حربها ضد الجماعات المسلحة، قد يدفعها للانسحاب منها تدريجياً، ويمكن حينها أن تفعّل تركيا قوتها الصلبة لدعم مالي وحتى بوركينافاسو عسكرياً، لمنع سقوطهما أمام ضربات الجماعات الإرهابية.
فتركيا دولة مسلمة وليس لها تاريخ استعماري في المنطقة مثل فرنسا، التي أدى تدخلها إلى تقوية الجماعات الإرهابية بدل إضعافها، لأنها تستغل المشاعر القومية والإسلامية لحشد قبائل المنطقة ضد "المحتل الفرنسي السابق"، الذي حاول محو هويتها الدينية والوطنية.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل التركي محمد أوزكان، في موقع ميدل إيست آي "ظلت تركيا تراقب مالي منذ الانقلاب السابق في عام 2012، وأقامت روابط مع مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع المدني. لكن قبل أن تتخذ أنقرة إجراءات في مالي أو تتدخل في أي أزمة أخرى في غرب إفريقيا، يجب عليها أولاً إنهاء وضع الأسس الإقليمية".
وتجد فرنسا نفسها عاجزة عن مواجهة قوى كبيرة بحجم روسيا والصين وتركيا، ناهيك عن حلفائها الأمريكيين والألمان، بالإضافة إلى دول الخليج الغنية كالسعودية والإمارات وقطر، ويطاردها ماضيها الاستعماري، ما يجعلها منبوذة في المنطقة، فلم يعد الزعماء الأفارقة يؤمنون بأن مصيرهم بيد باريس، مع وجود حلفائهم الجدد.