تمر العلاقات التركية الأوروبية بشد وجذب منذ فترة طويلة، بسبب الكثير من الملفات المعقدة بينهما، أبرزها ملف اللاجئين، كما تتوتر العلاقة بشكل كبير بين أنقرة وباريس منذ وقت بعيد، لكن يبدو أن الفترة المقبلة قد تشهد تحولاً في هذه المواقف.
ففي تصريح مفاجئ للرئيس رجب طيب أردوغان تحدث عن مسار جديد لبلاده مع الاتحاد الأوروبي، وفي محاولة لرسم ملامح هذا المسار يمكن استعراض مستجدات العلاقات التركية الأوروبية على النحو التالي:
تصريح الرئيس
أردوغان قال في ردّه على سؤال لأحد الصحفيين عقب صلاة الجمعة (15 /1/ 2020) بمدينة إسطنبول حول المباحثات الاستكشافية مع اليونان، والعلاقات التركية الأوروبية "إن الاتحاد الأوروبي لم يفِ بعد بأي من الوعود التي قدّمها لتركيا، وإن الطرفين دخلا مساراً جديداً في العلاقات" وأضاف أن تركيا تسعى منذ عام 1968 إلى ضمان مواصلة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في مسار إيجابي، واليوم للأسف دخلنا في مسار جديد".
لا يمكن التعامل مع هذا التصريح الصادر عن الرئيس التركي إلا بمستوى رفيع من الجدية والاهتمام، وفي هذا السياق سيتم استعراض مستجدات العلاقة التركية الأوروبية، وأبرز اللقاءات والاتصالات والتصريحات من جانب كافة الأطراف محل الاهتمام لاستجلاء مظاهرها والتعرف على مساراتها الحقيقية، والبحث في تفسير لهذا التصريح الرئاسي التركي.
العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي
عقد متحدث المفوضية الأوروبية بيتر ستانو مؤتمراً صحفياً بالعاصمة البلجيكية بروكسل، بتاريخ 15 /1/ 2021 تطرّق فيه إلى العلاقات الأوروبية التركية، معرباً عن رغبة الاتحاد الأوروبي في بناء علاقات مع تركيا قائمة على الربح المتبادل، مؤكداً الحاجة إلى حوار بنّاء بين الطرفين، ولفت إلى أن تركيا والاتحاد الأوروبي يتمتعان بشراكة في العديد من المجالات، مضيفاً "نريد تأسيس وضع يقوم على الربح المتبادل"، وثمّن ستانو التصريحات الإيجابية القادمة من تركيا مؤخراً عن رؤية مستقبلها مع أوروبا، مستدركاً "لكن في الوقت نفسه ما يهمنا هو الحقائق والإجراءات والجهود المبذولة للحد من التوتر وإقامة حوار بناء مع أعضاء الاتحاد الأوروبي"، وقد تكون الإشارات الإيجابية التي قصدها متحدث المفوضية هي اجتماع الرئيس التركي مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي في أنقرة بتاريخ 12 /1/ 2021، والتي أشار خلاله إلى "أن تركيا وأوروبا تتشاركان نفس الجغرافيا منذ ألف عام، وأن التاريخ التركي لا يمكن قراءته دون أوروبا، كذلك تاريخ أوروبا لا يمكن فهمه من دون الأتراك" وأضاف: "نحن كشعب نرى مستقبلنا مع أوروبا، ومنذ 60 عاماً نكافح من أجل نيل العضوية، ورغم الظلم وسياسات الكيل بمكيالين التي تعرضنا لها، لم نحِد عن هدفنا النهائي بنيل العضوية" كما يعد من المؤشرات الأساسية على بدء صفحة جديدة بين الجانبين المباحثات الثنائية بين تركيا والدول الأوروبية، وخصوصاً مع اليونان، وهو الموضوع الذي يحظى بدعم وثناء معظم الدول والمؤسسات الأوروبية، وعدد من الدول الأوروبية، ومن بينها إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، والتي ستتولي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
يأتي هذا الموقف بعدما كان الاتحاد الأوروبي قد فرض عقوبات على أفراد وكيانات تركية، مفسراً إياها بأنها صدرت على خلفية تصرفات تركيا "غير القانونية والعدوانية" في البحر المتوسط ضد أثينا ونيقوسيا، حسبما قال متحدث باسم المجلس الأوروبي، وبينما اعتبرت اليونان أن الموقف الأوروبي خطوة تمثل تحذيراً قوياً لتركيا لتُغير سلوكها، رفضت أنقرة قرار الاتحاد الأوروبي، معتبرة أنه "منحاز وغير قانوني، وإن كان لاحقاً لم يتم تنفيذه، بل إن الاتحاد الأوروبي صرف بتاريخ 17 /12/ 2020 مساعدات مالية لتركيا بقيمة 6 مليارات يورو مقابل استقبالها للاجئين، تنفيذاً لبنود المعاهدة الموقعة بين أنقرة وبروكسل في 2016 بشأن المهاجرين.
