ما الذي أراد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب من دعوته لأنصاره التوجه إلى مبنى الكونغرس أثناء جلسة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة؟ هل كان يسعى لوقف التصديق ومن ثم البقاء في البيت الأبيض؟
أحداث يوم خطط له ترامب قبل أكثر من 3 أسابيع
خلال أقل من 12 ساعة من الأحداث الدرامية غير المسبوقة في الولايات المتحدة، شاهد الأمريكيون والعالم السيناريو الكارثي الذي حذر منه غالبية المراقبين منذ خسارة ترامب للانتخابات وفوز جو بايدن يقترب بشدة وتحقق جزئياً ولو لفترة وجيزة عندما نفذ أنصار الرئيس الجمهوري دعوته وتوجهوا إلى مقر الكونغرس.
قال ترامب لأنصاره الذين جاؤوا إلى العاصمة واشنطن الأربعاء 6 يناير/ كانون الثاني -تزامناً مع جلسة الكونغرس للتصديق على فوز بايدن- ضمن ما قال: "لن نستسلم أبداً ولن نعترف بالهزيمة. سنوقف السرقة". وفي مرحلة أخرى من خطابه قال: "دعونا نتوجه إلى الكونغرس لندعم الأعضاء الجمهوريين ونجعلهم أكثر شجاعة"، بعد أن شن هجوماً على قادة الجمهوريين ووصفهم بأنهم "ضعفاء ومثيرون للشفقة".
وكان ترامب قد وجه رسالة مباشرة لنائبه مايك بنس عبر حسابه على موقع تويتر: "الولايات تريد تصحيح أصواتها، والتي تدرك الآن أنها تستند إلى مخالفات وتزوير. كل ما على مايك بنس فعله هو إعادتها (النتائج) إلى الولايات. ونحن سنفوز. افعلها يا مايك، هذا هو وقت الاستبسال!".
ومن المهم هنا أن نتذكر أن ترامب كان قد دعا أنصاره لتلك المظاهرة التي وصفها بأنها ستكون "جامحة" منذ يوم 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد نحو أسبوع من إعلان المجمع الانتخابي فوز بايدن بـ306 أصوات مقابل 232 فقط لترامب.
وقال ترامب نصاً في تلك التغريدة: "من المستحيل إحصائياً أن أكون خسرت انتخابات 2020. ستكون هناك مظاهرة ضخمة في العاصمة يوم 6 يناير/كانون الثاني. كونوا هناك. ستكون جامحة!".
وهذا بالضبط ما حدث، لبى أنصار ترامب النداء وحضر نحو 30 ألفاً منهم إلى العاصمة واشنطن وتوجهوا إلى مبنى الكونغرس تزامناً مع بدء الجلسة المشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب برئاسة بنس للتصديق على فوز بايدن، ثم اقتحموا المبنى وعاثوا فساداً وتخريباً في قاعات الكونغرس واعتدوا على أفراد الأمن وتسببوا في إيقاف جلسة التصديق.
وسقط أربعة قتلى وأصيب العشرات من رجال الأمن وألقي القبض على العشرات من أنصار ترامب وشهدت الولايات المتحدة والعالم أجمع مشاهد الفوضى والعنف فيما وصفه الكثيرون بأنها محاولة انقلاب على الديمقراطية غير مسبوقة في تاريخ البلاد في العصر الحديث.
لكن، وكما كان متوقعاً، تمت السيطرة على الموقف وعادت جلسة التصديق على نتيجة الانتخابات للانعقاد وواصل بعض أنصار ترامب الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب اعتراضهم على نتائج الولايات المتأرجحة ما جعل الجلسة تستمر ساعات طويلة، لكن في نهاية المطاف تم التصديق رسمياً على فوز بايدن بالرئاسة وكامالا هاريس بمنصب نائب الرئيس وقضي الأمر.
وبعد انتهاء محاولة الانقلاب البرلماني بكارثة محققة، أصدر ترامب بياناً عبر تويتر -من خلال حساب نائب رئيس موظفي البيت الأبيض بعد أن حظر تويتر حساب ترامب لمدة 12 ساعة بسبب تحريضه على العنف- قال فيه: "رغم أنني أرفض تماماً نتيجة الانتخابات، فإنه سوف يكون هناك انتقال منظم للسلطة في 20 يناير/كانون الثاني. كما قلت دائماً إننا سنواصل قتالنا لضمان أن الأصوات القانونية فقط هي التي يتم احتسابها. وبينما يمثل هذا (لا أحد يمكنه الجزم بما يقصده ترامب بكلمة هذا في السياق) نهاية أعظم فترة أولى في تاريخ الرئاسة، إلا أنها فقط بداية معركتنا لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
هل كان ترامب يتوقع فعلاً أن ينجح الانقلاب؟
لا شك أن محاولة الوقوف على ما كان يسعى ترامب إلى تحقيقه من وراء دعوة أنصاره للتظاهر في هذا اليوم والتوجه إلى مقر الكونغرس، ستظل أمراً محيراً للمحللين والمراقبين لفترة طويلة قادمة، لكن الشيء الآخر المؤكد هو أن الأيام المتبقية من رئاسة ترامب قد تشهد أي شيء وفي أي اتجاه، بعد أن أظهرت أحداق اقتحام الكونغرس الأمريكي أن الرجل وصل إلى مرحلة تامة من الانفصال عن الواقع.
