في عام 1976، بعد عام من حصوله على جائزة نوبل للسلام لكونه "المتحدث باسم ضمير البشرية"، صنفت المخابرات السوفييتية أندريه ساخاروف على أنه "العدو المحلي الأول"، واليوم يخشى الكرملين أن يتحول المعارض الروسي أليكسي نافالني إلى مانديلا روسيا أو ساخاروف جديد.
وبالفعل الكرملين اليوم يعتبره أكبر عدو محلي له. كما هو الحال مع العالم النووي قبل نصف قرن، فإن معاملة السيد نافالني من قِبل الحكومة الروسية أدت فقط إلى رفع مكانته كرمز للمكافحين للقمع، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
ولكن مثلما كان جهاز المخابرات السوفييتية (KGB) قلقاً بشأن تأثير ساخاروف، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخشى أن يتمكن نافالني من حشد الرأي ضد نظامه الاستبدادي المتزايد إذا ما خفف وطأة القمع عنه.
لماذا لم يخفِ بوتين المعارض الروسي أليكسي نافالني كما فعل مع بقية معارضيه؟
منذ أن ظهر أليكسي نافالني على الساحة معارضاً رئيسياً لفلاديمير بوتين قبل أكثر من عقد من الزمان، بذل الكرملين قصارى جهده لإخماد شعلته، وتضمن ذلك إجراءات قمعية عدة، منها تقييده في قاعات المحاكم، وحبسه قيد الإقامة الجبرية، وحتى احتجاز شقيقه كرهينة عند النظام من خلال الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة.
ومع كل ذلك، يبدو أن القرار كان قد اتُّخذ أخيراً بالتخلص منه نهائياً، وعلى هذا النحو جاءت محاولة اغتياله المزعومة على يد "جهاز الأمن الفيدرالي الروسي" (FSB).
غير أنه مع فشل العملية وإصرار نافالني على تحدي النظام بالعودة إلى موسكو، عادت معضلة بوتين المتعلقة بكيفية التصرف مع أحد أكثر معارضيه قوة وفاعلية، وفقاً لصحيفة The Guardian البريطانية.
وحتى تسميمه العام الماضي، سعت السلطات إلى احتوائه بالمضايقات والاعتقالات المتكررة والاعتقالات القصيرة واستبعاد الأهلية من المنصب.
فلطالما تردد الكرملين في أمر واحد: هو الحكم على نافالني بفترات سجن طويلة وصعبة كتلك التي فرضها على بعض المعارضين، مثل الحكم الذي صدر ضد رجل الأعمال المعارض ميخائيل خودوركوفسكي، بالسجن لنحو عشر سنوات، والذي أصبح أحد أكثر قرارات بوتين مصيرية وتداعيات منذ توليه السلطة.
لكن باعتقال نافالني بمطار شيريميتييفو الدولي في موسكو بمجرد وصوله يوم الأحد 17 يناير/كانون الثاني، يبدو أن الكرملين على استعداد لتغيير استراتيجيته المعتادة، والسعي إلى إقصاء نافالني إلى الأبد.
الآن من المحتمل أن يحبسوه فترة طويلة، عند وصوله يوم الأحد، بعدما تم القبض عليه لانتهاكه شروط عقوبة مع وقف التنفيذ بتهمة الاحتيال، التي تقول المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إنها ملفقة.
لم يكن ثمة شك في أن نافالني، الذي نجا من محاولة اغتياله بالسم الصيف الماضي ثم ساعد في كشف العملاء الذين وقفوا وراء العملية، سيتم اعتقاله فور عودته إلى روسيا قادماً من ألمانيا.
وقالت إدارة السجون في موسكو، إن لديها أوامر باحتجاز نافالني فور رؤيته، بتهمة انتهاك الإفراج المشروط، وهي تهمة يُحتمل أن تصل عقوبتها إلى السجن ثلاث سنوات ونصف السنة. وأشار المحققون إلى أنهم قد يرفعون قضية احتيال قد تصل عقوبتها إلى 10 سنوات. ومع ذلك فإن المخاطر المتزايدة المحيطة بالمعارض الروسي بدأت تستدعي تشابهات مع المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا.
هل يبقونه في السجن؟
ومع ذلك، فإن السؤال الحقيقي عما سيحدث لنافالني الآن، سيعتمد على ما يعتقده المسؤولون الروس، في ما يتعلق بإمكانية الإفلات من أي عاقبة وتمرير الأمر دون إثارة رد فعل شعبي.