العلاقات التركية اليونانية
أفادت وزارة الخارجية التركية في بيان لها بتاريخ 11/ 1/ 2021 أنه ستعقد الجولة الحادية والستون من المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان في إسطنبول، بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2021، من ناحية أخرى أشارت العديد من وسائل الإعلام إلى أن أنقرة وأثينا بصدد عقد لقاءات تقنية على المستوى العسكري خلال الأيام القليلة المقبلة، بعدما اتفقتا مؤخراً على عقد محادثات استكشافية لحل خلافهما بشأن حدودهما البحرية، وأكدت مصادر عسكرية تركية أنه من المقرر أن تعقد اللقاءات التقنية العسكرية بين الطرفين في مقر حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) بالعاصمة البلجيكية بروكسل، وكلا البلدين عضو في الحلف، وتتطرق اللقاءات التقنية العسكرية بين اليونان وتركيا إلى الجوانب المتعلقة بتأسيس آليات لتجنب حدوث مناوشات بينهما شرق البحر المتوسط، فقد أجرت قوات البلدين تمارين عسكرية خاصة بكل منها مع شركاء إقليميين، وتصادم زورقان حربيان لهما في أغسطس/آب الماضي، بالمقابل فإن المحادثات السياسية الاستكشافية (التمهيدية) بين الجانبين تسعى لإيجاد حل الخلاف بشأن السيادة على مناطق شرق المتوسط يطالب بها كل طرف.
العلاقات التركية الفرنسية
في تغير واضح لمسار العلاقات بين البلدين في الفترة السابقة كشف وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، الجمعة 15 يناير/كانون الثاني 2021، أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعث برسالة إيجابية قبل يومين لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، "بدأها بتحية تركية مكتوبة بخط يده"، وكانت فرنسا في الفترة السابقة تحاول التأثير على دول الاتحاد الأوروبي لتوقيع عقوبات قاسية على تركيا، كما أنه حدث ما يشبه التلاسن بين الرئيسين الفرنسي والتركي، بعدما اتهم أردوغان ماكرون بأنه "في حال موت دماغي"، رداً على تصريحات للأخير انتقد فيها عملية "نبع السلام" العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا.
العلاقات التركية الألمانية: أفادت وزارة الخارجية التركية بتاريخ 16 /1 / 2021 أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس سيقوم بزيارة عمل إلى تركيا في 18 يناير/كانون الثاني 2021، ومن المتوقع خلال الزيارة استعراض القضايا الثنائية والإقليمية، وكذلك العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وكانت ألمانيا قد لعبت دوراً مشهوداً في الفترة الماضية في الحفاظ على أواصر التعاون مع تركيا، وعدم تصعيد الأمور بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وقد حرصت تركيا على الإشادة بالدور الألماني أكثر من مرة، ووصفها بأنها واحدة من الدول الحكيمة في الاتحاد.