محاولة فهم الدافع وراء ذلك المشهد الفوضوي الذي يمكن القول إن ترامب كان يجهز له منذ حتى قبل يوم الانتخابات 3 نوفمبر/تشرين الثاني، بحسب كل ما بدر عنه من تصريحات تتعلق بتزوير الانتخابات دون وجود دليل واحد يدعم مزاعمه، لا يمكن أن تستبعد طبيعة شخصية الرجل التي حذر منها الكثيرون منذ ظهوره على ساحة السياسة الأمريكية وإعلانه الترشح للرئاسة عام 2015.
فالسمة الأساسية لشخصية ترامب هي النرجسية وهذه الطبيعة بالتحديد حذر منها عالم النفس والمؤلف الأمريكي جون غارتنر قبل ثلاثة سنوات عندما طالب بحتمية عزل ترامب لأنه "غير قادر من الناحية النفسية على تأدية مهامه كرئيس للبلاد"، ونشر الطبيب الذي كان يدرس في جامعة جونز هوبكنز عريضة بهذا المعنى وقع عليها آلاف الأمريكيين وقتها.
فالنرجسية المعقولة أو الحميدة كما يسميها غارتنر صفة مطلوبة للزعماء والقادة والسياسيين الملهمين، لكنها أي النرجسية عملة ذات وجهين، وجهها الآخر أو السيئ تصيب صاحبها بعدم الثقة بالجميع والإحساس المفرط بالأهمية الذاتية ورفض أي شكل من أشكال النصيحة أو المعارضة أو النقد من أي شخص.
ومن هذا المنطلق يمكن تفسير تصرفات ترامب في الشهرين الماضيين وصولاً إلى كارثة اقتحام الكونغرس التي تمثل أحلك لحظات الديمقراطية الأمريكية على الإطلاق، إذ بدأ كثير من قادة الحزب الجمهوري في الابتعاد عن ترامب رويداً رويداً، حتى صار الحديث الآن في أوساط بعض الجمهوريين في الكونغرس وخارجه يدور حول كيفية التخلص من ترامب ولو بتفعيل المادة 25 من الدستور التي تنص على إمكانية عزل الرئيس بسبب عدم قدرته على تأدية مهامه ويحل محله نائب الرئيس في الأيام القليلة المتبقية من الرئاسة.
فقد كشف تقرير لموقع Axiosالأمريكي أنه في الأيام الأخيرة أصيب عدد كبير من أقرب المقربين لترامب بالإحباط واليأس لعدم قدرتهم على إثناء ترامب عن تغريداته وتصريحاته الموجهة لأنصاره بشأن تزوير الانتخابات وحتمية "القتال" لمنع سرقة الانتخابات التي فاز بها بشكل ساحق كما يزعم.
فبحسب التقرير، أصبح ترامب منعزلاً تماماً عن بعض مستشاريه ومن يلتقيهم من البعض الآخر لا يعطيهم الفرصة للحديث بل يتكلم هو دون توقف مردداً نفس المزاعم وطالبا منهم البحث عن أي وسيلة حتى يبقى في البيت الأبيض لفترة ثانية. لا يريد أن يسمع أحداً يقول إنه خسر الانتخابات لصالح بايدن، أو أن بنس لا يملك صلاحية قلب النتيجة لصالح ترامب أو أنه (ترامب) يجب أن يساعد الحزب الجمهوري بدلا من الإضرار به أو أنه يجب أن يقول لمناصريه أن يتوقفوا عن الاشتباك مع رجال الأمن بعد اقتحام الكونغرس.
وعلى الرغم من أن بيان ترامب الذي قال فيه إنه سيكون هناك "انتقال منظم للسلطة يوم 20 يناير/كانون الثاني"، وهذه موافقة ضمنية على أن يغادر البيت الأبيض ويفسح المجال للرئيس المنتخب جو بايدن، إلا أن إصرار ترامب على أن الانتخابات سرقت منه وأن فترته الأولى هي "الأعظم في تاريخ الرئاسة" وأن هذه اللحظة هي بداية المعركة من أجل جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى يؤكد أمرين رئيسيين.
الأمر الأول هو أن نرجسية ترامب كانت ولا تزال الدافع الرئيسي وراء جميع ما يقوله ويفعله منذ خسارته الانتخابات، وصحيح أن هناك من يؤيده ويصدق كلامه بين مستشاريه وأنصاره لكن صحيح أيضاً أن كثيراً من المحيطين به ومن قادة الحزب الجمهوري قد فاض بهم الكيل أخيراً وبدأوا ينفضون من حوله، خصوصاً بعد كارثة اقتحام مبنى الكونغرس.
الأمر الثاني هو أن الأيام الثلاثة عشر المتبقية من رئاسة ترامب قد تشهد مزيد من الانشقاقات داخل الحزب الجمهوري من ناحية، وعلى الأرجح سيستغلها ترامب للتجهيز لساحة المعركة القادمة بعد أن سلم ضمنيا بانتهاء المعركة الحالية واكتمال "سرقة الانتخابات" منه بنجاح كما يقول ويصدق بالفعل.