وبعض هؤلاء المسؤولين محرج شخصياً من التحقيقات التي تجرى مع زعيم المعارضة.
وفي هذا السياق، كتبت تاتيانا ستانوفويا، وهي محللة سياسية ومؤسسة شركة "ر بوليتيك"، أن "أول القرارات السياسية المهمة بشأن الأمر يتعلق بمدة احتجازه"، وأشارت إلى أن "بعض المسؤولين يرون أن الحل المثالي هو إبقاء نافالني في حالة خوف دائم من السجن لسنوات عديدة، لكن من دون إصدار حكم عليه بالسجن فترة طويلة في وقت واحد".
يخافون من مظاهرات مؤيديه كما حدث سابقاً
جهاز الأمن الفيدرالي وغيره من أفراد الجناح المتشدد في النظام الروسي، من المرجح أن يدفعوا باتجاه إجراءات أشد قسوة، حسب ستانوفويا.
ومع ذلك فإن احتمال اندلاع احتجاجات بالشوارع بين الشباب الروسي البارع في استخدام التقنيات الرقمية والذي يحظى نافالني في أوساطه بشعبية كبيرة، كلها عوامل قد يكون لها دور في تشكيل النقاش حول الأمر.
لقد أنقذت الاحتجاجات الجماهيرية نافالني من السجن من قبل، ففي عام 2013، عندما شن بوتين حملة قمع ضد المظاهرات التي اشتعلت احتجاجاً على تزوير الانتخابات وعودته إلى الكرملين، حُكم على نافالني بالسجن لمدة 5 سنوات، بتهمة اختلاس أموال من شركة أخشاب في منطقة كيروف الروسية.
غير أن نافالني أُطلق سراحه بإفراجٍ تحت المراقبة في اليوم التالي، إثر التظاهرات التي خرجت في الشوارع المحيطة بالكرملين وتعطيلها للمرور، وما نجم عن ذلك من إحراج قبل أقل من عام واحد على موعد استضافة روسيا دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي. وحينها، برهن ذلك التحول في الأحداث على ما كان يعرفه كثيرون بالفعل: قرارات المحاكم الروسية تعتمد على الاعتبارات السياسية.
ولكن روسيا تغيرت
ومع ذلك، فقد تغيرت روسيا منذ ذلك الحين، وبات الكرملين أقل تسامحاً مع سياسات المعارضة، كما أن الصراع المتزايد مع الغرب ترك مساحة أقل لخصوم بوتين المحللين، علاوة على أن قرار تسميم نافالني، الصيف الماضي، كشف أن الكرملين قد سئم من تحقيقات الناشط الروسي وحملاته التي يرى أنها تصب في مصلحة معارضي النظام.
في المقابل، قد يؤثر رد الفعل الاحتجاجي في الانتخابات البرلمانية الروسية التي تجري في وقت لاحق من هذا العام، خاصةً أن نافالني وزملاؤه النشطاء نظموا حملات ناجحة بشكل مفاجئ في الانتخابات المحلية. وكانوا يحشدون الدعم لأي مرشح قادر على التغلب على شاغلي المناصب من الحزب الحاكم الذي يتزعمه بوتين، الذي عانى انخفاضاً بشعبيته إلى مستويات متدنية قياسية في الأشهر الأخيرة.
غير أن بوتين قد حقق بالفعل أحد أهدافه المحلية الأشد طموحاً: تمرير تعديلات دستورية جديدة تسمح له بالبقاء في الرئاسة حتى عام 2036.
ولم يعودوا يخشون العقوبات الأمريكية ويراهنون على الطقس
وفي حين أنه من المرجح أن تؤدي المحاكمة لشخصية بارزة مثل نافالني إلى عقوبات جديدة من الغرب، فإن كثيرين في المؤسسة الروسية يرون هذه العلاقات بالفعل على أنها قضية خاسرة لا تستحق مراعاتها.
إضافة إلى ذلك، فإن الطقس البارد وإجراءات مكافحة كورونا قد تساعد أيضاً الكرملين في قمع الاحتجاجات، التي يمكنه دائماً حظرها عن طريق التحذير من انتشار كورونا. والخلاصة أنه لأسباب عديدة، قد يقرر الكرملين أن وقت التعامل الحاسم مع نافالني قد حان الآن.