العلاقات التركية الإيطالية
تتميز العلاقات التركية الايطالية بحالة من التنسيق، برزت بصور واضحة في الملف الليبي، إضافة إلى الدعم غير المحدود الذي تقدمه إيطاليا لتركيا في الاتحاد الأوروبي، وقد عبرت مكالمة هاتفية رسمية بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء الإيطالي بتاريخ 15 /1 / 2021 عن سمات هذه العلاقة، حيث تم التأكيد على الرغبة في عقد القمة الثالثة بين حكومتي البلدين في تركيا، ونقل البيان الصادر عن دائرة الاتصال بالرئاسة التركية "شكر أردوغان لروما إزاء دعمها أنقرة، معرباً عن ثقته بأن إيطاليا ستوجه الاتحاد الأوروبي إلى انتهاج موقف حكيم وعادل شرقي البحر المتوسط".
العلاقات التركية الإسبانية
رحبت وزارة الخارجية الإسبانية بقرار تركيا واليونان استئناف المحادثات الاستكشافية مجدداً في 25 يناير/كانون الثاني الحالي، وقالت الوزارة في بيان في 15 يناير/كانون الثاني: "إسبانيا تدعم بشكل فعال جهود تشجيع الحوار في شرقي البحر المتوسط"، وأعربت الوزارة عن اعتقادها أن المحادثات المذكورة ستسهم في الاستقرار وإحراز تقدم للحد من التوتر في المنطقة، وتحقيق ازدهار مشترك. يذكر أن وزير الخارجية التركي قد زار إسبانيا مؤخراً، وقدم الشكر لإسبانيا على دعمها لبلاده في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، مؤكداً أن "المواقف الحكيمة لبعض الدول مثل إسبانيا في تلك الظروف العصيبة، ساهمت في التوجه للحوار بدل التصعيد".
أسباب الخلافات بين تركيا والاتحاد الأوروبي
على الرغم من أن العنوان الأساسي لهذه الخلافات هو اليونان، وأن تركيا تقوم بالتنقيب وتعتدي على الحقوق الإقليمية لكل من أثينا ونيقوسيا، بالإضافة للخلافات حول قضايا اللاجئين، والتي ترى تركيا أن الاتحاد الأوروبي لم يفِ بوعوده بدعمها في هذه القضية وفقاً للاتفاقيات التي تم توقيعها بين الجانبين عام 2016، إلا أن هناك أسباباً أخرى هي السبب في هذه الخلافات، وعلى سبيل المثال فإن الخلافات مع فرنسا بالأساس جوهرها التدخل التركي في كل من ليبيا وسوريا، بالإضافة إلى أن العداء تنامى حول تركيا داخل أوروبا بعد تدخلها في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، حتى إنه كانت هناك دعوات أوروبية للتدخل المسلح في هذا الصراع، وقد أثارت هذه الدعوات استياء الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لمطالبة بعض نواب البرلمان الأوروبي بالتحرك ضد تركيا وأذربيجان، ولاحقاً أكد بشكل قاطع أن الاتحاد يعارض حل الخلافات بالوسائل العسكرية ويفضل اللجوء إلى التعاون والسبل الدبلوماسية.
التهديد بمسار سلبي لا يتناسب مع واقع العلاقات التركية الأوروبية: محاولة للتفسير
ترسم هذه التفاعلات من تصريحات وزيارات واتصالات بين المسؤلين الأتراك والأوربيين ملامح عامة لتطور العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بصورة إيجابية، وذلك على النحو التالي:
– كثفت تركيا والدول الأوروبية من اتصالاتها المشتركة، خلال شهر يناير/كانون الثاني، في محاولة لاستعادة مناخ العلاقات الإيجابية بين الطرفين، خصوصاً أن هناك العديد من الملفات التي لا يمكن حلها إلا بالتعاون بينهما، وخصوصاً ملف الغاز، وعدد من الملفات الإقليمية التي تحظى بالاهتمام المشترك في ظل التأثير الكبير الذي باتت تمثله تركيا في الوقت الراهن، وكانت هذه الخطوة قد بدأها الرئيس التركي في تواصله مع العديد من المسؤولين الأوروبيين في النصف الثاني من الشهر الماضي، حيث أكد لكل من المستشارة الألمانية ورئيس المجلس الأوروبي أن تركيا تريد فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وقد عاد وأكد ذلك مع بداية العام الجديد في لقاء افتراضي مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين، يوم السبت 9 يناير/كانون الثاني، مشدداً على أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من الأولويات السياسية لأنقرة، مؤكداً على أهمية استئناف القمم الدورية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ويعد ذلك من مؤشرات سعي تركيا لأن تكون سياساتها تنسيقية مع القوى الدولية، عكس العام الماضي الذي غلبت عليه المواجهة.
– هناك اهتمام تركي كبير بعقد قمم تركية أوروبية سواء مع ايطاليا أو إسبانيا أو البرتغال أو اليونان، حيث يأمل الجانب التركي أن يتجاوز تراجع العلاقات الذي شهدته عام 2020، ومنذ بداية العام الجاري فإن كثافة العلاقات مع أوروبا تنبئ بأن هناك توجهاً تركياً خاصاً بأوروبا هذا العام، ويأملون أن ينتهوا منه قريباً.
– لم يكن توجيه تركيا الشكر لكل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا مجرد مجاملات دبلوماسية، وإنما هذه الدول الثلاث لعبت دوراً ملحوظاً في الحيلولة دون اتخاذ الاتحاد الأوروبي خطوات تصعيدية مؤثرة ضد تركيا، وحالت دون تنفيذ المخطط الفرنسي اليوناني للإضرار بتركيا، ودفعت باتجاه منح الدبلوماسية مزيداً من الوقت.
– قد يكون إعلان تركيا الانتهاء من خط "تاناب" الاستراتيحي الذي سينقل الغاز الطبيعي الأذربيجاني إلى أوروبا عبر أراضي تركيا، من العوامل التي ستؤدي إلى التهدئة بين أوروبا وتركيا هذا العام.
ومن ثم فإن التناقض الذي قد يبدو بين تصريح الرئيس التركي بمسار جديد، وتصريحاته في مواقف أخرى، بالإضافة لتحركات وزير خارجيته يعود إلى أن الرئيس التركي لا يعتبر مثل هذه التطورات حقيقية، مادامت لم تصل للنتائج المرجوة بعد، فهو مازال واقفاً في مربع تزايد الخلافات مع أوروبا، فالتصريح الذي أدلى به مؤخراً لا يختلف عن ذلك الذي أدلى به مطلع الشهر الماضي، حينما كان الاتحاد الأوروبي يبحث فرض عقوبات على تركيا، حيث أكد أن "الاتحاد الأوروبي لم يتعامل قط بنزاهة، ولن يفي بوعوده (لتركيا)، لكننا كنا دائماً نتحلى بالصبر وما زلنا نفعل".
في النهاية قد يكون تصريح أردوغان حول المسار السلبي مع الاتحاد الأوروبي بمثابة تحريك للمياه الراكدة، وتسريع لوتيرة استئناف العلاقات بين الجانبين، حيث يذكرهم بأنه قد خاض غمار المواجهة من قبل، ويمكن له أن يخوضها من جديد إن لم تكن استجابتهم مناسبة لتوجه التنسيق الذي تسعى إليه تركيا مع بداية العام الجديد، أو بمثابة توزيع أدوار بين الإدارات التركية المسؤولة عن السياسة الخارجية، في إطار التأكيد على أن سياسة تركيا مفتوحة، ويمكن لها اللجوء إلى الخيار الذي يناسبها.